ها نحن أكملنا العام الثاني من الانطلاق الحقيقي للثورة الشبابية الشعبية السلمية، باعتبارها أعظم عمل جامع لكافة الشرائح المكوّنة للمجتمع، وهي إعلان لنوع جديد من النضال الشعبي أو المُجتمعي، القائم على رابطة الوعي الجمعي عند الحد الأدنى من التوافق المجتمعي على منظومة من الأهداف والمطالب أو خطوط عامة مُوجهة لإحداث التغيير في المجتمع، وبحيث يكون التغيير في هدفه العام ضامن الانتقال من النظام الاستبدادي إلى الديمقراطية كمنظومة متكاملة، مبنية على مبدأ المواطنة وحُكم القانون، الكاسر لامتيازات الاستبداد والاستبعاد بكافة أشكاله، مُعيداً الاعتبار للشعب صحاب السلطة والمحدد لشكلِ النظام العام الذي يريده هو والضامن لحد مقبول من التوافق عليه بين أغلب الفئات المكوّنة للشعب. الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي انطلقت من تونس كانت بمثابة الأمل الذي انتظره الكثير من الشباب العربي طوال العقود الأربعة الماضية من تاريخ الدولة القطرية العربية، ما بعد حركة التحرر الوطني من الاستعمار؛ بحثا عن الاستقلال والسيادة وفق الحق الإنساني في تقرير المصير، لكن ورغم ما أنجزته تلك الثورات العربية، التي اعتمدت منهجية الكفاح المسلح كخيار لها، وعلى رأس إنجازاتها الأنظمة الجمهورية وبناء الجيوش الوطنية وقدرا لا يُستهان به من العدالة الاجتماعية، لكنها انحدرت منذ عقد سبعينات القرن الماضي نحو الاستبداد، وفشلت في بناء النظام الديمقراطي الذي تغنّت به، واتكأت على أصل الشرعية الذي أوصلها إلى السلطة باسم الشرعية الثورية القائمة على العنف الثوري التي أساسها الجيش أو الكفاح المسلّح.
لقد كان الانتقال من شرعية الثورة إلى شرعية الدولة عملا بطيئا في أغلب الأنظمة الجمهورية في البلدان العربية وكان الانتقال من شرعية الدولة الجمهورية العادلة إلى نظام الدولة الجمهورية الديمقراطية أكثر بطئا، فخُلق الاستبداد تحت مبررات العدل والسيادة والاستقلال، في جدلية لا منطقية، ولدت تعاظما للاستبداد، تهرّبنا من شرعية الاستحقاق في القيادة للمجتمع، في حالة هروب من الأهداف المعلنة للثورة الأصل، في بلوغ النظام الديمقراطي، وإعادة الحق للجماهير في اختيار النظام ذي التأييد الشعبي الذي يستطيع إطلاق التنمية ويحترم حقوق الإنسان، وفق مبدأ المواطنة وسيادة حُكم القانون، والشركة في السلطة والثروة.
في العقد الأخير ما قبل الثورة، كان الانحدار نحو نظام ولاية العهد والتوريث ليس في قمة النظام الجمهورية فحسب، لكنه كاد يكون مبدأً عاماً حتى في المهن الأكثر عائدا ماديا في المجتمع، مولدا استبعاداً اجتماعياً لأغلب فئات المجتمع، مع تراجع مخيف في العدالة الاجتماعية، استناداً لبرامج الاصلاحات الاقتصادية لنظام الاغتصاب السياسي للسلطة بشرعية القوة أو الحُكم بالبوليس، كما سماه هيكل.
كان الرهان عند البعض قائما على الجيش، في أغلب الجمهوريات كون الجيش هو باني النظام الجمهوري، وقُوة حماية الدولة وليس السلطة، كما توهم الحُكام المستبدون، فكان كلا الجيشين المصري والتونسي هما من حسم الأمر في الثورة الشعبية، الجيش التونسي هو حامي الدولة الجمهورية، والجيش المصري هو صانع الجمهورية، بعد أن تمكنت الجماهير الغفيرة من إسقاط الحُكم بالبوليس في كلا الدولتين!
