الصدمة التي اعترتني وأنا أطالع خبر رحيل فيصل بن شملان لم تشبهها إلا حالة الحزن على الراحل فرج بن غانم، فقد كان الرجلان أنموذج الصدق المكافح عن الحق والعدل، ففي الراهن اليمني لم نشهد سوى فرج وشملان من سجلا فرادة خارجة عن المعهود: وضوح المواقف، وبياض اليد، بل وضخامة الضغوط التي تساميا عليها بصمت نبيل. رحل شملان كما رحل فرج، وكما سيرحل العديد ممن قبلوا صفقة التعايش مع الظروف.. بموتهما أظهرا كم أن الحياة مبدأ وموقف، ثم رحيل مبكر، وذكر حسن، وأيقونة ترشد إلى أن ثمة ما ينبغي عمله حين تضيق الخيارات حدا بين المبدأ والسلعة .. إنه المدى الذي يعبره الاستثنائيون، أمثال غاندي ومانديلا ممن يطيقون ضريبة الخلود.
يتماوج اسم شملان على صفحة الوطن أملا أخضر كما تلألأ فرج يوماً ولاح للحالمين نزاهة وشجاعة، وترفعا على الانكسار والانحناء .. ترمق جنازتهم بالصلوات الطيبات على الروح الزاكية المتسامية صوب السماء .
فليرحمك الله يا شملان، كان سجلك نظيفاً كالثلج الهاطل، فمن أين سنأتي بمن يشبهك ليهدهد مواجع الوطن! وكم من السنين نحتاج ليظهر سمت فرج !
متسقاً كنت ياشملان في حياتك والممات، وتأملوا التجرد حين الوصية التي كتبها قبل ساعات من وفاته .. هكذا .. الصلاة علي في أول صلاة بعد الوفاة.. ومن دون مراسيم .. نقطة .. وعجلت إليك رب لترضى .. إصرار لأن تظل صفحته بيضاء بعد مماته كما في الحياة، لا يشوبها مطمع، ولو بأثر رجعي من مراسيم جنازة .
هنا ينتفض كيانك، وتتملكك حالة انتشاء علوي، وأنت تلفت انتباهك صوب فخامة الذات الرفيعة، وتدرك كم هي الوحشة التي تغلف عالمنا بالرحيل الجليل.
وحدها اليمن يرحل العظماء فيها دونما ضجيج أو احتفاء، وربما دون التفاتة أو عزاء لائق .. فدونما ضجيج ترك فرج رئاسة الوزراء رغم كل عنفوان الوهج والإغراء كي لا يكون مطية، ومثله شملان ترك وزارة النفط ومجلس النواب كي ينسجم وقناعاته البيضاء .
وليس أكثر إدهاشا من موقف التعالي على جزرة السلطة، سوى الدهشة لسرعة الرحيل، أو قل سرعة الجزاء الأخروي حين اختارهما الله بالخاتمة الحسنة.
إذا كان باسندوة قد افصح عن قول الرئيس "أنا لا أريد شركاء ولا موظفين بل موطفين" (بتشديد الطاء) فإن استقالة فرج وشملان هي حالة من التعالي النفسي على وضعية شبيهة بمسرح العرائس، حيث الوزراء يخاطبون بالصلاحيات ثم تسير الأمور بالتلفون الرئاسي .
"ما هو مدى إسهام رئيس الوزراء في اختيار وزراء الحكومة ؟" هذا السؤال جعل باجمال حين كان رئيساً للوزراء ينهي مقابلة مع صحفية الثوري من السؤال الأول أجراها الزميل جمال عامر.. وطبعا تكهرب الجو وشعر باجمال أن صاحبنا يعيره وهو ما جعله يوقف المقابلة بحجة الإهانة. والواقع ان المهين ليس السؤال ولكن الواقع الذي يمكن أن تكشفه الإجابة، عن كوز البطاقة الذي لا يهش ولا ينش .
جيء بفرج كرئيس لحكومة تكنوقراط تباهي بها الرئيس يومها، وأكد بان لديها صلاحيات كاملة للقيام بمهامها .. كان الغرض أن يكون فرج واجهة أنيقة لحالة فساد عفنة، لكنه كان تكنوقراطيا حقيقياً، وأصر على أن يمارس صلاحيته التي تم إشهارها، وكان لا بد من تمايز النزاهة عن الفساد .. وذلك ما حدث.
الكارثة البادية للعيان، من انتفاضات، وحروب، وتدهور اقتصادي، هي ما قدم شملان استقالته بسببه، وما جعل فرج يرفض ان يؤكل الثوم بفمه، لقد تمردا بطريقتهما على الفساد وحالة العبث واللاقانون التي تطبع ممارسة النظام اليومية، ودقا ناقوس الخطر لتبعات الممارسات المرتجلة التي يتبعها النظام والحكومة، كانا كالنذير العريان إذ يقطع انف الناقة ويمزق ثيابه للتحذير من الخطر القادم .. كمآلات حتمية للفساد واللاقانون .
رحل الكفاح والألم والأمل، وسيقف التاريخ يوما ليفرز خانة لؤلئك الذين يستحقون الخلود، قبل أن يرمي بمن تبقى في سلة المهملات .
السلام على شملان، الراحل عنا هدوءا وطمأنينة ونزاهة، الباقي فينا شموخا ورفعة وفرادة، السلام عليك يا فرج ولسان حالك: أبنْتُ لهم نصحي بمُنْعرَج الِّلوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ!