قبل أشهر كتب ياسين سعيد نعمان، الزعيم الاشتراكي المرموق، عن الذين يحمّلون اليمن قذارة كل الماضي، ولا يأبهون للثورة "التي ثارت ضد كل تلك القذارات". كان نعمان من الذين تحدثون بصورة مبكّرة عن فكرة الدولة الاتحادية بحسبانها الصيغة الأكثر مواءمة لحل أزمة الحكم والإدارة. بالموازاة من تبشير نعمان بالدولة الاتحادية كان الجفري، قائد سياسي جنوبي، ينعي فكرة الدولة البسيطة ويقترح دولة مركّبة تحمل الوحدة. مراراً أكّد على طهارة فكرة الوحدة من كل خطايا التاريخ السياسي. نسي الجفري، فيما يبدو، أحاديثه السابقة عندما دشن الناس الحديث الجاد عن الدولة المركبة، ونظام الحكم اللا مركزي. بدلاً عن ذلك اختار جملة سياسية جديدة يتنفس من خلالها"شعب الجنوب حسم خياره". أصبح، أخيراً، من الذين يحمّلون اليمن قذارة الماضي. في مواجهة فكرة الفيدرالية تشكلت لدينا ثلاث تيارات نظرية. تيار ديني ينشط خارج دائرة الإسلام السياسي، وتيار جنوبي يتحمس للقضية الجنوبية باعتبارها قضية غير قابلة للحل تكمن قداستها في كونها غير معرّفة بوضوح ولانهائية الدلالة، وتيار ثالث يشكل المثقفون الشماليون عموده الفقري يرى في الفيدرالية تفكيكاً صريحاً للدولة.
دعونا نتذكر أن فكرة النظام الفيدرالي تناقش في اليمن بوصفها صيغة ممكنة لتجميع قطع اللغز المفكك، لا لتفكيك الدولة.لم تكن الفيدرالية واحدة من يافطات ثورة 11 فبراير، لكن فكرة العدالة والحكم الرشيد التي ارتكزت عليها الثورة أفسحت المجال لكل الحلول النظرية والصيغ الرياضية الممكنة. صنعاء، راهناً، منطقة خضراء كبيرة لا مركزاً مقدساً للحكم. تستطيع صنعاء أن تتسبب في إحداث درجات مريعة من الضرر لكل المنطقة الرمادية الكبيرة التي تحيطها، لكنها لم تعُد قادرة على أن تكون مركزاً للحكم القوي بأي من صيغه الديموقراطية أو الأوتوقراطية. في هذه اللحظة تبدو الفيدرالية حلاً لمشكلة الدولة لا لمشكلة الحكم، محاولة لخلق علاقة رياضية تحافظ على الجغرافيا والتاريخ، لا على القوى الحاكمة.
ثمة مساحة شاسعة، هوة سحيقة، بين كتابة الأعمدة الصحفية، كما نفعل نحن، واختراع الصيغ الرياضية التي تعالج الأزمات بطريقة تعزز من فكرة الخير العام. لو اعتمدنا على هذه الملاحظة فسوف نرى خصوم الفيدرالية يدينونها كما لو أنها لعنة وشيكة، دون أن يتطوعوا بابتكار معادلات ممكنة ذات طاقة كمون قادرة على لملمة كل هذا الشتات. في موفنبيك يطلب من الموجودين أن يحولوا كل الملاحظات السياسية والقانونية لعلاقات خطية مفهومة، ومعادلات ذات طبيعة مادية قابلة للفهم والتفكيك. في الطريق إلى الجلسة الختامية، تحت وابل من الكلام والجدل المثير، سيكون على صبيان موفنبيك دائماً أن يتذكروا بنيامين فرانكلين وهو يخرج من المؤتمر الدستوري في فيلادلفيا: علينا أن نحافظ على الجمهورية. هذه هي المهمة الجسيمة. فالفيدرالية الآن، في هذا المنحدر التاريخي المجنون، تبدو كمعزوفة لترويض الوحش، لا كوحش قادم من خارج الحدود. إنها واحدة من الإجابات التي تقدمها الثورة، التي اشتعلت في وجه كل قذارات الماضي، أمام الأسئلة الشائكة التي يلقيها أولئك الذين يحمّلون اليمن إثم كل تلك القذارة.