مسؤول أمريكي يكشف تفاصيل جديدة عن الهجوم الإسرائيلي داخل إيران والموقع المستهدف    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    السويد ترسل قوة عسكرية إضافية لحماية الملاحة في البحر الأحمر مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    حالة وفاة واحدة.. اليمن يتجاوز المنخفض الجوي بأقل الخسائر وسط توجيهات ومتابعات حثيثة للرئيس العليمي    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    أول تعليق إماراتي بعد القصف الإسرائيلي على إيران    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    برشلونة يسعى للحفاظ على فيليكس    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    اشتباكات قبلية عنيفة عقب جريمة بشعة ارتكبها مواطن بحق عدد من أقاربه جنوبي اليمن    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    الرد الاسرائيلي على ايران..."كذبة بكذبة"    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    السعودية تطور منتخب الناشئات بالخبرة الأوروبية    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عجائب الاخوان في السودان في فحل الحسن
نشر في حشد يوم 29 - 06 - 2013

ما العلاقة بين كتابة دراسة نقدية وبين الكهرباء؟ انها علاقة جد وثيقة، فالمفكرة الالكترونية التي اكتب عليها تتسع لمخزون ضئيل من الطاقة يدوم في أفضل الأحوال ساعتين، فإذا اشرف معينها على النضوب توقفت قسرا عن الكتابة، وربما ضاعت الافكار المتداعية المنثالة، الا اذا قيدتها بالورقة والقلم، وما اصدق ذلك العربي الذي قال: ما كتب قر، وما حفظ فر.. ويقودنا قليل من التأمل الى اكتشاف شبكة من العلاقات بين كتابة الدراسة والانقطاع عنها بسبب الكهرباء، وبين كلفوت، ومن حوله، كالنظام وسيره المعوج، فالسعودية، وقطر، وامريكا، والثورة.. الخ. وما ادراك ما كلفوت، ذلك القبيلي المأربي الذي يهدم عمود الكهرباء الشبكي الضخم الناقل للكهرباء من المحطة الغازية الى صنعاء وغيرها فيلقيه على الارض كومة من الحديد، كلما اشتد قلقه بعد وجبة من القات الجيد، وشعوره بأن عليه ان يفعل شيئا لكي يسمع المسؤولون عن حكم البلاد صوته ويجيبوا مطالبه ويرفعوا ظلامته. فتجيئ صرخته عالية مدوية وكأنما يستمد قوتها من بيت ابي الطيب.
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء انمله العشر.
ومع ان كلفوت شخص الا أنه أيضا رمز للعشرات من أمثاله في كل منطقة تمر بها الاعمدة، حذوا حذوه واستمرأوا اللعبة على الرغم من تكاليفها الباهظة احيانا، كالموت من جراء صعقة من ألوف الفولتات ، أو بصواريخ الجيش وقذائف دباباته.
و(الفحل) بطل رواية الحسن محمد سعيد السادسة يشبه كلفوتا في بعض جوانب شخصيته، كما ترتبط سيرته التي يرويها الراوي ارتباطات شتى بكل ما يجري في العالم ارتباط كتابة القطعة النقدية هذه بها. فالانسان ومصيره مرتبطان ببيئته، وفي هذا العالم المتعولم غدا العالم كله، وما فيه، ومن فيه، بيئة لكل انسان، سواء كان مثقفا سياسيا في الخرطوم، أو ناقدا يكتب قطعة ادبية في صنعاء، أو قاطع طريق في قرية مأربية نائية.
كعادته يرسم الحسن محمد سعيد ملامح بطله بضربات ريشته المبدعة:
“كان عاشقاً للحياة وملذاتها، الحسية منها والعقلية.. ولم يترك جانباً منها، استطاعه، إلا وطرق أبوابه باقتدار وجسارة..حينما ساقه قدره، ليكون سياسياً، على حين غفلة، وشعر أنه وصل فيما انتهى إليه لطرق متاهية سُدّت منافذها، لم يخنع وإنما ظل يقاوم من منطلقاته الخاصة، مؤمناً أو غير مؤمن، في أن يُحدِثَ أمراً، قد يكون له نفعه وإيجابياته.. التوفيق حقيقة تقديرية من رب العباد.. ولكن على المرء أن يسعى.. وهذا ما يفعله بإخلاص.. هكذا كان يكرر هذه المقولات على مسمعي.. اسمعه، ونحن على طرفي نقيض..”
