إلى ذاكرة البهجة في اليمن: المزينون والأخدام الذين زينوا حياتنا وأثثوها بالفرح لتصح حياتنا المكتومة: «حين يرقص الناس، تنمو حاصلات الطعام بوفرة ، فإذا قعدوا عن الرقص ترتب على ذلك بالضرورة نقص في المحصول ، وقلة في المرح ، وندرة في سائر الأشياء ، وترتب عليه باختصار مجاعة وتعاسة» معتقد عند قبائل إفريقيا سجله عالم الفلكلور الكسندر كراب.. لا أخطر من مجاعة الروح عندما ينهب تحليقها في فضاءات الفرح والبهجة .. زادها الدندنة والغناء وصوت الطبول ، وإيقاعات الطبيعة ، بمعنى الرقص. والرقص غريزة لدى الكائنات الحية ، لأن طبيعتها الحركة والحركة إيقاع والإيقاع الأول كان لرقص الطبيعة : حركة النباتات ، خرير الماء طيران الطيور ، حركات الحيوان ..الخ. حركات الطفل في بطن أمه استجابته للحالة النفسية للأم ، وأثبتت الدراسات العلمية أن الجنين يستجيب للموسيقى ، وحتى الكائنات النباتية تهتز وتتمايل لصوت الموسيقى . ومنذ خروج الطفل إلى العالم الخارجي ، تحتفل الأم بترقيصه عبر الهدهدات ، فكم رقصته عندما بدأ يحبو، وعند نطقه للكلمات ، وعند ظهور أول .. الخ .. فالرقص ملازم للإنسان من مهده إلى لحده. منذ فجر التاريخ عبر الإنسان عن وجوده الاجتماعي بالرقص أكان في المجتمعات البدائية المتوحشة ، أو انتقاله إلى أطوار التحضر ، عبر عن كل احتياجاته ، فرحه ، انتصاراته ، حزنه ، بالرقص ، فقد رقص الإنسان الأول تقرباً واسترضاءً للإلهة مانحة إياه الخير والأمان ، والخصوبة ، ودافعة عنه غضب الطبيعة والأرواح الشريرة ، ومن هنا نشأ الرقص الديني أو الرقص المرتبط بالطقوس ، فالأديان القديمة قدست الرقص ، وقد أثبتت شواهد التاريخ رقص الإنسان محفوراً على الجدران والكهوف. ومن يقرأ في أدبيات المتصوفة يجد العديد من الرقصات ، ولعل أشهر تلك الرقصات المولوية التي ابتدعها المتصوف صاحب الشهرة العالمية جلال الدين الرومي .. إذ قال «من يدري قدرات الرقص يفنى في الذات ، لأنه يدري كيف يمكن أن يؤدي الرقص إلى الفناء» نستنتج أن الرقص حالة غريزية في الإنسان، ويؤدي وظائف اجتماعية ، ودينية عند الشعوب. يختلف الرقص من مجتمع إلى آخر ، بل وفي المجتمع الواحد كبلادنا فكل نطاق جغرافي ضيق ، نجد فيه عشرات الرقصات المختلفة ، ولأن اليمن لها جغرافيا مميزة تضاريس ومناخات يختلف الجبلي عن السهلي ، عن الصحراوي ، والساحلي ، فقد كان التنوع والثراء في الثقافة وأهمها الرقص والغناء .. الخ. فنجد رقصات البدو تختلف عن رقصات الحضر ، ورقصات الرجال تختلف عن رقصات النساء ، رقص الموالد والحضرات عند مقامات المتصوفين ورقصات الزار تختلف عنها في الأعراس ، والمناسبات الاجتماعية ،(مع وجود الرقصات المشتركة بين النساء والرجال) رقصات الحرب ، تشترك ، وتختلف مع رقصات السلم . الرقص لغة للتآلف، والتسامح والتعايش بين البشر ، فكم رأينا رقصات لبلدان يدخل فيها حلبات الرقص من كل الأجناس ، والفئات ، ويكفي عندنا نحن في اليمن ، برغم التراتبية القاسية في المجتمع ، وبالرغم من النظرة الدونية للرقص، وممتهنيه ، لكن في حلبة الرقص كالبرع والشرح ، تذوب التراتبية ، ويصبح كل من في الحلبة ولا يشعر بغير طعم الموسيقى وخدرها اللذيذ الذي يعانق السحاب. نخرج إلى أن الرقص يؤدي وظيفة اجتماعية دينية ، ووجودية عند الشعوب وتختلف هذه الوظيفة بحسب المناخ والظروف الجغرافية والمزاج .. والظروف الاجتماعية .. فكل عصر له رقصاته الخاصة المرتبطة بالحاجة والمطلب الاجتماعي .. فكما وجد الرقص للتقرب إلى الآلهة .. كان الرقص أيضا يفرح الناس عندما يكون الحصاد وفيرا وعندما يكون الصيد كثيراً ، وذاك لأنه حقق نصراً عظيماً على عدو طاغ، وآخر يرقص لأنه شفي من مرض أو علة ما.. بل ويقال في هذا الصدد: إن الرومان استأجروا راقصتين من «ابروريا» القديمة في القرن الرابع قبل الميلاد ليطردوا عنها وباء الطاعون وكثيراً ما يتداخل الدين بالسحر عبر الكثير من الممارسات الشعبية كالمعتقدات الشعبية ويتجلى هذا برقصات مثل الرقصات التي تؤدي بالزار ورقصات السيف أثناء مراسيم الزواج .. التي يراد منها طرد الأرواح الشريرة . ولا ننسى عادة ارتداء أقنعة وجلود الحيوانات في المناسبات العديدة مثل«أمير العيد» التي يؤدى طقسها في مناطق عديدة من اليمن، والعديد من الرقصات التي تؤدي كأنها في صراع مع الحيوان، مثل هذه الرقصات تستهدف كما قال احد علماء الفلكلور وبحسب منطق السحر التقليدي إلى اجتذاب الحيوان المراد اقتناصه. ولقد استطاعت الأدلة العلمية أن تكشف الستار عن ما للرقص من قدرات على شفاء المرضى من عللهم .. فأجريت الدراسات العلمية على قبائل الازناديون في وسط أفريقيا لمعرفة الرقصات التي تشفي المريض .. مثله مثل العلاج بالموسيقى . أخيراً: يرتبط الرقص بالغناء والآلات الموسيقية لكن هناك رقصات تؤدي بدون هذه الأشياء وتعتمد على الإيقاع الداخلي مع التصفيق بالأيدي وكذلك الهمهمات التي يصدرها الراقصون ويوجد هناك نوعان من الرقص رقص فردي ورقص جماعي ورقص بطيء ورقص بإيقاعات وحركات عنيفة تصل إلى حد الهستيريا كما في رقصة «نعشة البقارة» في حضرموت. [email protected]