الأزمة التي تعيشها الوحدة اليمنية هذه الأيام ليست وليدة اللحظة ولا هي مجرد أزمة عابرة وإنما هي أزمة مركبة عميقة الجذور ساهمت في صنعها عوامل متنوعة منها فقر الجغرافيا وإثم التاريخ وفعل الإنسان. إذا كان لابد من العودة إلى التاريخ بحثا عن جذور هذه الأزمة فإنني لن أعود إلى تفاصيل ذلك الماضي البعيد الذي تفرقت فيه أيادي سبأ وتناثرت فيه السلطنات والمشيخات والممالك في العديد من المناطق اليمنية وما ترتب على تلك (اليمننة) من تواريخ متنوعة وهويات محلية مختلفة متصارعة وإنما سأكتفي بالعودة إلى الماضي القريب إلى أوائل الستينات من القرن الماضي تاريخ قيام الثورة وإعلان الجمهورية في شمال اليمن على أنقاض النظام الملكي البائد وتاريخ قيام الثورة وإعلان الجمهورية في الجنوب على أنقاض الحكم الاستعماري السلاطيني.
ففي ذلكم التاريخ وفي غفلة من الزمان تمكنت قبائل حاشد وبكيل من اختراق مؤسسات النظام الجمهوري الوليد مستبعدة إلى الهامش أهم قوى الحداثة والتغيير من المثقفين وأبناء الطبقة الوسطى ليصبح لرجال القبائل القول الفصل في تحديد مسار وتوجهات النظام الجمهوري وفق مصالح مشائخ القبائل واعوانهم ومشكلة رجال القبائل في كل مكان وزمان كما هو معروف أنهم لا يستطيعون العيش إلا في قلب الصراعات والمشاكل ولا يعرفون من فنون السياسة وأصول الحكم سوى الاعتماد على العصبية الأسرية والعشائرية.
وعلى أيادي هؤلاء الذين وصفوا بقبائل الرأسمالية في شمال اليمن تم إفراغ النظام الجمهوري من محتواه التقدمي وتحويله إلى مخلوق مشوه لا هو نظام حكم جمهوري ولا هو نظام حكم ملكي وصفه شاعر اليمن الكبير المرحوم عبد الله البردوني بأنه 'بين بين' يقصد بين السلطنة والقبيلة بين الملكية والجمهورية . وعلى الجانب الآخر وفي نفس الحقبة التاريخية وفي غفلة من الزمان تمكنت قبائل الضالع ويافع وأبين من اختراق مؤسسات النظام الجمهوري الوليد في جنوب اليمن وصار لها الكلمة العليا في تسيير دفة نظام الحكم في الجنوب ووصف أفراد تلك القبائل بالذئاب الحمراء كما وصفوا بقبائل الاشتراكية العلمية وهم مثل قبائل الشمال لا يجيدون سوى القتال ولا يعيشون إلا في قلب الصراعات ولا يعرفون الكثير من فنون السياسة وأصول الحكم وعلى أياديهم تحولت مدينة عدن عاصمة النظام الجمهوري في الجنوب إلى ساحة حرب وصراع على الفريسة بين أولئك الذئاب الحمراء ليدخل اليمنان كلاهما على أيدي تلك القبائل في دورات متتالية من الصراع على السلطة صراع الشمال مع الشمال وصراع الجنوب مع الجنوب وصراع ثالث هو صراع الشمال مع الجنوب لتكون حصيلة عشرين عاما من الثورة والجمهورية آلاف القتلى وكم هائل من الأزمات: أزمة نظام وأزمة مجتمع وبطالة وفقر وجهل وتخلف وبدلا من أن تكون مؤسسات الدولة في كلا الشطرين عامل دفع إلى الأمام أصبحت عامل جذب إلى الخلف ليبقى الاقتصاد اليمني في الشمال والجنوب اقتصادا ضعيفا منهكا يعيش على حسنات الآخرين من القروض والمساعدات وعلى فائض اقتصاديات دول الجوار الغنية بمواد النفط في الجزيرة والخليج وتغدو إرساليات المغتربين اليمنيين أهم داعم للعملات الوطنية في الشمال والجنوب .