محمد البوعزيزي التونسي، حين فارقت روحه الطاهرة جسده أطلقت أمل الملايين من الشباب العربي في التغيير بعد أن كان الأمل فيهم قد تضاءل إلى درجة اليأس؛ لأن تلاشي الأمل مدعاة لخلق أمل جديد.
لقد بعثت روحه العظيمة الأمل في ملايين من الشباب التونسي كاسرة حاجز الخوف والرعب من الوعي الذهني لشباب تونس أولا، وكسر الشباب التونسي بعد ذاك الخوف في الشباب العربي، مفجِّرين الواقع المحتقن، صانعين الأمل بالغد الأفضل من قعر تلاشي الأمل نفسه.
إننا اليوم، ونحن نحتفل بالذكرة الثاني لنُعلن عصرا جديدا من التاريخ السياسي لليمن والوطن العربي، إنه عصر الجماهير الغفيرة المُتطلّعة إلى الحُرية والكرامة، الباحثة عن حقها في المواطنة وحُكم القانون، والشراكة في السلطة والثروة، وفق نظام ديمقراطي يُعيد لها السلطة كحق تفوضه لمن تمنحنه ثقتها، وفق نظام شفاف بمرجعية دستورية واضحة.
علينا أن تنذكّر هنا أن إسقاط رمزية الاستبداد تحدث بسرعة، لكن ما لا يحدث بنفس السرعة هو إزالة ثقافة الاستبداد التي تكون قد تأصّلت في أغلب البنى الثقافية والاجتماعية وتحوّلت إلى سلوكيات تمارس، وتم تأطير قسم منها كقوانين، ولدت هي بفعل البقاء والممارسة جماعات قابلة للاستبداد، وهنا الُمشكل الأكبر في المجتمع، الثورات السلمية تحتاج إلى إعادة قراءتها باعتبارها عملية ثقافية ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، وهى في أساسها عملية تصالح وتسامح عادلة بين كافة فئات وأطراف المجتمع بما يحفظ الحق والحُرية والكرامة ويقضي على أكبر قدر مُمكن من الضيم، ممّا يؤهل المجتمع الولوج إلى المستقبل متخففا من أثقال الماضي المختلفة، وبحيث يمكن وضع برامج لعلاج الاختلالات الهيكلية التي أوجدها الاستبداد بتعطيل التنمية العامة، وإعادة بناء وترميم الروح الوطنية التي دمّرت عبر مراحل من اغتصاب السلطة والإرادة الوطنية.
لا يزال الوعي الثوري يرى أن الثورة والسياسة ضدان، وهذا إشكال في ذاته، لا تزال الغالبية من الوعي العام تحاكم الثورة السلمية بوعي الثورات العسكرية والانقلابات، التي تُمانع في استيعاب مفاهيم الثورات السلمية القائمة على أدوات جديد في النضال غير الأدوات القديمة المعتمدة على العنف والسلاح، هذا من حيث أدوات النضال التي تهدف إلى تعطيل أدوات القوة، بانتهاج أدوات قوة جديدة اعتمادا على التوافق الشعبي والاحتشاد الجماهيري عبر أشكال النضال السلمي كالاعتصام والمظاهرة والإضراب.
لقد كان أمام الثورة اليمنية تحدِّيات جسام استطاع العقل الجمعي للقيادة الجماعية تجاوزها بأقل التضحيات، بالحفاظ على الطابع السلمي للثورة، برغم مراهنة الجميع محليا ودوليا على خصوصية المجتمع اليمني المتفشي فيه كافة أدوات العنف التي تمكنِّه من الانزلاق إلى العنف بكل سهولة.
استطاعت الثورة تمتين أرضية للمفاصلة مع العنف وإرساء أدوات جديدة لإدارة الصراعات داخل المجتمع، الذي استنزف تاريخيا بالعنف والعنف المضاد، أما ما يجب إرساؤه اليوم وتأصله هو ثقافة "السلمية" كبديل تغييري لثقافة العنف، عبر الحوار والاحتشاد لقوى العقل والمنطق والمصالح المشتركة، لأن الخروج من الماضي الثقافي تقتضي أرضية شعبية نابذةُ للعنف ولغة الاحتراب لتؤسس لمستقبل آمن، يوفّر مناخ إطلاق طاقات التنمية والاستثمار للمجتمع التي عطلت طويلا.
