ماذا تعني «قع رجال» في هذه البلاد؟ الجواب: «أن تشتحط»، أن تقطع علاقتك بالروح الساخرة والمرحة، وفي أحيان كثيرة: أن تكون قادراً على الافتراء والنهب، والعبوس في وجه كل من تلتقي به، وهذه طريقة سهلة، لا تكلف شيئاً، إنها تجعل من كل «مدبر ومنحوس» رجال. هل لدينا علاقة سيئة بالبهجة، والجواب في تقديري: «نعم»، ويمكن القول أنها عدائية، وهذا أمر مؤسف في كل الأحوال، تقول للرجل نكتة، فيعبس في وجهك، ويبدأ البحث عن المغزى السياسي وراء مجموعة من المحششين أرادو إقامة ندوة أدبية بعنوان «نجيب محفوظ، أو ما نجيبوش».
في أغلب مناطق هذه البلاد لا بد من التوقف عن ما يشي بفرحتك وسعادتك، وحتى «تقع رجال» لا بد أن تكون متوتراً وقلقاً على الدوام. والنصيحة الأثيرة التي كانت جدتي تكررها لي وأنا في الطريق إلى مناسبة اجتماعية: «ها انتبه لا تضحك، وخليك رجال»، وكان أول شيئ يطلبه منك الرجل الذي يقف خلف الكاميرا الفوتوغرافية الوحيدة في القرية هو: «بتِّم»، يعني إغلق شفتيك، والعالم يبتسم للكاميرا لا العكس، أحياناً كان مصور القرية يطلب شيئاً إضافياً: «إضرب سلام». يقصد أرفع التحية أمام الكاميرا، وهذا شيئ طبيعي في بلد لم يحكمه سوى العسكر منذ نصف قرن.
التقاليد التي تجعل من إشاعة البهجة والمرح فعلاً معيباً لا تزال سارية عند الكثير من «الشاحطين»، والذين بدؤوا يتخففون منها، وجدوا أنفسهم مشغولين بالكيد السياسي، و»المضاربة السياسية»، وفي الغالب لا يوجد ما يستدعي كل ذلك.
الرجل الذي يعود من جلسة قات قضى أغلبها في الحديث عن خصومه وأنصاره السياسيين، سيكون مرهقاً، ولديه الاستعداد لتذكر كل مآسي الناس الذين نالوا منه ومن أحلامه، وعندما يخطو داخل منزله، سيكون جاهزاً للانفجار في وجه أول من يستقبله، وفي الغالب ستكون أم العيال، ولا يهم في تلك اللحظة الأسباب، فكل شيئ يمكن أن يتحول إلى سبب.
لدينا من الأسباب ما يكفي لنبدو بائسين ومتعبين، والقارئ لديه من الأسباب ما يكفي، ومن الجور مضاعفة ذلك بدواعي «الشحطة»، ولزوم «المرجلة».
هناك أشياء في هذه الحياة لا علاقة لها بالسياسة ونكدها، ولا العادات الرديئة وجاهليتها، ثمة أشياء أخرى قد تجلب الفرح، وتأتي بالبهجة، لا تأتي دائماً من خارج المرء فقط وإنما تنبع من داخله، وفي العادة فإن الفرح الصافي طليق ومتحرر وقادر على العدوى.
التحديات التي تنتظر اليمني كثيرة، بعضها على الأبواب، وأغلبها «متربعة وسط الديوان»، لكن التحدي الحقيقي هو مع المرأ نفسه، مع قدرته على أن يمنح المحيطين به قدراً من البهجة والمرح، ولو بزيارة حديقة و«النط على الحبل».
هذه أشياء لا علاقة لها بوجع السياسة، لكنها في الوقت نفسه تمثل وسيلة مجدية لمقاومة مصادر البؤس والتعب المكتوبين على اليمني، ثم أنه لا يمكن توقع أفكار جيدة للحياة وللمستقبل من رجال يمتهنون تنكيد حياة الناس ومصادرة حقهم في الفرح والتفاؤل.
أعرف أن رائحة الموت تجول في المكان، وأن الحزن في مساءات كثيرة خلع بعض القلوب، وبعض أبواب البيوت، مع ذلك الحياة لم تتوقف، وليست مرتبطة بالرجال المتجهمين على الدوام و«الشاحطين» جداً، هذه البلاد لا ينقصها أمثال هؤلاء.
هل نستطيع أن نتريث قليلاً، وننتبه أن ثمة حياة تستحق أن نعيشها بطريقة مختلفة، قد لا تكون جيدة عند البعض لكنها مختلفة، ولا علاقة لها بالسياسة، وهذا كل ما في الأمر.
تقول مستغانمي: «لا تغادروا حلبة الرقص حتى لا تغادركم الحياة».، ومرة أخرى: هذا الشيئ لا علاقة له برقص الرئيس السابق، ولا بالثعابين أيضاً.