قراءة في أحوال تراث اليمن لا يختلف اثنان على أن اليمن تمتلك مخزوناً هائلاً وثرياً متنوعاً من كنوز التراث الثقافي الإنساني في كل أشكال التراث المادي واللامادي ، ورغم ذلك فإنها لا تعير التفاتاً لليوم العالمي للتراث الذي يصادف 18أبريل من كل عام وتحتفل به . في الوقت الذي تسارع فيه الدول والمنظمات الشعبية والجماهيرية في العالم ، للاحتفاء بهذا اليوم ، بل وفي كل يوم لعرض تراثها والتعريف به ، لتوسيع قاعدة المشترك الذي يتسع كل الأطياف . ولعل دول الخليج تشكل نموذجاً في هذا المنحى ، فهي تحتفل بهذا اليوم وتدعي المهتمين والمشاركين وتصرف الملايين من أجل توثيق تراثها ، ونشره في المحافل الدولية ، وتعمل على إيفاد الباحثين والمهتمين لمراكز التراث الحضاري في العالم للدراسة وتعلم الجديد في هذا المجال ، وتقيم العديد من الفعاليات والمهرجانات الضخمة ، وتستدعي الكثير من المتخصصين . وفي اليمن لا يكاد هذا اليوم 18أبريل ، يعرف ، حتى بالنسبة للمثقفين والمهتمين – ذلك لأن معرفتنا بتراثنا فقيرة للغاية ، إن لم تكن غائبة . متاحف اليمن : تدمير ، نهب منظم ، قوارض آدمية وحيوانية .. فالتراث الحضاري واللامادي في بلادنا مهمل ، ويستفحل الإهمال من سنة لأخرى ، ولا يكاد هذا التراث يذكر في أجندة الحكومة بمؤسساتها المختلفة ، فلا متاحف جديدة تنشأ ، أو في طور الإنشاء ، وماهو موجود عرضة للاندثار والإغلاق ، كما هو حال العديد من المتاحف التي أغلقت ، مثل : متحف التراث الشعبي في أمانة العاصمة الذي أفرغت محتوياته بالنهب المنظم ، والمتبقي منها مرمياً في "بدروم " المتحف ( سابقا ) ، لتفترسه القوارض ، والأشد خطورة القوارض الآدمية .. وهاهو " المتحف "يدخل عامه السابع ، وهو مغلق بحجة الترميم ، الذي لم ينته حتى اللحظة . حرب 1994 : طغيان صوت الأيدلوجية .. استباحة مجانية للذاكرة ولا ننسى ، أيضاً ، ما تعرضت له متاحف مدينة عدن ، من نهب وسلب في حرب 1994م ، ومؤخراً حادثة السرقة الكبيرة للمسكوكات النقدية التي لا تقدر بثمن . ولا تنتهي القائمة حيث لم تقتصر عوامل الإتلاف والنهب المنظم على المتاحف بقدر ما طاولت المساجد التي أفرغت من محتوياتها ، كالمخطوطات وغيرها . إن هذه الاستباحة المجانية العابثة لذاكرة البلاد ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ، في ظل ثقافة اللامبالاة الغرائبية ، من كل الأطراف ، وأهمها مؤسسات الدولة ، والحكومة بدرجة أساسية . "عكفة " تتسيد ذاكرة المتاحف والفنون لقد تحولت ذاكرة البلاد إلى سلعة رائجة تدر الملايين على المتنفذين و. .. الخ في ظل عدم وجود قوانين حازمة تعاقب كل عابث . وعلى خلفية ذلك تسيدت متاحف البلاد ، المركزية القاتلة ل" نخبة " من ( العكفة) – القبيلي حين يتعكسر - تدير المتاحف بمزاجية واعتباط ، فهي نخبة عجيبة ، لم تكلف نفسها عناء البحث عن الجديد في عالم وعلوم المتاحف ، بقدر ما جعلت من المتاحف متنفسات للعناكب ، فحتى اللحظة ، مازالت آلاف المقتنيات ، والمخطوطات تتكدس في بدرومات المتاحف . متاحة لعبث كل من هب ودب ، من هوام آدمية وحيوانية . في الألفية الثالثة ، مازالت متاحفنا تعمل بآلية متاحف القرون الوسطى في ظلاميتها ، وبدائيتها ، وبدواتها فلا تأهيل ، سوى ما ندر ، ولا أبحاث ، ولا مجلات متخصصة تعنى بالمتاحف ، أما القدرات البشرية العاملة فيها ، فهي طاقات استنفذها الإحباط المركب .. متهالكون آلماً وفجيعة ، على ما آلت إليه كنوز اليمن من دمار . أما المتاحف الصغيرة ،المتناثرة