إن تعريف الثورة بالعموم: عملية تغيّر شامل بفعل تراكمي لإطلاق طاقات المجتمع الكامنة؛ لها أهداف استراتيجية لخدمة مسيرة التقدّم والنماء، بما يعزز الحُرية والعدالة التي تحقق العيش الكريم من خلال الديمقراطية كمنظومة حُكم وقدر كافٍ من العدالة الاجتماعية.
وهنا كان الأجدى بنا جميعا كثوار أن نتحوّل إلى قوة ثقافية تعزز أخلاق الثورة وسلوكياتها وتتحشد لتبني ثورة ثقافية يكون الثوار عمدها وسندها وقوتها الحقيقية، بدلا من الانزلاق إلى المناكفات والاستهلاك في صراعات بينية والانحدار في براثين ثقافة الاستبداد القائمة على منهجية الشك وفقدان الثقة وتحاشي الهدم للبنى المؤطرة للمجتمع، إلا بهدف إعادة بنائها، باعتبارها القوى الرافعة لمدنية المجتمع، وعلى رأسها الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابات والاتحادات الابداعية والمهنية؛ لأن بناء هذه المؤسسات مسؤوليتنا كمجتمع كما هي مسؤولية السلطة السياسية بناء مؤسسات الدولة.
على قوى الثورة التمتع بالقوة الكافية لتجاوز الانزلاق إلى صراعات الوعي القائم والسعي لتأصيل المجتمع الجديد الذي تنشده، كوعي ثقافي ذهني أولا، ثم التحول لدعم هذا الوجود الذهني في الواقع بخلق قوى المجتمع المدني كقوى مدنية دون الخوض في صراعات انعاش لقوى المجتمع التقليدية التي ظلت قائمة بفعل الثبات في حركة المجتمع في الماضي.
إن الصراع هو إهلاك واستنزاف للطاقات، والبلد بحاجة إلى التدافع التنافسي الإبداعي، وليس بحاجة إلى الصراع والصراع المضاد، وعلينا تجاوز الماضي ذهنيا حتى لا نجد أنفسنا مجرد أدوات في صراعاته المريضة.
ولسنا بصدد حصرها هنا بل نذكِّر ببعضها فقط: فالثورة كسرت حاجز الخوف وفقدان الثقة بالنفس وحجمت منهج الشك والارتياب ووهم المؤامرة، وكسرت حواجز جغرافيات الانغلاق، ما قبل الوطنية، وأعلنت حضور المشروع الوطني الجامع، وحاصرت أصحاب المشاريع الصغيرة (ما قبل الوطنية)، وأطلقت التنمية السياسية شعبياً، مجسدة توسيع قاعدة المشاركة السياسية الشعبية كشرط لتخلٌق الدولة المدنية بتمتين مؤسساتها، ولقد تمكّنت الثورة من إسقاط رمز الاستبداد وقضت على مشروع التوريث السياسي، وأعادت صياغة الوعي الوطني والتلاحم الشعبي وفجّرت طاقات الشباب اليمني الكامنة، كما مثلت الفعاليات الثورية، وخصوصاً الاعتصامات، ورش مفتوحة لإعداد قيادات سياسية وإجتماعية وثقافية.
واستطاعت إطلاق حُرية المرأة اليمنية عملياً، بحيث تصدّرت المشهد الثوري، وحصلت على جوائز دولية رفيعة المستوى، كما أعادت الثورة الاعتبار للمواطن اليمني خارجياً، وعملت على تغيير الصورة الذهنية عنه في المخيلة العربية والدولية؛ صدور قرارين دوليين من مجلس الأمن الدولي (2051-2014)، ومبادرة المحيط الإقليمي - مجلس التعاون الخليجي - (المبادرة الخليجية).
وعقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة في صنعاء، لأول مرة في تاريخ المنطقة العربية والإسلامية. كما أن الثورة أعادت الاهتمام الدولي باليمن، وألزمت المجتمع الدولي تقديم مساعدات ومنح وهبات ودعم الاستثمار في اليمن مستقبلاً، حتى تستطيع الدولة اليمنية، بحُلتها الجديدة، أن تقف على قدمين خاليين من مرض الكساح.