قبل شهور كتبنا في صحيفة «الناس» سلسلة مقالات بعنوان «الرابحون والخاسرون من مشروع الانفصال....»، قلنا في جزء منه إن الحزب الاشتراكي اليمني سيكون أحد أبرز الخاسرين في حالة نجاح الدعوة إلى الانفصال؛ وبالتحديد قلنا: [أما الحزب الاشتراكي (اليمني) فسيكون هو أكبر الخاسرين؛ ليس فقط لأنه سيتعرض مثل غيره للانقسام إلى جنوبي وشمالي (وربما أكثر من ذلك) ولكن لأنه سيتحمل مسؤولية (مزدوجة) عما حدث؛ ففي الجنوب سيحملونه مسؤولية الوحدة التي حدثت.. والتي تبناها منذ 1967، ولن ينفعه الاعتذار وإلقاء المسؤولية على خيانة (صالح) وغدره به.. وكل ما سيلحق فكرة الوحدة من سوء سيكون للاشتراكيين وحزبهم نصيب كبير منه؛ وخاصة إن عرفنا أن الانفصال سيعيد إلى الجنوب جماعات كثيرة تضررت من ثورة 14 أكتوبر والنظام السياسي الذي انبثق عنها وسياساته الاقتصادية والاجتماعية.. ومن شبه المؤكد أن جماعة (أنصار الشريعة) بكل ما تحمله من كراهية للاشتراكيين ستبدو معتدلة في ذلك الحين عندما تحين ساعة المحاسبة والانتقام! وفي الشمال سوف يكون (الحزب الاشتراكي) خاسرا كبيرا أيضا.. وسيحمله كثيرون وخاصة العامة مسؤولية الانفصال؛ على الأقل بحكم الدور الذي لعبته كوادره في التمهيد والدعوة لذلك.. فهو سيكون مُدانا في الجنوب لأنه (وحدوي).. وفي الشمال لأنه (انفصالي)!]. ما كتبناه لم يكن رجماً بالغيب، ولكن نوعٌ من استقراء إيحاءات في مقالات وتصريحات؛ وحتى بعض الشكاوى من داخل البيت الاشتراكي نفسه تجاه ما يوجه إليهم من نقد، ويحملهم مسؤولية عما جرى. وصار معروفاً منذ زمن أن هناك جهات عديدة في الجنوب لم تنسَ ثاراتها القديمة مع الاشتراكي، ووجدت في هوجة الحراك الانفصالي مكاناً مناسباً للانخراط فيه لأخذ ثأرها! ومع ذلك فأقر أنني لم أتخيل أن يأتي يوم توجه للاشتراكي، ومن رموز إعلامية محسوبة عليه وطالما ابترعت في ظله ضد الآخرين؛ اتهامات قاسية تضعه في مرتبة واحدة مع المؤتمر الشعبي والإصلاح ضد.. الجنوب!
في الأربعاء (قبل الماضي) كتب الأخ صلاح السقلدي في صحيفة «الوسط» مقالاً بعنوان «العدوان الثلاثي للأحزاب اليمنية»، هاجم فيه الأحزاب الثلاثة (المؤتمر- الإصلاح والاشتراكي) بسبب مواقفها ضد الجنوب. وكلام السقلدي عن المؤتمر والإصلاح ليس مُهما بالنسبة لنا فليس فيه جديد.. لكن المهم والخطير هو تفاصيل تنديده أو اتهامه للحزب الاشتراكي اليمني بمجموعة من الاتهامات هي - لمن أراد أن يفهم - خلاصة العقل الجمعي للحراك الانفصالي، وتجسيد للاعوجاج التاريخي والسياسي الذي يشوب خطابه السياسي والإعلامي؛ منذ تحول من موقف حقوقي إلى دعوة انفصالية لاسترداد الدولة الشطرية السابقة في الجنوب!
لا أدافع هنا عن الحزب الاشتراكي اليمني، ولا أقول – بالمقابل - إنني أوافق على اتهامات الكاتب ضده.. لكنني فقط أريد – وربما في الوقت الضائع للأسف الشديد - أن أنبه الأخوة الاشتراكيين، ومعهم كل الأحزاب اليمنية بلا استثناء، إلى خطورة النهج السياسي والإعلامي الذي اتبعوه وبقصر نظر واضح، وباجتهاد خاطئ، مع الحراك الجنوبي دون تمييز واضح وجدي بين أطروحاته السياسية والإعلامية التي اعتمدت على كم كبير من الأكاذيب والمبالغات والتوصيات الخاطئة في تبرير دعاواهم في فك الارتباط والانفصال والحيثيات التي برروا بها ذلك! وها هم الآن يدفعون أثماناً باهظة لمواقفهم تلك التي لم تفرق بين الثوابت أو القواسم المشتركة وبين الأخطاء أو حتى الجرائم!