فالفحل منذ صباه الباكر، في المدرسة، يعشق البيان بالعربية والإنجليزية ، ويجتهد فيهما..يحفظ من نصوصهما الجميلة ما وسعه الحفظ، ويلقيهما بفصاحة وصوت عذب، وبخاصة عندما كان يجوِّد الكلم القرآني، بصوت جميل ولا يلحن مطلقاً.. ويدوام الاطلاع في شتى الفنون فحاز قصب السبق في المدرسة، وان كان لايحب الحساب،وحظي عند الشيخ جعفر مدرس العربية، ذي الخيزرانة، على ديدن المعلمين في النظام القديم.
يخبرنا الراوي، وليس الروائي، فالرواية مكتوبة بضميرالغائب: أنه ترافق مع الفحل في الابتدائية والاعدادية، و تزامل معه في الثانوية... حتى افترق طريقاهما في الجامعة، فتخرج الفحل من كلية الآداب في اللغتين العربية والإنجليزية، وتخرج الراوي من كلية الحقوق.. وطوال فترة الدراسة الجامعية كانت للفحل جريدة حائطية أسماها (الكلمة).. وإنحاز الراوي للجبهة الديمقراطية، أما الفحل فكان بلا لون.. يشَرِّق ويغَرِّب كما يحلو له.. لكنه كان شديد العداوة للاتجاه الإسلامي.. ، يسلق الإسلاميين في جريدته الحائطية بألسنة حداد.. ورغم أنه كان في صغره لا يحب الخصام، لكنه تحوَّل مذ الثانوية إلى محاورٍ شرس، لا يهاب الخصومة الفكرية.. فأصبح له اسم في الجامعة وفي الصحف والمجلات السودانية.. كان أُمةً وحده!!.. ساعده على ذلك لغته السليمة، ومُكنته الثقافية، وشجاعته الأدبية التي تربى عليها منذ المدرسة الوسطى..
والحال ان الفحل ذكرني بنفسي، فمثله عشقت البيان باللغتين من صباي الباكر وبرزت فيهما ما وسعني لك، وعشقت الاطلاع على مختلف الفنون، فلم أدع بابا منها الا طرقته والممت منه بطرف صالح، واصبح لي مثل الفحل اسم في وسائل الاعلام، ولطالما اتهمني الاصدقاء واخص منهم بالذكر صديقي وصديقي الروائي، وليس الراوي، الاستاذين عثمان تراث وعبدالناصر المودع وزميلينا في منتدى النيلين الادبي الذي اضيفت الى اسمه مع انضمام اليمنيين اليه كلمة تعبر عن واقع الحال فاصبح اسمه “منتدى النيلين والسائله”، يتهمانني بأني أشرق وأغرب واني لا لون لي، فكنت أقول لهما : ألا احد يمتلك الحقيقة فأنحاز له، وأن الحقيقة مخاتلة كالهلام لا يظفر أي جانب منها إلا بطرف، واني اذ اشرق واغرب انما اسعى وراء تلك الشذرات التي ربما ظفر بها من شرقت نحوه او غربت، وأداتي في ذلك منهج نقدي وملكة تميز الصحيح من السقيم... فالانحياز لا ينتج إلا الانسان ذا البعد الواحد.
ما علينا ولنعد الى الفحل موضوعنا:
يقول الراوي: سألته يوماً:
- لماذا أنت لعَّان وطويل اللسان؟!!
ضحك وقال:
- وداعتي القديمة، وبعدي عن الملاسنة والعراك الجسدي، تحول بفحولة الكلمة ونبل المقصد إلى مارد كأنما خرج من قمقم منسي.. إنني بذلك أتجاوز ضعفي القديم..
