أعظم هدية تصل إليك ممن تحب هي زجاجة عِطر ، مليانة طبعاً مُش فارغة. تاجر العِطر يحتاج لأمة مشغولة بالحُب حتى يبيع ما لديه وينط إلى خانة المليونيرات.. عكس تُجار السلاح، الواحد منهم يستطيع في ظرف حرب لمدة اسبوع واحد فقط يصبح مليونيراً على سن ورمح.
زرت سوق «خميس بني قيس» في محافظة حجة قبل أعوام..كان السوق مزدحماً بالبضائع من كل صنف من كوفية العروسة التهامية إلى ذخيرة الإربيجي!
ومن الجمال إلى سيارات اللاندكروزر المستعملة.ومن عسل النحل إلى زيت الحبة السوداء والسليط الحارق.
في إحدى جنبات السوق شدني النظر الى رجل «تهامي» نحيل ويبدو بزيه الابيض كمن عاد للتو من الإحرام ويجلس إلى جوار بسطته المفروشة وفوقها مجموعة من قناني العِطر الخام وأقراص البخور والعنبر والزبد والكاذي والمشموم وإلى جواره بالضبط يجلس رجل آخر مبندق وطيب، لكنه لا يبيع الطيب ابداً؛ بل يبيع أسلحة..رصاصاً حارقاً خارقاً وبنادق كلاشينكوف كانت مرصوصة بعناية وتلمع «كمان».
كان التهامي الناحل بسحنته السمراء يصرخ تحت الشمس للزبائن مروجاً لبضاعته: - أمفُل، أمئطِر، أمبخور..
وكان الآخر جالساً كالملك تحت خيمة كاكية اللون وكبيرة . لم يكن يصرخ مروجاً لبضاعته إطلاقاً.. كان الناس هم الذين يذهبون اليه حتى ضننته يبيع السعادة كُلها بقرشين أو ربما بلاش.
في حين كان التهامي يواصل صراخه: - امفل، امئطر، امكاذي.. ولا من يقل ربي الله. انها المفارقة التي تفطر القلب والرئتين معاً.
كان أول استخدام للعطور في الطقوس الدينية.عندما استخدمه قدماء المصريون لتحنيط الموتى.
وفي اليونان استخدم العطر للاغتسال به اساساً، حتى أصدرت الكنيسة قراراً لا يسمح لغير النساء والحلاقين بشراء العطور خوفاً من انعدامها.
لا أجد مبرراً يجعلهم يخافون انعدام العطر، إلاَّ إذا كانت الروائح الموجودة في أجواء مطار (أثينا) قديماً تشبه على نحو ما تلك الروائح الموجودة حالياً في أجواء مطار صنعاء الدولي !
دعوني أسأل أحدكم الآن: آخر مرة اشتريت فيها زجاجة عطر متى كانت ؟
قليلون جداً من سيقولون أمس أو حتى قبل شهر. فيما لو سألت الآن متى آخر مرة سمعت فيها صوت قارح رصاص؟ سيرد أغلبكم (الآن أهه .. قبل شوية).
إنني على قناعة بأن بائعي الورد والفُل وقناني العِطر هم من يمتلكون قدرة تغيير حياتنا المغُبِّرة هذه، هم وحدهم قادرون على قلب تاريخ أفكارنا النتنة ،ذلك لأنهم يشعلون أرواحنا حُبّاً، وأفكارنا يملأونها طيباً.
ربما لهذا السبب أبدو معجباً ب«محمود سعيد» أشهر رأسمال يمني في المملكة.
لقد استطاع «محمود سعيد» أن يعيد لقوافل رحلة الشتاء والصيف سيرتها العطرة.إنه بالفعل إمبراطور في زجاجة عِطر.