اليوم؛ تدفع الأحزاب اليمنية أثماناً فادحة، وأقل هذه الأثمان في الميزان أنها صارت ترضى أن تقبع على كراسي المتهمين لتسمع إداناتٍ من كل نوع وهي صامتة، وقصارى ما تستطيعه أن ترسم ابتسامات جوفاء في وجوه مجموعة المنددين بها، ومن بينهم قتلة شهيرون ملطخة أيديهم بالدماء الجنوبية، وتجار مرتزقة تعاملوا حتى مع «صالح» نفسه مقابل صفقات ومشاريع تجارية.. وانتهازيون باسم الجنوب يسرحون ويمرحون في كل بلد؛ لأنهم يعرفون أن الطرف الآخر حريص على وجودهم في مؤتمر الحوار ولو حولوه إلى ملتقى للفوضى والتهريج باسم الجنوب!
••• يعجبني المثل القائل «من عيّر أخاه برضعة لبن كلبة لا يموت حتى يرضع منها»، وقد استشهدت به مرات عديدة.. واليوم يمكن أن نقول إن كثيرين من الذين عايروا الرافضين للانفصال، ورفضوا أكاذيب الخطاب السياسي والإعلامي المبررة للدعوة إلى الانفصال وفك الارتباط.. هؤلاء اليوم يشربون أو يرضعون من اللبن نفسه.. مع فارق، أنهم يشربونه مريراً أشد عليهم من السنان؛ بينما ضحاياهم تلقوا الاتهامات ضدهم ورؤوسهم مرفوعة؛ لأنهم يعلمون فساد دعوة الانفصال، ودعاوى نفي يمنية الجنوب من اللحظة الأولى التي ظهرت فيها!
اليوم، وبعد ستة أعوام من ظهور الحراك الانفصالي، تتوجه بعشوائية مقصودة أسوأ اتهاماته إلى ساحة الحزب الاشتراكي اليمني نفسه، رغم كل مواقفه معها، ورغم أن نسبة كبيرة من المشاركين في أنشطة الحراك الانفصالي من الاشتراكيين أو كانوا منه على الأقل!
اليوم، ترتد كثير من الاتهامات الباطلة والأكاذيب التي طالما فتحت لها وسائل إعلام الاشتراكي صفحاتها لتنغرس في صدورهم، وبأقلام الذين طالما كتبوا فيها واستهدفوا غيرهم دون عقل ولا ضمير ولا أدنى شعور بالمسؤولية (الكاتب المذكور لديه عشر مقالات موثقة في أرشيف صحيفة «الثوري» على موقعها في الإنترنت)!
اليوم صار الحزب الاشتراكي مثل المؤتمر (ولا نقول الإصلاح) في الوقوف مجبراً في ساحة الإعدام أو النّصع، ليتلقى اتهاماتٍ من داخله بتهمة أنه «عدو الجنوب» الذي يمارس ضد «الجنوب» كل أنواع التهم والتحقير والازدراء والشتائم والذم!
أليست هذه هي نفسها الاتهامات التي كان رموز الاشتراكيين في الإعلام والسياسة يتبنونها منذ 1994، وازدادت عنفواناً بعد ظهور الحراك الانفصالي، ضد خصومهم، وأحيانا ضد حلفائهم في اللقاء المشترك؛ لأنهم يختلفون معهم في تقييم مجريات الخلاف والأزمة؟
الحمد لله الذي أحيانا حتى قرأنا اشتراكيا (حاليا - سابقا.. الخ) يتهم من اتهمنا بعض رجاله ورموزه بأننا ضد الجنوب، وأعداء له لمجرد أننا رفضنا كل منظومة الأكاذيب والمبالغات والتزويرات التي افتعلوها وروّجوها منذ 2007 لدعم فكرة الانفصال واستعادة الدولة الشطرية السابقة!
اليوم، صار الحزب الاشتراكي أحد ثلاثة أحزاب توصف بأنها «الاستعمار اليمني» للجنوب، والضلع الثالث في العدوان عليه! [العدوان الثلاثي على مصر تكون من: إسرائيل وفرنسا وبريطانيا!].