خطيئة الحرب وخطيئة الانفصال
ولأسباب كثيرة محلية ودولية وبعد مماطلات طويلة رأى قادة النظامين في الشمال والجنوب أن إعادة تحقيق الوحدة اليمنية سيضع حدا لتلك الصراعات التي أكلت الأخضر واليابس وأعاقت على نحو مؤكد مسار التنمية الشاملة فاتجه كلاهما وبحماس كبير فاجأ كل المراقبين نحو تحقيق الوحدة على عجل في 22 ايار (مايو) عام 1990م وكان حوار تحقيق الوحدة في الشهور القليلة السابقة على إعلانها حوارا قصيرا وعفويا يشبه إلى حد كبير ذلك الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار من قبيل منا أمير ومنكم أمير فيأتي الرد من الطرف الآخر نحن الأمراء وانتم الوزراء ثم يتفقان على قسمة ضيزى رئيس من الشمال ونائب من الجنوب وزير من هذا الطرف ووزير من الطرف الآخر مدير من هذا الطرف ومدير من الطرف الآخر على هذا النحو جرى تقاسم السلطة أو تقسيمها على اثنين في ظل غياب شبه كامل لقضايا جوهرية تتعلق ببناء دولة الوحدة دولة المؤسسات دولة النظام والقانون وتتمخض تلك القسمة عن ظهور أطراف يمنية أخرى تجاهلتها القسمة على اثنين تحولت تلك الأطراف إلى قوة معارضة عملت منذ الأيام الأولى لقيام الوحدة على إثارة الخلاف وإذكاء نار الفتنة بين شريكي دولة الوحدة المؤتمر الشعبي بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح ونائب الرئيس علي سالم البيض لتحل القطيعة بين الطرفين وتستفحل أزمة الثقة بينهما وتنتهي الأزمة كما هو معروف بخطأين تاريخيين ارتكبهما الشريكان في صنع الوحدة خطيئة إعلان الحرب وخطيئة إعلان الانفصال وتشتعل الحرب وتنتهي بغالب ومغلوب ويتسلم المنتصر فوق جثث القتلى ومظاهر الدمار الفظيع زمام الحكم منفردا ويتحول نظام حكمه مأخوذا بنشوة الانتصار إلى ملك عضوض أصبحت بين يديه كل مقاليد السلطة وتحولت الملكية العامة والوظيفة العامة والمال العام بين يديه إلى ملكية خاصة يتصرف بها كيف يشاء ويمارس من خلالها أريحيته أو سياسته سياسة الترضيات المناطقية وكسب الولاءات الأسرية والعشائرية والأصهار وأصهار الأصهار وأقارب المقربين ويهمش بطريقة فظة كل القوى السياسية الأخرى بما فيها تلك القوى التي كانت الحليف الأقوى له في حرب عام 1994م واعني بها الإخوان المسلمين ممثلين بحزب التجمع اليمني للإصلاح بعد أن أنهك جسد شريكه الأول في صنع الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني غافلا عما يمكن أن تثيره مثل هذه السياسات من حزازات وأحقاد ومن ردود فعل غاضبة على المدى القريب والبعيد.
صحيح أن الرئيس علي عبد الله صالح قد اظهر بعد سنوات من انتصاره وتغلبه على تمرد الجنوبيين عام 1994م نوعا من الأريحية ومستوى من الصفح فسمح بعودة بعض الموظفين الذين آزروا الانفصال إلى أعمالهم وأتاح هامشا من الحريات والممارسات الديمقراطية خارج إطار مؤسسة الدولة إلا أن تلك الديمقراطية التي اعتبرتها وسائل إعلامه إحدى مفاخره ظلت مجرد ديمقراطية تعبير لا ديمقراطية تغيير في ظل معادلة 'دع المعارضة تقول ما تشاء ودع السلطة تفعل ما تشاء'.
على أن نزعة الاستعلاء والغرور وإضعاف المعارضة الشرعية ممثلة بأحزاب البعث والناصريين والاشتراكي والتجمع اليمني للإصلاح وتسريح العديد من ضباط وأفراد القوات المسلحة والأمن بطريقة غير قانونية قد أدى إلى بروز معارضة بديلة لم تكن معروفة ولا معترف بها مثل حركة الحوثي في الشمال وحركة المتقاعدين ثم الحراك الجنوبي في الجنوب وهذه قوى سياسية لا تؤمن بالوحدة ولا تؤمن بالديمقراطية وتستخدم السلاح والعنف وسيلة للتعبير عن مواقفها ومعارضتها للنظام الراهن وقد أضحت مع الأسف الشديد لاعبا رئيسيا على المسرح السياسي اليمني الراهن ليفيق الحاكم من سكرته أخيرا ويصحو المجتمع من غفوته على أزمة خطيرة سببها المباشر سلطة عاجزة عن التقدم بحلول عملية لمجمل المشاكل والأزمات ورافضة التقدم خطوة واحدة في اتجاه بناء الدولة اليمنية الحديثة دولة المؤسسات دولة النظام والقانون ومعارضة بديلة للمعارضة الشرعية تقود هذه المعارضة البديلة في الجنوب قبائل الضالع وأبين تقوم على أسس عصبوية مناطقية تطالب بفصل الجنوب عن الشمال وتمارس أفعالا مشينة تتفاوت بين قطع الطرقات وإحراق الممتلكات ونوعا من التطهير العرقي لكل ما يمت بصلة إلى الشمال اليمني ثم معارضة مسلحة أخرى في الشمال ذات فكر ظلامي موغل في التعصب المذهبي والسلالي تقوده أسرة آل الحوثي أصبحت تسيطر اليوم على مساحات كبيرة من محافظة صعدة وبعض مديريات محافظة الجوف ويتصرف قادتها كرجال دولة داخل الدولة .
وبالنظر إلى عجز السلطة عن إخماد هذه الحركة في السنوات القليلة الماضية منذ عام 2004م فان هذه الحركة قد أصبحت قوة سياسية مؤثرة وتستعد للتوسع وإحكام قبضتها على المزيد من مناطق الشمال مؤكدة في بياناتها قدرتها على الصمود والانتصار في حين يقف النظام عاجزا عن مواجهتها وبدلا من أن يتقدم بخطوات عملية للإصلاح والمصالحة الوطنية الشاملة يكتفي بإطلاق الإدانات وفتاوى التحريم والتكفير والتخوين .
وما بين سندان خطيئة التحكم والاستبداد والفساد الذي تمارسه السلطة وخطيئة المعارضة الفوضوية التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء وبين مطرقة التكفير والتخوين التي يستخدمها الكل ضد الكل تبقى تراوح مكانها وتبقى الأغلبية الصامتة من أبناء اليمن شمالا وجنوبا في حالة هلع وخوف من الآتي تترقب دون جدوى ظهور بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم الذي وضعت فيه .