ما كان مستحيلاً قبل سنوات أصبح اليوم ممكناً، إذ يلتقي في جلسات الحوار الوطني في اليمن الذي بدأت فعالياته في 18 مارس الماضي أكثر من 550 شخصاً يطرحون أفكارهم وآراءهم من دون خوف أو وجل، بعد أن كانوا يناقشون مثل هذه الأمور أو أقل منها شأناً، في الغرف المغلقة. في جلسات الأسبوعين المنصرمين لم يكن أحد يتوقع أن يأتي صوت من الجنوب ليطالب من قلب العاصمة صنعاء ب"حق الجنوبيين باستعادة دولتهم"، أي بانفصال الجنوب عن الشمال، ولم يكن أحد يتوقع أن تتم مهاجمة القبيلة في حضور زعماء القبائل أنفسهم، ولم يكن أحد يتصور أن "العلماني"يجلس إلى جانب رجل الدين المتشدد، لكن ذلك كله كان حاضراً في كلمات أعضاء لجنة الحوار ومداخلاتهم، التي أظهرت حجم الاحتقان السياسي والشعبي الذي خيم على اليمن منذ 50 عاماً. حوارات اليمنيين اليوم بلا حدود ولم يضع لها أحد سقفاً لتقف عنده، فقد أظهرت الكلمات التي ألقاها المتحاورون أن الحرية كانت الغائب الأكبر طوال فترة الحكم التي تعاقبت على اليمنيين شمالاً وجنوباً، ولم تنفع ادعاءات صالح بأن نظامه كان ديموقراطياً ويتمتع بحرية صحافة وتعددية سياسية، ذلك أن الحقيقة الوحيدة التي كانت حاضرة هي غياب الحرية، رغم كثرة الأحزاب وانتشار عشرات الصحف. روشتة العلاج تكشف الجلسات التي تستمر لنحو ستة أشهر أن مشاكل اليمن كثيرة وكبيرة جداً ومتشعبة والقدرة على معالجتها لن تتأتى إلا بحوار جاد يديره عقلاء هذا البلد لإيجاد "الروشتة المناسبة"للعلاج. كثير من المراقبين يرون أن الحوارات مفتوحة من أجل التوصل إلى صيغة تكون محل إجماع، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اليمن، إلا أن كثيرا يعتقدون أن السماح بانزلاق البلد في أتون حرب شاملة لن يتم السماح به، كان ذلك واضحاً في الكلمة التي ألقاها الرئيس هادي أمام المتحاورين عندما طالبهم بأن يعملوا على إيجاد حل "بنكهة يمنية" حتى لا يعطوا الفرصة لحل يأتيهم من الخارج. لا شك أن مثل هذا الأمر يقع في صميم مهمة مؤتمر الحوار الوطني، فكل يدرك أن فشل الحوار يفسح المجال للحل الخارجي، الذي اتخذ قراراً بعدم السماح بدخول اليمن دوامة من المجهول، لذلك فإن الحوارات التي يخوضها أعضاء مؤتمر الحوار، بعيداً عن المواقف التي سجلها بعض بانسحاب هنا أو هناك، سترسم خارطة مستقبل اليمن الجديد، بل يمكن القول إن الوقت لا يسعف أحداً لمناورات بعيداً عن استحقاق مهم يتمثل في الوصول إلى حلول توافقية ومرضية للأطراف كافة. تصادم المشاريع على مدار أسبوعين تصادمت المشاريع السياسية والأفكار التي تم تقديمها من قبل المتحدثين، فقد طرحت مشاريع الانفصال والوحدة والدولة الاتحادية والدولة الفيدرالية، ولم يبق حل إلا وطرح في المؤتمر، لكن يبقى المهم هو أن يتقبل الجميع الحلول التي يتم التوافق حولها، والسعي الجاد من أجل تحويلها إلى واقع، على قاعدة "التنازلات المؤلمة "التي كررها مراراً الرئيس هادي والأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الدكتور ياسين سعيد نعمان، فبدون هذه التنازلات لن يكون هناك حل حقيقي وستعود الأزمات إلى نقطة الصفر. ما يميز مؤتمر الحوار الوطني استشعار المتحاورين ومعهم ما يقرب من 25 مليون شخص خطورة الوضع الذي يعيشه اليمن، فكل يدرك أنه دون حوار حقيقي ورغبة في الوصول إلى حلول جادة لن تقوم لليمن قائمة، فحقائق الواقع تؤكد أن عوامل الاحتراب أكثر من عوامل التقارب، وهذه المعادلة المختلة يجب أن