(1) يوم انفجرت الثورة الإيرانية، التي خطفها الملالي، كانت ثوريتهم أمام أول اختبار عصري يمكن من خلاله أن تتجسد قيم وأخلاق المذهب الشيعي المخطوف يومها من قبل أرباب المصالح المتناقضة تماماً مع أدبيات ومبادئ المذهب.
ببداهته، التي اخترعت فكرة الولي الفقيه وضربت عرض الحائط مبادئ المذهب الشيعي، أدرك الخميني أن اشتراكيي إيران متمثلون في «مجاهدي خلق» المسكونين بفكرة ثورة «البلوريتاريا» سينطلقون في الصفوف الأولى للثورة، ومن خلفهم الإيرانيون الباحثون اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى عمن يتقدّمهم بتلك الشجاعة في مواجهة نظام قدمهم للعالم بشكل سيّئ لا يليق بحجم حضارتهم عبر تمول الموت في أرجاء متفرِّقة من العالم على حساب قوت أطفالهم.
استقطب الخميني أبرز وجوه اشتراكيي إيران، فأُنجِزت الثورة، وكان الملالي يدركون ما يُعتمل في صدورهم من مكر بهؤلاء المهووسين بالبطولات من وجهة نظر أسيادهم! وما يتوجب القيام به تجاه من كانوا وقوداً لثورة التهمها «آيات الله».
هؤلاء الشجعان سيكونون بالتأكيد وقوداً للثورة القادمة؛ كونهم يعرفون أيضاً ما يريدون، وليس ثمة قاسم مشترك يمكن التوصل إليه، فمشاريع الطرفين لا يمكنها أن تلتقي مطلقاً.
أخطأ الاشتراكيون في إيران الطريق رغم إدراكهم لما يريدون، وسيحاول هؤلاء بالتأكيد التوصل إلى هدفهم المغدور، لكن أيديولوجية «الخُمس» التي تصنع من الملالي امبراطوريات توازي ثرواتها ميزانيات دول يتحول على إثرها إنسان ما إلى كائن مقدّس تتوقف على مقربة منه كافة خيارات الشعب، قطعت الطريق بقرار تصفية من كانوا وقودا للثورة، لقد تحولوا فجأة إلى خصم لدود يجب التخلّص منه، خصوصاً أن أحدهم حصد قرابة 80 % في انتخابات الرئاسة الإيرانية بتاريخ 25 يناير 1980، ليكون أول رئيس لجمهورية ما بعد الثورة.
بالرغم من أن الخميني كان يُراهن على أن تلتهم مطالب الجماهير الثورية التي لا تلتفت لتركة النظام السابق الثقيلة الرئيس الشيعي الاشتراكي القادم من خارج العباءة الدينية إلا أن توقعاته باءت بالفشل.
في 22 يونيو 1981، لم تلتهم جماهير الثورة رئيسها إنما قرر الخميني المتكئ على قداسة موهومة لا تحترم خيارات الشعب إقالة «أبو الحسن بني صدر» بتهمة التحريض على رجال الدّين!!
نجا الرجل بروحه من خلال مساعدة أصدقائه الفرنسيين، بينما سحل نظام الملالي بغطاء ديني عبر أنصار الله! أقصد عبر عناصر «الباسدران» التي شرعت في السيطرة على المرافق السياسية قبل يوم من توقيع الخميني قرار الإقالة، كافة رفاق الرئيس في شوارع طهران؛ كونهم اشتراكيين لا يؤمنون بالله!
مع أن اليمن -على سبيل المثال- لم ترسل يومها شحنات أسلحة لإجهاض الثورة الإيرانية! إلا أن فكرة البحث عن وقود - باعتبارها إحدى علل نظام «آيات الله» الذي شوه إيران – حاولت التسلل باتجاهها في وقت متأخّر.
ولكون ما جرى للاشتراكيين صاحبه تعتيم إعلامي مطبق بتواطؤ رأسمالي وخذلان سوفييتي لقاء التخلص من الشاه، فقد باتوا هدفاً تكتيكياً لاستخدامهم وقوداً لمشاريع إيران خارج حدودها، وذلك ما كان يراد لاشتراكيي اليمن، ولكن!!
