إن امرأة تضع على رأسها «المشقر» أجدر بالاحترام من رجل يعلق على كتفيه الكلاشينكوف.. هي تحتفي بالحياة ومباهجها، وهو يحتفي بالقتل ويحمل أحد أدواته. لا أسهل من المقارنة بين ضدين، لكن في بعض هذه البلاد، هنا عند القبائل، تتبدى في الحياة اليمنية واحدة من أسوأ الطباع التقليدية لرجل القبيلة الذي لا يجد في المشقر والكاذي سوى أشياء نسائية دونية، لا علاقة لها بالرجل «الشاحط والعسر». مر وقت طويل منذ ساءت العلاقة بين رجال البنادق وحاملات المشاقر، ثمة فجور في العلاقة التي تربط أدوات الجمال والبهجة برجال القبائل والحكم عندنا، حتى وإن كانوا يقتنون زجاجات عطر أنيقة، أو يمرون بجولة سبأ مثلاً والتظاهر بشراء عقد فل، لا أستطيع التصديق إن هؤلاء الرجال ببنادقهم و«نخيطهم» قادرين على الاندماج مع أشياء عذبة وفواحة بينها الفل والكاذي.
يقولون الأوطان تشبه النساء إلى حد كبير، وبعضهم يقول إن النساء بطريقة أو بأخرى يُفتنّ بالبدلة العسكرية، وذات مرة قالت امرأة روسية وهي تنظر في وجه الجلاد ستالين يمر بموكبه القوي مرتدياً بدلته العسكرية: «لقد شعرت أنني حملت منه»!
في الحقيقة لا نستطيع أن نقول إن هذا الوطن مفتون بالبدلة العسكرية أو شال القبيلي، بل مبتلى بهما، وفي الحقيقة أيضاً لا يمكن التفريق هنا بين القبيلي والعسكري، لا يوجد شيخ في هذه البلاد لا يحمل رتبه عسكرية، لكن الذي يجمع بينهما أكثر من البيادة والشال، أن لا أحد يتوقع منهما الافتتان بامرأة، أو الولع بمشقر ندي، أو البكاء في لحظة عشق صادقة وصافية.
عندي اعتقاد أن الرجل الذي لا يقع في هوى امرأة ولا يعجب بمشقرها أو يفتن بعطرها، لا يمكن الوثوق به أبداً، وبالريبة نفسها لا يمكن تسليمه مقاليد قبيلة أو دولة، وإذا صارت واحدة في يديه فالعلاقة تتحول إلى ما يشبه مقولة القبائل عندنا «المرة هي إلا وعاء» وبالكيفية نفسها يتحول الوطن إلى دكان ومجرد وعاء للرزق.
تركيبة رجال الحكم والعسكر تعودت على البارود و«مشع الجنابي»، ولم تتعود على «شك» الفل، أو التمشقر بوردة، والأمر لا يحتاج «فلسفة زيادة»، لكنه بطريقة أو بأخرى يفسر لنا جزءاً من هذا الوباء الذي يدمر كل قيم الجمال في هذا البلد، ويلغيها لحساب أشياء أخرى لعينة، مثلاً: بدلاً من أن نستقيد من مضاعفة تصدير الفل للجارة السعودية الذي تزيد حجم تجارته معها بحسب احصائيات سابقة عن 45 مليون ريال سعودي، يهتم الشياطين في تنظيم القاعدة بتصدير أشياء أخرى من اليمن: طرود ملغومة، والنتيجة أن الاشتباه طال كل ما هو قادم من اليمن: بني آدميين أو أجهزة إلكترونية أو حتى حلبة، والذي يجمع بين ذكر القصتين أن بعض مناطق هذه البلاد نفد لديها المخزون الفطري للمحبة، والميل للمشاقر، وبسبب من ذلك وصل بنا الحال إلى هذا المستوى.
لا أدري منذ متى تدهورت علاقتنا بأغصان الشذاب والكاذي، وقيم الحب والجمال والتسامح، فمراجع التاريخ تتحدث عن مملكة سبأ بوصفها كانت مشهورة بتجارة الفل والبخور والعطور، كنا إذن نتجمل ونتزين، والقبائل في وقتها، لم تكن بالتأكيد على هذا القدر من الجمود والتخلف.
الأمر لا يتعلق بالمشقر والكاذي تحديداً، بل بذائقة رجال القبائل وميلهم إلى أخد الحياة دائماً على محمل العنف والمواجهة، حتى وإن كان هذا الجد يعني لهم الازدراء من كل ما هو جميل ومرتب، كأننا دائماً على عجل، أو ذاهبون إلى حرب أو آخذين بثأر.
حتى في أشد الأيام شراسة كان المحارب والعاشق نابليون يكتب خطابات لزوجته من ساحة المعركة لا تزيد عن جملة واحدة: «جوزفين لا تستحمي.. إني قادم بعد ثلاثة أيام»، كان في نهاية المطاف يشتاق إلى عطره السري والخاص جداً، رغم كل روائح البارود والدم التي تحيط به.
أحن إلى صنعاء فأرى وجوه أصدقائي ومجالس القات وبائعي الفل في الجولات والشوارع، ويخطر على بالي سؤال: كيف يدور الحوار بين بائع الفل و«مبندقين» على سيارة جيب؟ والسؤال الواقعي: هل هناك استعداد لمن يعلق البندقية على كتفه أن يعلق عنقود فل على رقبته؟
إجابة السؤال الثاني تضعنا على امكانية طرح السؤال الأول، ففي الأغلب لا يفكر مرافق الشيخ أو تاجر السلاح، وأغلب العسكر بشراء عنقود فل أو وردة يفاجئ بها زوجته في البيت عندما يعود إليها في آخر النهار، في الواقع فإن أفكار عشقية وفرائحية من هذا النوع لا مكان لها أبداً في عقلية أولئك النوع من الرجال، ذاكرتهم المشحونة بتاريخ الرصاص والقتل، وملازمتهم المستمرة لهذه الآلة القاتلة، تجعلهم بعيدين جداً عن هذا الترف «حق النسوان».
أقول دائماً إن أبرز مشاكلنا نحن اليمنيين أننا في أغلب سلوكياتنا تجاه الآخر على علاقة سيئة بكل ما يدخل الفرح إلى القلوب، ويبعث الطمأنينة في نفوس من هم حولنا، وهم أهلنا وأبناء قريتنا أو مدينتنا، ويستطيع القارئ ان يستحضر الأمثلة من كل مكان أو يقرأ الصحف أو يراجع تاريخ الحركات الدينية أوالسياسية والقبلية في هذا البلد.
الورد والفل أقل تكلفة من الرصاص والسلاح، وبكلمة واحدة: نحتاج إلى الحب وبشدة، وإلى أدواته ووسائل التعبير عنه، إلى هذه الأشياء الرائعة التي تلطف الأجواء الملغومة والنكدة من حولنا، وبغير ذلك ستظل الأولولية للطرود الملغومة والمفخخة سواء والقاعدة ترسلها إلى خارج الحدود، أو يتبادلها الفرقاء السياسيون هنا أو هناك بطرق لا تقل عنفاً وتدميراً عن آلات الفتك القاتلة.
.. من قصيدة مغناة للفنان محمد مرشد ناجي: جوّب الفل قال: الفن لي والتفنان نشوتي ليل داني مسكني في خدود البيض من جنبالاذان يشهدوا لي الغواني.