تزول وأن تزول معها عقلية الاستئثار بالقرار وصناعته، سواء على مستوى المركز أو حتى على مستوى الأطراف. بلد التوازنات لقد نجح الرئيس هادي في إيصال اليمن إلى ما وصل إليه اليوم، مع الأخذ في الاعتبار ببعض الهنات والنواقص التي كان بالإمكان تجاوزها عبر التسريع بالقرارات الخاصة بإعادة هيكلة الجيش والأمن، لكن الرجل يدرك حقيقة التوازنات السياسية والعسكرية والقبلية والاجتماعية في بلد معروف ب"بلد التوازنات"، وتقدم له بعض الأعذار في كونه يسير على حقل من الألغام، لم تزرع خلال عام الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، بل إنها تراكمات سنوات طويلة من الحكم الفاشل، سواء في عهد الحكم الشطري أو في حكم دولة الوحدة. اليوم لا يبقى لليمنيين سوى الاتفاق على معالجة الأخطاء التي وقعوا فيها خلال خمسين عاماً من ثورتهم، قتل من خلالها رؤساء وأقيل رؤساء آخرون باتفاق سياسي أو باحتجاجات شعبية، وحان الوقت لينبذوا طريقة معالجة أوضاعهم التي كانت تنتهي خلال الأزمات الماضية ب"بوس اللحى"، لكنها سرعان ما تعود هذه الأزمات إلى الواجهة من جديد أكثر حدة. مواقف متطرفة الجهود التي قادها مساعد الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثه الشخصي إلى اليمن جمال بن عمر للتعاطي مع تعقيدات القضية الجنوبية، رغم أنها أخفقت في إقناع بعض قادة الحراك الجنوبي في الداخل والخارج بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، إلا أنها أحرزت نجاحا في اختراق هذا الملف بانتزاع إقرار جماعي بنبذ العنف وانتهاج الخيار السلمي لتسوية القضية الجنوبية، وهو الإقرار الذي عده بعض التزاما قانونيا له قوته وحجيته في المحافل الدولية، ومن شأنه كبح أي محاولات لإعادة تدوير عجلة العنف في المحافظات الجنوبية. وأعلنت فصائل عدة في الحراك الجنوبي المؤيدة للوحدة والرافضة لشعارات فك الارتباط، المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، في ظل انقسام في الشارع الجنوبي بين مؤيدين للانخراط في العملية السياسية، ورافضين لها، إلى تيار ثالث يقر بالحوار الوطني مرجعية لحل القضية الجنوبية، شرط إعادة صياغة دولة الوحدة وفقا لمعايير وأسس الدولة الاتحادية. قياسا بالتنازلات والدعوات التي وجهتها القوى الوطنية لقادة الحراك الجنوبي لدفعهم المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني تبنت الهيئة القيادية للحراك الجنوبي في الخارج مواقف متطرفة، إذ أعلن البيض عدم الاعتراف بالحوار إلا في إطار ندّي بين دولتين دولة الجنوب (جمهورية اليمن الديموقراطية) ودولة الشمال (الجمهورية العربية اليمنية)، اللتين توحّدتا في مايو 1990، على أن يفضي الحوار إلى فك الارتباط بطرق سلمية تحافظ على ما تبقى من أواصر ووشائج الإخاء بين الشعبين. ويرى البيض كذلك أن مؤتمر الحوار الوطني الذي تدعو إليه صنعاء بتأييد إقليمي ودولي على صلة وثيقة بالتزامات المبادرة الخليجية التي لم يكن الحراك الجنوبي طرفا فيها كما لم يشارك في التوقيع عليها. قوى داعمة للوحدة رغم التجاذبات التي طبعت فصائل الحراك من موضوع المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، إلا أنها استقرت أخيرا على إقرار أكثر الفصائل بمبدأ الحوار أساسا لحل القضية الجنوبية، وهو الموقف الذي حظي بتأييد في الشارع، برز إلى الواجهة للمرة الأولى بالتوازي مع انحسار تأثير الفصائل المتشددة المطالبة بالانفصال وفك الارتباط، والكفاح