(2) منذ سقوط النظام الإمامي في اليمن كانت فكرة استعادة السلطة تتلبس رؤوس جيله التالي المتميِّز يومها بالتعليم، فقد احتكر الآباء لهم المعرفة ولعامة المجتمع الجهل، ما جعلهم يحظون بمراكز قرار مهمّة في مفاصل النظام الجمهوري والسيطرة شبه التامة على القضاء الذي أصبح وكراً للفساد والأسرية، فضلاً عن الانخراط في مراكز هامة نازعتهم عليها أطراف متعددة لاسيما الإخوان والاشتراكيين والناصريين والقوى القبلية المناهضة لهم.
منحت الوحدة اليمنية هؤلاء فرصة التمدد داخل تكوينات المؤتمر الشعبي العام الذي غادره الاخوان لتأسيس حزب الإصلاح وعقب إشعال حرب صيف 94 التي أنتجت تحالفاً جديداً بين حزبي المؤتمر والإصلاح لم يصمد طويلاً لينفرط عقده في 97، ارتفعت أسهم التيار الإمامي في مفاصل المؤتمر والحكومة، وهو تيار منظم بأشكال مختلفة، أقلّها العفوية التي تقتضي التكاتف بغية الانتصار لمظلومية إسقاط حكم الآباء.
عقب 97، مُورس التضييق على كوادر الإصلاح في وظائفهم العامة وتطوّر الأمر عقب إلغاء المعاهد العلمية إلى موجة من الإقصاء، أشبهت إقصاء الاشتراكيين في 94 كتمهيد لاستقطابهم! ولم يكن أمام التيار الوطني في المؤتمر إلا أن يمارس ذات الشمولية التي يمارسها أعتى تيارات الحزب حتى لا يجد نفسه غير مرغوب فيه من قبل الزعيم المطوّق بعقلية «رجل عصابة» ينمو حوله تيار الإمامة بوتيرة غير مسبوقة. وللعلم فقد حصل أن أقصي الإرياني مثلاً من مربع القرار داخل حزب المؤتمر.
بدأ تيار الإمامة عملية استقطاب واسعة لناشطين مستقلين وحزبيين سواء إلى جانبهم في أروقة المؤتمر أو لأداء مهمّة إذكاء مخاوف المعارضة من المعارضة عبر مواقعهم الحزبية، لكن عيدروس النقيب الذي تحول من مدير مكتب رئيس الجنوب إلى سائق سيارة أجرة! كان يمثل رمزا للاستعصاء ويقتل فكرة الاستقطاب بالوفاء، وهو يواصل مع رفاقه دفع اشتراكات الحزب الذي نجح مقبل وياسين مع نخبة الحزب في لملمته مجدداً، ثمة من غادره تماماً وثمة من غادر وظل شبحه المتصالح مع الجلاد يمارس من منابر الحزب استهداف أقرانهم، لكن خالد سلمان كرمز لمثقفي الحزب الممسكين زمام الحرف بتجرد كان يزداد شموخاً كلما برزت عظام وجنتيه في مواجهة حصار مطبق على صحيفة الحزب ليجسد حقيقة الاصلاء الذين تصقلهم الشدائد ولا يقتاتون بمداد أقلامهم الذي ظل مصوباً نحو رأس عصابة الجناة.
نجا الرجل حين قرروا تصفيته ليصبح لاجئاً يتماهى مع روح أمه اليمن المشتاقة لمعدنه النقي الذي يتقاطع تماماً مع الباهتين الذين تفضحهم الشدائد ويُسيل لعابهم الفتات.
كان ثمة من يدرك أبعاد ما يجري ليُلهم العقلاء انجاز خطوة موفّقة في اتجاه بلورة اللقاء المشترك، ففزع المؤتمر عموماً وشعر الإماميون بضربة قاصمة لمشروعهم.
هاجموا المشترك بوحشية وحاولوا بشتّى السبل تفكيكه، ويوم بات واقعاً على الأرض، تجلى الحنق البائس في محاولة إشعال فتنة داخلية عبر استهداف الشهيد جار الله عمر في قاعة المؤتمر العام لحزب الإصلاح.
قبل نهاية 2003، بثلاثة أيام، دفع عمر حياته ثمناً لمشروع حراسة الجمهورية التي أدرك الاشتراكيون من يستهدف حاملي جيناتها فلم يشتبكوا مع الإصلاح رغم أن ثمة رفاقا لم يدركوا ما كان يصنع ثاقب البصيرة هذا.
مطلع 2003، وتحديداً 13 يناير، قضى يحيى المتوكل بطريقة غامضة ليخلف في المؤتمر ذات الفراغ الذي خلّفه جار الله عمر في الحزب «الأمين العام المساعد».