اليوم، صار الحزب الاشتراكي يتهم بقلم أحد من كتبوا الكثير في بيته بأنه «أبو رغال» والخائن التاريخي للجنوب الذي يرشد كل أنواع القبح والفوضى للاتجاه نحو «الجنوب»!
اليوم، صار الحزب الاشتراكي متهماً بأنه يمارس دوره الذي تعود عليه (!) سابقاً في تحقير الجنوب وازدرائه!
هذه هي العقلية الانفصالية التي طالما حذّر كثيرون منها، وكنا ولله الحمد منهم، وهي مثل الفيل الهائج الذي اندفع في قاعة مليئة بالخزف والزجاج ليحطمها. ومن سُوء الحظ أن الانفصال الهائج اندفع ليحطم قيماً وطنية وعروبية وإسلامية غالية بدعوى فشل الوحدة، وحتمية إعادة الدولة الجنوبية السابقة.. والأكثر سُوءا أن النخبة السياسية والإعلامية المعارضة لنظام صالح انهارت أمام عنفوان الزخم الإعلامي للحراك الانفصالي لترفع الراية البيضاء، وتجاريه في أخطائه أو تسكت عنها رغم فداحتها وشذوذها التاريخي والسياسي نكاية في صالح، ولحسابات قصيرة النظر!
الآن.. ماذا سيقول عتاة اشتراكيون لم يوفّروا تهمة ضد خصوم سياسيين وحولوهم إلى أعداء للجنوب، مستبيحين دماء أبنائه وتاريخه.. ماذا سيقولون رداً على هذه الاتهامات التي تصدر من جنوبي حراكي تصف الحزب الاشتراكي بكل هذه القبائح؟ طبعاً لا يمكن أن يُقال عن الكاتب إنه موتور من حكم الحزب الاشتراكي.. أو أنه يدافع عن نهب الجنوب؛ لأن له مصلحة في ذلك.. أو يقال إنه أصولي مسكون بالتكفير وعداء الاشتراكي من مخلفات الحرب الباردة!
••• اليوم 27 إبريل سيُحيي المهزومون في حرب 1994 ذكرى هزيمة مشروع الانفصال الأول، ويقدمونه إعلامياً بأن هذا اليوم هو يوم إعلان الحرب على الجنوب، واستباحة كل شيء فيه!
من حسن الحظ أن سنوات التسعينيات ليست بعيدة، والذين عايشوا أحداث تلك الفترة ما يزال كثيرون منهم أحياء.. ولذلك فإن استمرار محاولة إظهار أن الجانب الذي كان يقوده علي سالم البيض ومن معه من قيادات الحزب الاشتراكي: المدنية والعسكرية، كان يقوم بدور «سندريلا» المستضعفة في مواجهة الأشرار هو استخفاف كبير بعقول الناس، وافتراض أنهم قد فقدوا الذاكرة!
ما حدث عام 1994 هو خلاف سياسي فشلت آليات النظام السياسي الأعوج الذي أسسه الحزبان الحاكمان آنذاك (المؤتمر والاشتراكي) في حله حلاً سليماً. هذا الخلاف قسّم اليمن يومها إلى جبهتين، على أساس سياسي وليس على أساس جهوي أو مذهبي أو قبلي.. وفي كل جبهة كان هناك شماليون وجنوبيون، ومنتمون لكل القبائل والمذاهب! ولذلك فإن الادعاء بأن الحرب كانت ضد الجنوب هو جريمة وطنية؛ لأنها تصنع أحقاداً تاريخية بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد سوف يجد، وقد وجد، فيها الجهلة وأصحاب المشاريع الصغيرة (على حد وصف د. ياسين سعيد نعمان) فرصة لتمرير مشاريعهم ومخططاتهم!
الحرب الأهلية عام 1994 لم تبدأ من إبريل بل بدأت منذ عاد البيض في 18 أغسطس (وتبعه الجفري بيوم واحد) ليفجّر أزمة سياسية كان الغرض منها هو العودة إلى الدولة (الاشتراكية) قبل الوحدة.. وكل ما جرى بعدها هو نتائج لذلك المخطط.. شاء من شاء وأبى من أبى! وكان الأكرم لدُعاة الانفصال أن يفصحوا من البداية أنهم لم يعودوا البقاء في إطار الوحدة؛ لأنهم لا يجدون في ذلك مصلحة سياسية لهم؛ لأنهم لا يملكون أغلبية تنفعهم في الانتخابات، وتبقيهم في السلطة.. وأقسم بالله أن من يقول ذلك هو أشرف من كل هؤلاء الذين يتحدثون مواربة عن الانفصال نتيجة الحرب ضد الجنوب أو إقصاء الجنوبيين إلى آخر هذه الأباطيل التي يرددونها لتبرير دعوتهم الانفصالية!