عقّبت:
- لم تكن ضعيفاً!! كنت أشجع الجميع في الحديث والنقاش في الجمعيات الأدبية، والتنافس في المعلومات بين (منازل) المدرسة!
رد عليَّ ضاحكاً:
- تلك نشاطات وحوارات فكرية تنظمها المدرسة وتحت سيطرتها.. وخلاف ذلك ما كنت تسمع لي حساً!!.. لأن الحوار المطلق بيننا في المدرسة الوسطى، سينتهي بالقطع إلى معركة بالأيدي.. وكنت أتجنب هذا الأسلوب الهمجي..
قلتُ:
- ألا تخاف من الإسلاميين وأنت تعرف أسياخهم وعِصِيِّهم ومطاويهم؟
قهقه عالياً:
- أخاف دون شك!! لكني لا أهاجمهم هم فقط، إنما أهاجمكم أنتم أهل اليسار أيضاً، وغيركم وغيركم، بما فيهم الجمهوريون!! لهذا تَخِفُّ الخطورة ويَقلُّ الخوف.. فالهجوم موزع على الجميع!!
بادرته:
- لكنه على الإسلاميين أكثر وأقسى!!
واصل ضحكه:
- أنا لا أهاجمهم بالمنطق الماركسي، إنما أعارضهم بمنطق الإسلام وقوته.. لهذا ربما يتراجعون عن أذيتي!! أنا أكشف (ميكيافيّليتهم) وقناعهم التبريري بالدين!!
قلتُ:
- لكنك أكثر خطورةً عليهم من الشيوعيين!!
قال هازئاً:
- لا!!.. هناك فرق!!!.. نحن أُمةٌ تُقيمُها وتُقعدُها الكلمة.. والسحر في كلمتي التي تتخذ العقل سياجاً.. وأنا لا أشتم ولكني أحلل!!.
الفحل يستشرف المستقبل:
يقول الراوي: كانت حياة الجامعة حافلة بالجدل الفكري، والحركة السياسية.. وكان المجال مفتوحاً لزعماء الأحزاب، على اختلاف مشاربها، لإقامة الليالي السياسية وإتاحة الفرص للحوارات المفتوحة.. وكانت تلك الليالي عبارة عن جامعة مفتوحة لتداول الرأي والفكر والتجربة.. فكانت رافداً تشربنا منه قضايا السودان ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... إننا إن نسينا، فلن ننسى هاتيك الليالي.. فالخلاف عند زعماء تلك المرحلة لا يفسد للود قضية..
وأذكر ذات مرة، أقيمت ندوة في جامعة القاهرة الفرع، تحدث فيها كل من عبدالخالق محجوب- سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، والرشيد الطاهر بكر، وكان وقتها قد ترك الإخوان المسلمين، ونبذ زعامتهم، وانضم إلى الاتحادي الديمقراطي، وأمسى نجماً فيه..
حضرا معاً في سيارة واحدة.. وتحدث كل منهما، وهاجم الآخر واتجاهه السياسي بما يقتضيه الاعتدال الفكري والحجة المنطقية، مع طائفة من السخرية المحببة، والمزحة القوية الدلالات، ثم رجعا معاً في نفس السيارة، صديقين حميمين.. أين نحن اليوم من تلك الأيام؟!..
تلك الندوة، لا زالت حاضرة في ذهني، كأنها الأمس.. وقد تجلى فيها الفحل محاوراً عملاقاً للرجلين، فيما طرحاه من أفكار وآراء.. وقد أضفى حواره عمقاً وسعة للأفكار التي انداحت في أذهاننا فهماً وتأصيلاً..
وعند عودتنا معاً، سألته:
- بِمَ خرجت من كل هذا الذي طُرِح؟
رد عليّ بما أفجعني، كأنما استشرف الغيب:
- السودان مقبل على زمن حالك، ولن ترى الأجيال المقبلة مثل هؤلاء الرجال!!
الأيام الحوالك:
في فصل من اجمل فصول الرواية، والرواية، بالمناسبة، جميلة كلها كالحلقة المفرغة التي لا يعرف طرفاها، يحلق الحسن محمد سعيد في سماء اللغة الى ذرى سامقة تذكرنا بأيام طه حسين، وزينب هيكل، وأرتيست محمود تيمور.
وقد فسر جاك بيرك ذات مرة أثر الهجرة من الاوطان على الكتابة والكتاب فقال: “ لا ريب ان الهجرة تسهم بخلق طرائق جديدة للاحساس والكتابة”. وعالم الحسن محمد سعيد عجيب كله؛ فقد دخل هذا العلامة القانوني عالم الرواية وقد تجاوز الستين من عمره المديد، بروايته عطبره، واستمر يتحفنا برواياته بمعدل واحدة كل عام ونصف العام تقريبا، وكلها اثيرة الى نفسي، وهو ينقل “احساس العربي بان ما كان يألفه من كمال قد اهتز وتحطم، لتحل محله نشاطات العصور الحديثة المجزأة” حد تعبير جاك بيرك..
في هذا الفصل الذي يحمل الرقم 8 يقول الراوي:
انتهى زمان وجاء زمان.. غمرتنا الحياة بمشاكلها المتعاظمة.. الأيام رتيبة مملة.. والحركة آخذة دوماً في التسلل إلى الوراء.. لا نفعل شيئاً ونجد لذة في التذمر والشكوى.. وحينما نفعل يكون الفعل مدوياً!!..
سقطت العسكرية الثانية ( اي عسكرية نميري).. جاءت نسمات الحرية.. الأمل الذي ظنناه مات، عاد ثانية ليتجدد في دواخلنا..
على المستوى الشخصي شغلنا مناصب رفيعة وبالذات الفحل.. أصبح مساعد وكيل في وزارة الصناعة..
قُطع الخيط الرفيع بين الديمقراطية والفوضى!!.. الكل يهاجم الكل!!.. صارت الصحف ساحة لصراع مُهلك!!.. تخطى السدنة عقبة تعاونهم مع الطغيان.. كان الفحل أكثر الكتاب هجوماً عليهم.. ظل يصارعهم.. ويكشف الأقنعة.. قال الخيّرون: لتستمر الديمقراطية بفوضاها، فهذه مظاهر صحة وعافية!!.. وكأنهم بقولهم هذا، يحذّرون ويُنذِرون!!..
وذات صباح لئيم الملامح (دقت المزيكة).. (اي موسيقى انقلاب البشير)..وبدأت دائرة الحكم الجهنمية في الدوران.. اختفى الفحل فجأة.. ابتلعه جُب مجهول!!.. فُصلتُ أنا من العمل.. وجدتُ نفسي ضمن صفوف من المطرودين.. استفحل الرعب.. تمدد الطرد والحبس والاختفاء والموت.. أصبح المجهول نازلة على أهل السودان كنازلة عاد وثمود!!.. تمطى الخوف كابوساً، اعتلى قلوب البشر!!.. العسكرية الثالثة جاءت مسربلة بالدين.. واختفى عن سماء المليون ميل مربع، اليقين والإيمان.. وجاءت الجائحات العوادي، تنال كل بيت وكل كوخ وكل عِشّة، بل الفضاء الواسع!!..
بحثت عن الفحل في كل مكان!!.. في كل ركن!!.. في كل زاوية!!.. في كل جحر ونفق!!.. تحت كل حجر ونبتة!!.. سألت من رعبي الأرض والسماء والبحر!!.. الجبال والسهول والوديان!!.. صرتُ كالتائه في صحراء المجهول!!..