في أصقاع اليمن ، وتعتمد على جهود فردية بحتة فتعاني الإهمال والموت السريري ، وقد تحول بعضها إلى تكايا إحباط ، وهمّ يأكل الجميع . التراث اللامادي : لا معاهد للموسيقى ، وفنانون في انتظار الجلطات والسكتة القلبية ... لا يتوقف الأمر عند المتاحف ، بل أن التراث اللامادي كالتراث الموسيقى عرضة للنهب ، والتلاشي المنظم ، فلا معاهد متخصصة ، ك ( المعهد العالي للتراث الموسيقي) أسوة بدول الجوار ، وما كان موجوداً ، رغم تواضعه ، أغلق كمعهد جميل غانم ، والذي تم افتتاحه قبل أشهر من قبل وزير الثقافة ، لكن تظل المعاناة من الإمكانيات الشحيحة سبباً يمكن أن يفضي به حتماً إلى الإغلاق نهائياً . ، وكذلك هو حال معهد التوثيق الموسيقى في العاصمة صنعاء ، الذي لا نكاد نسمع عنه شيئاً . أما ما يتعلق بالأكاديميين الذين تخرجوا من أرقى الجامعات العالمية التي تعنى بشئون الموسيقى ، والفلكلور ، فهم يشتغلون بأدنى الإمكانيات ، أو يلتزمون بأحكام الإقامة الجبرية في بيوتهم ينتظرون دورهم للانتقال إلى جوار ربهم بالجلطات والسكتات القلبية ، وحالات الاكتئاب المزمن ، وقوافل الفنانين والموسيقيين الذين يرحلون دون أن تطرف للحكومة جفن شاهدة حية على كل ما يحدث . تخريب منظم لتراث التنوع .. ولا سينما في اليمن.. في هذه المناسبة ، 18 أبريل اليوم العالمي للتراث ، وكمهتمة بالتراث ، أحمل السلطة ، وأجهزتها الحكومية ، بمؤسساتها المختلفة : وزارة الثقافة ، ووزارة السياحة ، ووزارة الإعلام ..الخ مسئولية ما يحيق بذاكرة البلاد في طول البلاد وعرضها ، من خراب وتدمير وعبث بهذه الكنوز الإنسانية " التراث المادي واللامادي " الحافل بالتنوع والتعدد ، ذلك أن السلطة هي التي حولت الشأن الثقافي ترفاً ، وأخرجته عن كونه ضرورة إنسانية ، فأحجمت عن دعمه، بل وهمشته ، حد الاستئصال ، فلم تشجعه لتجعل منه ضرورة اجتماعية ملحة : في المدرسة ، والجامعة ، والشارع ، فُسيست كل ماهو ثقافي ، وحولت موتيفات الموسيقى وأداء الرقص إلى مناسباتي ، وأفرغته من مضمونه الجمالي والوظيفي ، وأصبح الثقافي – التراثي سياسياً شعاراتياً ، ودعائياً مجانياً ، وزادت الأمور سوءاً بعدم مسارعتها إلى إيقاف تلك الحملات المسعورة التي اجتاحت مدن اليمن وأريافها لوأد الفنون من الرقص ، والغناء ، والمسارح , فأغلقت دور السينما برمتها في كل أصقاع اليمن ، وشاركت ، مع بالغ الأسف ، في تمويت الثقافة والفنون ، وكأن هناك قراراً سياسياً ضمنياً ، تعاقدياً مشتركاًَ بين السلطة والجماعات السلفية المتطرفة والقبائلية التي اجتمعت وتوحدت على تقتيل كل أشكال الفن والثقافة والتراث ، وأهمها الإنسان المبدع لها ، فاختفى الغناء ، والرقص ، والأزياء ، والكرنفالات ، والموالد وحلقات التصوف ، ..الخ ، وما يمارس منها في نطاق ضيق أو في حفلات الأعياد الوطنية ، وجعلت من منظومة الإنشاد الديني وحده ، هو لسان حال الثقافة والتراث ، والحياة في اليمن . أسلمة الفنون ، صوت الإنشاد الجنائزي هو الصوت الطاغي في الفرح والمأتم .. هذا الاستئصال السافر، لم يقض على أشكال التراث ، بل قضى على إنسانية الإنسان ، وحوله إلى كائن مكتوم ، لا يتنفس ، وقضى على التنوع في الفنون المختلفة في مناطق اليمن . في هذا السياق انتعشت الإيديولوجيات ، والهويات المتقاتلة ، واختزل التعدد إلى لون أحادي مارشوي اسلاموي ، فأسلمت كل الفنون ، بل ومنع كل تطريب . الأفغنة .. وتجريم الفنون والفلكلور وتبعاً لذلك طفحت أعراض الأفغنة في المدارس والجامعات ، والأعلام ، والشارع والمراكز .. الخ ، وتحولت المتنفسات إلى ثكنات ملغومة تمنع الفنون ، وتشجع وتدعم اللون الواحد .. فعروض الأزياء ، والغناء أنيطت بأطفال صغار بالكاد يتهجون مخارج الألفاظ ، وكأنما عار على المرأة البالغة أن تؤدي وصلة غنائية ، أو عرض لزي شعبي . في هذه المذبحة ، تم إقصاء الفنانات ، والراقصات ، والإستعراضيات ، وجرمتهن بأوزار العيب والفتوى ، ولم يتبق من الجيل الأول سوى فنانة أو اثنتان ، من الفرق الوطنية الشعبية للفنون ، تتباهى بها مؤسسات الدولة لتقديم العروض الفنية في الخارج بهدف الترويج السياحي ، أما الترويج في الداخل ، فهو ممنوع ومحرم ، ليس هذا فحسب ، بل صرن أولئك الفنانات يتعرضن لهضم حقوقهن في المؤسسات التي يعملن بها . أختفاء صوت النساء لقد أصبحت ثقافة الضجيج السياسي المأتم هي التي تطبع حالنا وأحوالنا في الريف والمدينة ، بسبب سياسية المنع والتجريم ، فمنعت أغاني ومهاجل الزراعة ، والبناء ، والمواويل ، وخصوصاً صوت النساء في الجبال والوديان ، ولم يعد يمارس منها إلا أقل القليل ، وعلى أضيق نطاق . صناعة العيب والفتوى : جامعة الإيمان تحكم إيقاع الحياة في اليمن لقد تعممت صناعة العيب سياسياً واجتماعياً واستقوت هذه الصناعة بالفتوى ضمن عملية تدنيس وحجب واسعة لثقافتنا الفلكلورية ، التي انهالت عليها معاول التكفير والتفسيق ، وبذا تشعبت وتجددت صناعة الفتوى ، وأصبح تراثنا ومتنفسنا ، بين فكين خانقين : مارش وطني دعائي ، ومارش فتووي – ديني ، فضاع جمال التراث الإنساني ، وإشعاعات البهجة والفرح كمولدة لطاقات الإنسان ، وجرى منح الامتيازات للفتوى ، في الإعلام المحلي ، وأصبح كل ما تقوله " جامعة الإيمان " بمشايخها ودعاتها القدماء والجدد هو الصوت الطاغي في اليمن ، والصوت الذي يراد له أن يتحكم بكامل إيقاع حياتنا ، في كل بقعة من الأرض اليمنية ريفاً وحضراً فقد حرمت الصورة ، الحركة ، الصوت ، الإيقاع ، وتفجر المجتمع بعدوانيات مختلفة تصل إلى الدموية ، ويحدث ذلك ببساطة لأنه لا يتنفس ، والمجتمع الذي لا يتنفس يأكل بعضه ، ويأكل الآخر في طريقه . بأسم يوم التراث العالمي 18 أبريل : رد الاعتبار للبهجة.. لرقصات " رنين الحجول " المرأة " .. في هذا اليوم العالمي للتراث 18 ابريل والمقر من قبل منظمة اليونسكو ، نحمل السلطة التي تهاونت في حماية التراث الحضاري ، والشعبي ، ودعمه وتشجيعه ، وصناعته – أيضاً ، المسئولين عن هذا الذي يحدث ، ولا نملك في هذا اليوم العالمي ، إلا أن نرفع صوتنا عالياً باسم الإنسان المبدع للتراث ، وإيقاعاته ، وتنوعه ، وتعدد أشكاله في الريف والمدينة ، وللطوائف المختلفة في الجنس ، والشكل واللون ، والدين ، للبدو والحضر .. مطالبين برد الاعتبار للإنسان اليمني ، لأن يتنفس بطلاقة ، في فضاء مفتوح عامر بالبهجة والمحبة ، رد الاعتبار للحياة المدنية في اليمن ، لدولة المؤسسات والقانون ، رد الاعتبار ، للثقافة ، والفن ، والمسرح ، والرقص ، والغناء ، والبهجة ، الكرنفالات المتنوعة ، الفكر ، والحركة ، والموسيقى ، وأخيراً رد الاعتبار للمرأة مبدعة أشكال التراث ، وحاميته ، أن تصنع لوحة اليمن بجانب أخيها الفنان ، وجه اليمن المشرق ، الذي لن يكون إلا بالفن والثقافة ، برقصات رنين الحجول . المراسلة : خطوة أولى لحماية تراثنا الشعبي ، اجمع ودون ما تستطيع جمعه من تراث ، وأرسله إلى بيت الموروث الشعبي ، صنعاء ، باب البلقة ، ص،ب: 33081، فاكس / ، 482178 أو الموقع : yemenifolklore.org [email protected]