المسلح. هذا الحال انعكس جليا في تحركات الشارع، الذي مال في الأيام الماضية إلى التهدئة، وخصوصا مع شروع الرئيس هادي بمعالجات سريعة وملموسة لآثار دوامة العنف التي عصفت في المحافظات الجنوبية في الأسابيع الماضية، ومنح الضحايا تعويضات وإعادة ترميم الخراب، فضلا عن مباشرة اللجان التي كان أمر بتأليفها لحل قضايا الموظفين المبعدين، والبحث في ملف نهب الأراضي لإقفال هذا الملف الذي كان سببا في احتقان الشارع الجنوبي طيلة السنوات الماضية. تزامن ذلك مع مراجعات لدى أطياف في الشارع الجنوبي، بصعوبة فصل جنوباليمن عن شماله وبناء دولة جديدة بعد وحدة اندماجية استمرت لنحو 23 سنة، وإقرارهم بأن المعطى القابل للتطبيق هو الاتجاه نحو المصالحة وإصلاح المشكلات وطي صفحة الماضي والمشاركة في بناء يمن جديد ينعم فيه الجميع بالأمن والأمان في ظل دولة ديموقراطية تضمن الحقوق والحريات والمواطنة والمشاركة السياسية دون تهميش أو إقصاء، أو انتهاك لسيادة القانون. الفيدرالية في الحوار يثير مشروع الفيدرالية كشكل جديد من أشكال الحكم في اليمن كثيرا من الجدل في الساحة السياسية والاجتماعية، وفي مؤتمر الحوار تحديداً بعدما تمت إثارة هذا المشروع في المؤتمر. وفيما كانت مواقف بعض الشخصيات غامضة ورافضة للمشروع في مقابل مرونة من بعض آخر، انقلبت هذه المواقف من المشروع، بعدما أبدى الرئيس السابق علي عبدالله صالح رفضاً للفيدرالية رغم أن حزبه أقر بها في وقت سابق. ويؤكد الرئيس السابق أن "الفيدرالية تعني السعي نحو الانفصال"، وأنه إذا "أُخذ قرار نحو الفيدرالية معناه بداية الانفصال". وجدد حزب المؤتمر الشعبي العام، رفضه فكرة تبني مشروع فيدرالية من إقليمين كنظام جديد لليمن، معتبراً ذلك تكريساً للانفصال، الذي يتخوف منه كثير من اليمنيين. وبحسب الأمين العام المساعد للمؤتمر الدكتور أحمد عبيد بن دغر، الذي ينتمي إلى الجنوب، فإن حزب المؤتمر الشعبي العام يرفض طرح مشروع الفيدرالية بين شطرين أو طائفتين لأنه يحمل بذور الانفصال، ويذكي نار الفتنة الطائفية، مشيراً إلى أن رؤية حزب المؤتمر إزاء الدولة القادمة تتمثّل في دولة مدنية حديثة ديموقراطية ولا مركزية، وأن هذا المفهوم الجديد الذي عبّر عنه كثير من القوى السياسية الأخرى، المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، سيحدد شكل ومضمون الدولة المقبلة. خلافات المشاريع وعلى الرغم من أن شكلاً معيناً من نظام الحكم لم يتم الأخذ به في مؤتمر الحوار الوطني، إلا أن مدير مركز "أبعاد للدراسات" في صنعاء عبدالسلام محمد، يشير إلى أن خيار الفيدرالية من إقليمين يعد أبرز الخيارات المطروحة على طاولة الحوار أمام اليمنيين المطالبين "سواء بالوحدة الاندماجية أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية أو الانفصال كحل لأزمة الجنوب الذي يشهد مطالب انفصالية غير مرغوب بها محلياً وإقليميا ودوليا". ويؤكد محمد أن غالبية الأطراف السياسية رضخت للمطالب الإقليمية والدولية ولقرارات الأممالمتحدة التي تتبنى دعم الخيار الفيدرالي في سبيل الحفاظ على الوحدة اليمنية في الحالة الراهنة، وأن الاتجاه الغالب هو القبول بحل الفيدرالية. ويطالب بعض القادة الجنوبيين "المعتدلين"، والموجودين في الخارج بنظام حكم فيدرالي بين شطرين أحدهما جنوبي والآخر شمالي لمدة خمسة أعوام يعقب ذلك استفتاء سكان الجنوب على الانفصال، حيث يعد هذا الأمر مطلبا أساسيا لبعض القوى