يقال إن صالح كان قد تسرب إليه شيء من خيوط لعبة المحيطين به وعلاقاتهم الخارجية المتشعّبة، ليستقبل في مايو 2003 الرئيس الإيراني القادم يومها لتخفيف صدمة المفجوعين بالرحيل الغامض لرأس حربتهم، وربما إعادة المياه إلى مجاريها مع صالح الرئيس!
(3) في 97، ظهر تيار «الشباب المؤمن» كنواة ثقافية حصل عبرها أكثر من 1500 طالب يمني على منح دراسية رسمية إلى حوزات إيران، ولم يلبث أن تحول عبر حسين الحوثي إلى تنظيم مسلّح كنواة لما يمكن وصفه ب«حرس الثورة القادمة» التي ستطيح بالجمهورية المنهكة بفساد حكم صالح.
قبيل زيارة الرئيس الإيراني إلى اليمن بشهرين كان حسين الحوثي يدشن صرخة الثورة الإيرانية في صنعاء عبر مسيرة إلى سفارة واشنطن تدين الحرب على العراق، التي آلت بفعلها بلاد الرافدين إلى قبضة حلفاء طهران!
لعلّ من حسن حظ اليمنيين أن قائد التنظيم المسلح المنخرط في عضوية المؤتمر الشعبي العام منذ زمن كان يرفض عرضاً من صالح بإنشاء حزب سياسي ويرفض فكرة الحضور إلى صنعاء حتى لا تنال منه المخابرات الأمريكية! لينفجر الموقف في يونيو 2004 إلى حرب لم تتوقف بمصرع حسين الحوثي بل امتدت إلى جولات سبع قضى فيها عشرات الآلاف من المتمردين والجيش والمدنيين.
قالت جولات الحرب السبعة إن الاشتراكيين أكبر من أن يُصبحوا وقوداً للنبلاء - فرع اليمن! الذين اعتقدوا يوم اقترابهم من صالح بأن السلطة والمال كفيلان بذلك.
لكننا رأينا موقع الحزب الاشتراكي الرسمي يحتفي بتقدم الحوثيين عبر أخباره الخاصة عن المواجهات من قبيل الخبر المنشور في 28 إبريل 2007 «انهالت قذائف الحوثيين صباح السبت على موقعي القوات المسلحة في السنارة والعبلة داخل مدينة صعدة، وهي المرة الثانية التي تصل فيها المواجهات إلى داخل عاصمة المحافظة خلال الحرب»!
وفي 13 أبريل 2007، لم تجد والدة طفل ينتهي اسمه إلى لقب الحوثي، ويقطن صنعاء، سوى «الاشتراكي نت» كي تتصل به وتبلغه «أن ابنها خرج من المنزل في الساعة العاشرة من صباح الجمعة لشراء بعض حاجيات المطبخ دون أن يعود»!
حتى 1 ديسمبر 2012، لازال «الاشتراكي نت» يحتفي بما عنوانه «الاشتراكي في صعدة وأنصار الله يحيون ذكرى الاستقلال المجيد»! ويُهاجم الحكومة بنفس طريقة «أنصار الله»! أحياناً بينما لم نعثر فيه على أي إدانة للهجوم على احتفال بالذكرى الثانية لثورة فبراير أو مقر الإصلاح!
عند انطلاق الثورة الشبابية، اعتقدنا بأن الحوثيين جادون في إسقاط الديكتاتور الذي كُنا نظنه قاتلهم! وحين شارفنا على الإطاحة به استمات هؤلاء في إفشال الثورة عبر صرختهم التي لا يبرر ترديد سلطان السامعي لها في تعز إظهار الحزب العتيد عبر موقعه الرسمي كحليف لفكرة سُلالية تدّعي احتكار السلطة لها بتفويض من السماء!
ربما على الاشتراكيين هيكلة إعلامهم حتى ولو زعل شبح المقالح - الباقي فقط كي يخشى من خلال إعلام الحزب على الحركة الحوثية أن تتلوّث بالهاشمية السياسية - كون تلطيف أجواء الإعلام بما يخدم نجاح الحوار الوطني يتطلب ذلك، ولأن صورة الحزب المدنية التي يجتهد الفيلسوف نعمان في رسم معالمها جديرة بأن تُتبلور في الذهنية الشبابية بذاتيتها الغنية عن أي تهجين.
ختاماً بلدنا يذهب باتجاه عافيته، يحتاج إلى جهود كل أبنائه حتى يصل، يود ممن جنح بهم فساد الحُكم العائلي نحو العقوق أن تمثل ثورة فبراير منطلقهم إلى الرُّشد.