الأمر في أروقة السياسة شيء مختلف عما يدور في واقع الحال، إنه يشبه ترف الأغنياء في مقابل فقر وعوز الفقراء، يشبه عبث الماجنين في مقابل زهد وطهارة الناسكين، لذا نجد أغلب المثقفين والعقلاء رغم دعمهم لفكرة السياسة والحلول السياسية الا انهم ينكرونها بمشاعرهم فكيف يلتقي الضدان وكيف يستوي من يحترق بلهيب الحرب والدمار ومن يتنعم في الفنادق والمؤتمرات. إن حلول المشكلات المعضلة في وطننا العربي لن يأتي به مؤتمر جنيف الثاني او حتى العاشر ولن تأتي به مبادرات الإخوان او اقتراحات السيسي وتسريباته، ولا فندق موفنبيك او اي فندق آخر في اي بقة في الوطن العربي..
شتان بين دموع أطفال سوريا وحشرجات طفولتهم المستباحة وبين ضحكات المجاملة التافهة التي يتبادلها الساسة، شتان بين من يغرق في الدماء حتى عنقه وهو يحمل الجثث الى مثواها ومن يحمل أوراق تحمل أفكارا لا تعرف الدم ورائحة الموت، شتان بين من يحيا تحت القصف وتموت على شفتية الكلمة لا يكملها يتمنى فقط ان يبكي حاله بصمت، وبين نعيق ساستنا وهرائهم وجدالهم حول قرارات لن تعيد حقا او تقتص لشهيد.
إن ترف موفنبيك مثلا قادر على شراء أكثر من محطة كهرباء وعلى إنقاذ دماج من الموت في حصار الجوع والقصف، وقرارات موفنبيك لن تضيف للواقع اليمني شيئا فقد تعودنا ان نمضي في عكس الاتجاه، ونقر ما يقره الواقع المعتاد.
وساسة مؤتمر جنيف بثيابهم الأنيقة لن يشعروا بالبرد في الشتات او يتخيلوا معاناة سوريا الكسيرة القتيلة، لن يعرفوا ذل الاغتصاب فكل من يذهب الى هناك يحمل الرايات الحمر.
وجماعة الإخوان التي لجأت للتصعيد السلمي والحلول السياسية سيضنيها هذا الطريق الزلق فمطاطيته بلا حدود تقلب الحق باطلا والباطل حقا صراحا في تسويات شائنة ومجحفة عادة ما ينصف فيها الظالم من المظلوم.. فهذه هي سياسة الذين لم يعايشوا الواقع الأليم بل اكتفوا بالسماع، وليس من رأى كمن سمع.
لا ننكر دور السياسة تماما، فهي ضرورة لجمع الرأي ومناقشته وفرض حلول على جميع الأطراف ولكن من يمثلون الساسة هم أصل مصيبتنا، انهم كالقادمين من عالم آخر بعيدون كل البعد عن معاناة شعوبهم، كأنما انقسم البشر الى قسم يتخصص في التحاور والتفلسف والتفرج وآخر للموت والخراب والتشرد.
يجب ان يكون ساستنا على مستوى وحجم معاناة الشعوب، وهذا لن يتأتى الا اذا كانوا من قلب الأحداث خاضوا ما تخوضه الشعوب وعانوا مرارات العهود السابقة.
لعل أكثر ما يثير الإحباط في امر السياسة انها تمضي في طريق وعالم مختلف لا علاقة له بالواقع الذي تعيشه الشعوب، فهي لا توقف حربا او تنهي نزاعا او تسكت قصفا او تنقذ ابرياء، واذا فعلت فبعد ان تقضي أغلب الشعوب نحبها، بل لعل جلّ اهتمامها منصب على مظاهر السيادة وزخارف الحكم والبذخ في صرفيات ساستها وما يتبعه من ترف في المباني والأثاث ووسائل النقل.
لعل ضحايا السياسة والتزاماتها أحيانا يفوقون ضحايا الحروب، ناهيك عن ان السياسات العربية هي التي صنعت ركاما هائلا من المآسي والمعضلات في شعوبها وخلفت اجيالا تعاني عدم الثقة في من يدير مصيرها ويتولى رعايتها وخلقت فئات من المواطنين تعاني الفقر والحرمان والانحراف.