منذ التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، بدأت تحركات عسكرية بغرض صُنع توترات بين الوحدات العسكرية التابعة للمؤتمر والاشتراكي، ولتحقيق هدف سحب القوات إلى مواقعها الشطرية قبل الوحدة.. والذين يتذكرون تلك الأيام يعرفون من كان حريصاً على تفجير الوضع عسكرياً لتبرير الدعوة لإعادة القوات إلى ما كان عليه الأمر قبل الوحدة!
انفجرت الحرب؛ لأن اليمن ليست ملكية خاصة لحزب أو مسؤول حتى يفرض على الشعب مصالحه في الانفصال متى يريد.. وكما يقولون الآن إنهم يشعرون بمسؤوليتهم التاريخية تجاه الجنوب؛ لأنهم الذي أدخلوه في الوحدة فأرادوا إخراجه منها بعد فشلها، أو بالأصح بعد فشلهم في الانتخابات؛ فإن من حق غيرهم أن يقولوا أيضا إن مسؤوليتهم التاريخية والوطنية تجاه كل اليمنيين في الجنوب والشمال فرضت عليهم أن يدافعوا عن الوحدة، وأن يفشلوا مشروع الانفصال!
كل شيء كان جاهزا للانفصال.. وصفقات التسليح بمئات الملايين من الدولارات تتدفق على الجنوب، وتفاخر أمامي في عمان (فبرابر 1994) المستشار الإعلامي لعلي سالم البيض: أنهم نجحوا في استعادة الجاهزية القتالية للجيش الجنوبي خلال ثلاثة شهور فقط، أي صاروا مستعدين للحرب التي يقولون الآن إنهم خسروها؛ لأن الطرف الآخر كان يعدّ لها من أول يوم الوحدة، بينما كانوا هم معتكفين في محرابها.. (المستشار الإعلامي أول حرف من اسمه هو: أحمد محمد الحبيشي رئيس مجلس إدارة 14 أكتوبر في عهدي الانفصال والوحدة.. وطبعاً لم يشرح كيف نجح الشماليون في تجريد الجيش الأقوى في الجزيرة العربية من جاهزيته ووزير الدّفاع أحد قيادات الجنوب والحزب الشريك بالنصف في إدارة الدولة ومن بينها قيادة الجيش. والذي ظل مهيمناً على كل وحدات دولته السابقة عسكرياً وأمنياً ومدنياً و(بنوكياً) ووسائل إعلام من كل نوع!).
لم تكن الحرب الأهلية 1994 حرباً ضد الجنوب ولا الجنوبيين، وكان أقوى سلاح ضد الانفصال هو موقف عامة الشعب اليمني في الجنوب الذي أسقط الانفصال بعدم الحماس له، ولم يتعاطف مع الانفصاليين، ولم يحمل سلاحاً للدفاع عنه.. ولو فعلوا ذلك لما سقط المشروع أصلاً أو على الأقل لطالت الحرب حتى يتفتت كل شيء أو يجبر المجتمع الدولي على التدخل كما كان مُخططاً له!
في جبهة الانفصال، كان هناك شماليون كثيرون، دعموا مشروع البيض بكل شيء حتى مذهبياً، وما يزالون حتى الآن على مواقفهم تلك.. وفي جبهة رفض مشروع الانفصال كان هناك جنوبيون كثيرون، وكان للآلاف من العسكريين والمتطوعين المدنيين منهم دور حاسم في هزيمة الانفصال!
الاختلاف في تقييم الحرب ليس بدعاً في التاريخ، وكل الأحداث التاريخية منذ 1962 و1963 قابلة للاختلاف حولها بما فيها ثورتا سبتمبر وأكتوبر، ووحدة 22 مايو، والحرب الأهلية، وكل ما حدث بين هذه التواريخ.. ولذلك دعونا من التطبيل للحراك الانفصالي من داخل صنعاء عن الحرب ضد الجنوب واحتلاله.. فالاتهامات مثل الموس جازعة على رأس.. ولن يبرأ منها أحد!