لقد ظن الفحل ان بامكانه ان يكتب مقالته وان يذهب الى اهله يتمطى،كما كان يفعل دائما وادعا في سربه، ولم يدرك انه ازاء عصابة تتخذ الله جل جلاله ستارا، وتظنه سلما ووسيلة الى الحكم والسلطان، ثم تكاد توحد بين ذاته وذاتها تعالى الله عن ذلك، فلا يعود انتقادها مسا بالذات الملكية او الاميرية او الرئاسية كما في بقية الاقطار العربية، بل يصبح مسا بالذات الالهية فلا ترعى في من يعارضها إلا ًولا ذمة، وهكذا التقم الفحل بيت من بيوت الاشباح التي ذاع صيتها في هذا العهد التعس.
ويمضي الراوي في روايته قائلا:
يئست.. أمسى ما نطالعه ونعيشه لا يطاق.. اتسعت رغبة الهروب في دواخلي.. لكن أين المدخل والمخرج معاً؟!.. سطع (روني) في ذاكرتي كالشهاب.. صديقنا القنصل الإنجليزي.. زائرنا المقيم في (البيت الأبيض) في الأملاك.. التقينا.. فاتحته بحقيقة أمري.. طلبت اللجوء السياسي، فكان كريماً.. عمل اللازم وحقق رغبتي.. وأخبرني باقتضاب أن الفحل في مكان ما!!.. مكان مجهول داخل الخرطوم.. قال لي أن معلوماتهم تؤكد بأنه وزملاءه يعانون أقسى أيام حياتهم..
ذهبت لشقيق الفحل.. أخبرته بما قاله القنصل الإنجليزي.. وأخبرته أيضاً بغايتي كلاجئ سياسي في بريطانيا..
سافرت لندن.. صرتُ ضمن سرب اللاجئين.. ومرت الأزمنة عليَّ كئيبة حزينة..الصدف وحدها هي التي تحرك مصيري!!.. خلال تأملاتي جال في خاطري مكتب (مكملان) وشركاه للمحاماة.. تعاملنا مع مكتبه يوماً في قضية تخص حكومة السودان، ممثلة في سكة حديد عطبرة مع شركة (اللوكوموتِفز) الإنجليزية وبنك ميدلاند.. كنت أباشر القضية معهم.. أخذتْ هذه القضية زمناً.. ومع الأيام نشات بيني وبين محامي المكتب علاقة طيبة.. عرفتهم وعرفوني شخصياً.. ذهبت إليهم.. 4 شارع شاندوز بلندن.. ومن حسن حظي وجدت المستر (روس) أحد كبار الشركاء.. فقد كان أكثر من تعاملت معه مباشرة في قضية السكة الحديد.. كانت لقاءاتنا كثيرة في عطبرة والخرطوم ولندن.. ذلك إلى جانب المكاتبات العديدة في هذا الشأن..
أخبرته بحالي، وما صرتُ إليه كلاجئ سياسي.. اندهش لما يحدث عندنا!!!.. علق ببعض الكلمات المؤدبة كما هي عادة الإنجليز.. أدرك مطلبي من زيارتي وحديثي بطريقة غير مباشرة.. رحب بي كمتعاون بالمكتب.. سعدتُ كثيراً لهذا الانتساب.. حُوّلت لي ملفات متعلقة بقضايا في الكويت وأبي ظبي والقاهرة للمتابعة والمشاركة بالرأي.. يا سعدي!!..
ظلت اتصالاتي بشقيق الفحل مستمرة.. عرف الكثير عن أحوالي.. لا يزال وضع الفحل كما هو.. المجهول يسود!!..
بعد أشهر طالت، وأنا في مكتب أبي ظبي خابرت شقيق الفحل.. علمت منه أنه جاء من المجهول.. كان في مكان لا يعرفه.. لا يستطيع وصفه ولا الذهاب إليه!!.. ذكر ما ذكر من الهَوْل وأصنافه.. فرحتُ لظهوره حياً.. تحدثتُ إليه.. كان معلولاً سقيماً!!.. معنوياته في الحضيض!!.. طلبت منه أن يقابل (روني) فرفض قبل أن أكمل حديثي ودون أن يبرر!!..