والمكونات الجنوبية في الحراك الجنوبي غير المطالب بالانفصال المباشر، وخارج إطار الحراك لمشاركتها في مؤتمر الحوار الوطني الجاري حالياً، أما الحزب الاشتراكي فإنه يطالب بإقامة دولة اتحادية تراعي خصوصية الجنوب في هذه الدولة، لكنه لا يتبنى مشروع الانفصال، على عكس نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض، الذي يدعو إلى "فك الارتباط بين الشمال والجنوب ". ويدعم رئيس مجلس تنسيق تكتل قوى الثورة الجنوبية عبد القوي رشاد مشروع الفيدرالية بين إقليمين (شمال وجنوب) كما نصت عليها مجموعة لقاء القاهرة، ويرى أن هذا الاتجاه هو الأفضل للجنوب من الانفصال المستعجل أو البقاء في الوحدة الاندماجية بوضعها الحالي. ويرى عبدالقوي رشاد، وهو من القيادات الجنوبية المشاركة في مؤتمر الحوار أنه لا مانع من أن تظل الحكومة المركزية في صنعاء التي بيدها حق إدارة الوزارات السيادية كوزارة الداخلية والدفاع، بينما يحتفظ كلا الإقليمين بحق تكوين حكومة وإدارة شؤونه في شبه استقلال كامل، مع السماح بانتقال حركة رؤوس الأموال الاستثمارية بين الإقليمين. أما خيار الفدرالية من وجهة نظر حكومية فيمكن الاستدلال عليه من موقف رئيس حكومة الوفاق الوطني محمد سالم باسندوة، الذي يفضل نظام الحكم الفيدرالي كنموذج ناجح في معظم دول العالم. وفي وقت كان يرى كثير أن القبائل يمكن أن تكون المعارض الأبرز لفكرة الفيدرالية، فإن زعيم قبيلة حاشد، عضو مؤتمر الحوار الوطني الشيخ صادق الأحمر أعلن قبوله بأي حل ينتج عن توافق اليمنيين في الحوار الدائر اليوم، ويقول: "نحن مع الوحدة، وبالنسبة لما يطرح عن الأقاليم، فلن نختلف عليها إذا كان الإجماع كائناً بشأنها، أما إذا كان تلبية لرغبات جهات على حساب أخرى فسنرفض، وإن كانت رغبة الجميع فأهلاً وسهلاً فنحن من جملة اليمن". من جانبه يرى الزعيم الجنوبي المعارض عبد الرحمن الجفري أنه دون نظام دولة مركبة من إقليمين "شمال وجنوب"ونظام حكم جمهوري برلماني فلا يمكن أن يتعايش الشمال والجنوب، على حد تعبيره، محذراً من ذلك بالقول: "إذا لم يتم هذا سينفرط عقد الوحدة اليمنية". معارضو الفيدرالية يبرر المعارضون للفيدرالية مواقفهم بخشيتهم من أن تؤدي الأفكار المطروحة لشكل نظام الحكم في اليمن إلى تقسيم البلد، ويؤكد محمد العامري، رئيس اتحاد الرشاد السلفي، والمشارك في مؤتمر الحوار الوطني رفضه تطبيق خيار الفيدرالية، قائلاً إنها "لا تناسب اليمن" في ظل ظروفه الراهنة. ويرى العامري، الذي يشارك حزبه ب7 ممثلين في مؤتمر الحوار إن "تطبيق الفيدرالية في ظل عدم وجود الدولة، وفي ظل وجود انقسام داخل صفوف الجيش سيؤدي إلى تمزق اليمن"، مضيفاً: "خيار الفيدرالية يناسب الدول التي توجد فيها مؤسسات مستقرة، ولا تعاني من مشكلات أمنية واقتصادية". ومع رفضه خيار الفيدرالية الذي يدعو إليه بعض كحل لمشكلة الجنوب الذي ينادي بالانفصال، رأى العامري أن "اليمن بحاجة إلى نظام سياسي بعيد عن المركزية؛ بحيث يضمن حقوق مواطنة متساوية، وتوزيعا عادلا للثروة لجميع المواطنين شمالاً وجنوبًا". أما الكاتب والمحلل السياسي أحمد قائد الأسودي فإنه يرى أن الفيدرالية قد تقود اليمنيين إلى الاقتتال، ويقول: "الشروط الموضوعية للفيدرالية لم تكتمل حتى الآن. ولها بالطبع مخاطر وسلبيات قاتلة خلال الفترة المقبلة، الأمر ليس بالسهولة التي نتوقعها. وقد تقودنا الفيدرالية إلى سلب ونهب وتأميمات واقتتال". *من صادق السلمي