انقلاب حال الفحل:
انقلب حال الفحل من النقيض الى النقيض فقد تصالح مع النظام أو قل تصالح معه النظام ليستفيد من مزاياه وقدراته، فبدا وكأنما ابتسم له “فوكوروكوجو” إله السعادة، الثروة، وطول العمر عند اليابانيين، اونظيره الاغريقي بلوتس...
يقول الراوي:
بعد فترة لم تمتد زمناً جاءني تلفون من الفحل.. عجبتُ!!.. لم يحدث قط أن (تلفن) لي.. كنت أنا الذي أحادثه، وأطيل حديثي شوقاً إليه.. علمت- ويا للعجب!!- أن نظام الخرطوم تصالح معه، بل اعتذر له عن الحبس والقهر والمعاناة والظلم الذي حاق به..
جاءه أحد قادة النظام، زيارة في بيت شقيقه بأم درمان.. وبعد حديث طويل عرض عليه التعاون مع السلطة.. سأله عن كيفية التعاون، شرحها له.. طلب منه الفحل فرصة للتفكير..واضح أن من يطلب مثل طلبه بعد العداوة والبغضاء، سيقبل في النهاية.. وقد قبل!!..
عُيّن من فوره مديراً عاماً للخطوط البحرية السودانية (سودان لاين).. وسافر بورتسودان.. وابتدع نظاماً فيها ليتَنقَّل بين بورتسودان والخرطوم..
لم أجادله طويلاً.. شعرتُ به سعيداً.. حمدتُ الله أن معنوياته التي أعرف، عادت إليه.. واسترد صحته.. لم أشأ إفساد سعادته!!.. إنه رجل يحب الحياة ويكره العنف والمتاعب.. مسكين!! كان في غفلة، فغدرت به الظروف!! لم يتوقع ما حدث له من حبس وقهر وتعذيب!!.. لو كان يعلم ذلك لآثر السلامة وابتعد عن معاداتهم!!.. ونأى بنفسه عن الشر.. من المؤكد أنه الآن يحمد في أعماقه، العلي القدير، الذي أكرم الغلابة بمفاصلة صراع المصالح الكبرى والتي دوّت كانشطار جِرْم سماوي!!..
واضح من تحسن نفسياته أن ظروفه المعيشية تطورت أيضاً إلى قمم ما كان يحلم بها!! تحول من النقيض إلى النقيض.. أصبح في الفضائيات والصحف المحلية والعربية والعالمية، المدافع الأوحد عن النظام، كأنه أحد المنظّرين والقدامى المؤسسين!!.. و.. عجبتُ لك يا زمن!!..
تدافعت رسائله الإلكترونية.. يُعَرِّفني بكل صغيرة وكبيرة في حياته مع النظام.. وبفضل عقله المتّقد وقلمه السيّال ولسانه الذرب، أصبح قريباً من سلطة القرار العليا.. وتمكن في الأرض، حتى أنه أخذ يدعوني للعودة!!.. ألهذا الحد تجذّرت يا (صديقي اللدود)؟!..
وفي رسالة إلكترونية عاجلة وهامة، طلب مني التواجد في لندن في تاريخ محدد.. وركز على أهمية وجودي، كي أكون معهم في اجتماع هام مع شركة إنجليزية، متخصصة في التجارة البحرية.. يريدني لأغطي لهم الجوانب القانونية..
حينما التقينا في لندن، بعد كل تلك السنوات من اختفائه المفاجئ، وغربتي في لندن، رأيت آثار النعمة طافحة عليه.. بدا لي أصغر سناً مني!!.. أضحى ذا هيبة ناطقة!!.. يا إلهي!!.. أهذا صديق عمري الفحل؟!..
كنت سعيداً به.. أما هو، فقد شعر بأنه وجد جزءه الذي كان ضائعاً!!.. ترك زملاءه في الفندق الفاخر في قلب العاصمة البريطانية ليسكن معي في شقتي المتواضعة في غرب لندن..
في الليلة الأولى حكى لي العجب!!.. قال إن الفقر الذي كان يشاهده يمشي فوق أناس نعرفهم بسيماهم ونعرف واقع أسْرَهم، تحول ذلك الفقر عليهم الآن، إلى ثراء ما عرفه أهل السودان من قبل!!..
قال لي: في بادئ الأمر كان يبحث عن الأمن والأمان!!.. كل ما يطمح فيه أن يتركه النظام في حاله.. ذلك غاية الغايات.. لقد عرف أصنافاً من العذاب، ما خطرت على بال بشر!!.. وما ظنَّ يوماً أن في السودان قساوة كتلك التي طحنته، تلغي كل ذلك الإرث النبيل من الوداعة والتسامح!!.. ولكن السلطة لم تتركه.. ظلت تلاحقه، لا ترغب في سلبيته، وإنما تريده فاعلاً ومؤثراً.. وكل شيء بثمنه.. ارتبط التعاون بإغراءات لا يختلف العطاء فيها عن عطاءات البلاط الأموي!! ولك أن تقارن!!.. وشتّان بين وضعين!!..
وفي وضع التباهي، أخبرني بأنه يملك الآن أسهماً معتبرة في شركات كبرى، بعضها خارج الحدود، ومساحات شاسعة جنوب الخرطوم وعمارة في بورتسودان، أسماها عمارة (إلسا) تخليداً لذكرى مجد قديم!!..
كنت وهو يحدثني كمن في حلم!!.. وحينما سألته السؤال التقليدي، حول هذه الثروة، أجابني بألاَّ أسأله، لأنه هو نفسه لا يعرف الإجابة تحديداً!!.. هذه أرزاق تأتيه وهو جالس في مكانه.. لا يعرف حتى ميكانيكية هذا الأسلوب!!..
قلتُ:
- أيعقل؟
أجابني ساخراً:
- هو لا يعقل!! لكنه الواقع!!
ثم زاد من سخريته:
- إنهم يتوهمون أنني أقدم لهم أعمالاً كبيرة، لا تقدر بثمن!!.. والغريب أنني لا أحس بذلك!!
اعترضت:
- إنك تدافع عن النظام في الداخل والخارج، وفي كل وسائل الإعلام!! رغم إنهم خارج الزمن والعصر.. إنهم يريدون تعطيل حركة التاريخ!! ماذا يريدون منك أكثر من ذلك وأنت تغض الطرف عن كل تلك الحقائق؟!.. هذا ما يحتاجونه.. لا شيء يقدمونه غير الإعلام!! وكيف لا تحس؟! شيء غريب!!
حاججني مكابراً:
- ما أقدمه لا أبذل فيه جهداً يُذكر.. هو أمر يأتيني بالسليقة.. وعلى كل أنا لم أسع لأحد ولكنهم هم من سعى!! وفي موقعي العام أنا أخدم البلد!!
قلتُ غاضباً:
- أي بلد هذا؟! وأنت تحدثني عن ثروتك!! أنت جزء من الفساد!
جاء تعليقه حاسماً:
- مستحيل البعد عمّا تحدثني عنه!! إما أن تكون كما يجب أو تذهب إلى الجحيم!!
واصلت:
- هم يلوثونك!!
عَقّب ولا تزال سخريته عالقة:
- هذا نظام، لا بد أن يكون موقفك منه محدداً وقاطعاً.. لا يتقبل خلط الألوان.. ما فيش لون رمادي أو بين بين!!
عادت بي الذكرى إلى زمن الجامعة وما بعدها.. حماس الفحل الوطني.. وكتاباته الملتهبة ومواضيعه التي كان لا يترك فيها ذرة إلا أحصاها تحليلاً وتعليقاً.. أين هو الآن من ذلك الذي أعرف؟!..
هاجمته:
- أنت تخون تاريخك وتخون وطنك!!
ضحك متوتراً من هجومي.. باشرني بدفاعه:
- خليك من حماس اليساريين الفارغ بتاعك ده! لازم نفكر بعقل!!..
قلتُ مؤنباً:
- هذه قضية وطن!!..
زاد توتره.. علق غاضباً:
- أين هذا الوطن؟! وأين الشعب؟! وأين أنتم عندما زجوا بي وراء الشمس؟! دفعت ثمناً من عمري في المجهول والرعب والإهانات!!..
متلازمة استوكهولم:
ذات مقالة كتب الروائي المصري الكبير صاحب “عمارة يعقوبيان” تحت عنوان “هل أصيب المصريون بمتلازمة ستوكهولم” !!
يقول علاء الاسواني:
هذه الحكاية حدثت فى السويد. فى يوم 23 أغسطس عام 1973، هاجم بعض المسلحين أكبر بنك فى مدينة استوكهولم واحتجزوا بعض الموظفين كرهائن، وعلى مدى أيام حاول رجال الشرطة السويديون التفاوض مع الخاطفين من أجل إطلاق سراح الرهائن. ولما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، نفذت الشرطة هجوما مفاجئا ونجحت فى تحرير الرهائن.. وهنا حدثت المفاجأة: فبدلا من مساعدة الشرطة فى مهمتها، راح بعض المخطوفين يقاومون محاولة تحريرهم، بل إنهم أبدوا تعاطفهم مع الخاطفين وظلوا يدافعون عنهم وذهبوا ليشهدوا لصالحهم بعد ذلك أمام القضاء..
هذا التصرف الغريب من الرهائن تجاه خاطفيهم، استوقف عالم النفس السويدى «نيلز بيجيرو» فأجرى دراسة مطولة خرج منها بنظرية جديدة اشتهرت فى علم النفس باسم «STOCKHOLM SYNDROME».. أو «مرض استوكهولم».. وكلمة «SYNDROME».. تعنى فى الطب مجموعة أعراض مرضية تتلازم دائما وتصيب المريض.
فى نفس الوقت، تؤكد هذه النظرية أن بعض الناس عندما يتعرضون إلى الخطف أو القمع والاعتداء الجسدى أو حتى الاغتصاب بدلا من أن يدافعوا عن كرامتهم وحريتهم، فإنهم مع تكرار الاعتداء يتعاطفون مع المعتدى ويذعنون له تماما ويسعون إلى إرضائه.. وقد أثار مرض استوكهولم اهتمام علماء النفس فتوالت الدراسات حوله واكتشفوا أنه يصيب 23% من ضحايا الخطف والاعتداءات الجسدية بأنواعها المختلفة، وقد توصل العلماء إلى تفسير مقنع لمرض استوكهولم.. هو أن الإنسان عندما يتعرض إلى القمع والإذلال، عندما يحس بأنه فاقد الإرادة لا يملك من أمره شيئا وأن الجلاد الذى يقمعه أو يضربه أو يغتصبه، يستطيع أن يفعل به ما يشاء..يكون عندئذ أمام اختيارين:
إما أن يظل واعيا بعجزه ومهانته وينتظر الفرصة حتى يثور على الجلاد ويتحرر من القمع، وإما أن يهرب من إحساسه المؤلم بالعجز وذلك بأن يتوحد نفسيا مع الجلاد ويتعاطف معه.
وكما يصيب مرض استوكهولم الأفراد فإنه قد يصيب الجماعات والشعوب.. فالشعب الذي يعاني من الاستبداد والقمع لفترة طويلة قد يُصاب بعض أفراده بمرض استوكهولم فيتوحدون نفسيا مع من يقمعهم ويذلهم، ويعتبرون الاستبداد شيئا إيجابيا وضروريا لحكم البلاد. السؤال هنا: هل أصيب المصريون بمرض استوكهولم؟. لا توجد إجابة قاطعة لكن بعض الأفكار قد تساعدنا على الفهم:
1 الأوضاع فى مصر وصلت الآن إلى الحضيض: ظلم وفساد وفقر وبطالة ومرض وقمع.. نصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر، 9 ملايين مصري يعيشون في العشوائيات بلا ماء نظيف ولا صرف صحى، متكدسين في حجرات ضيقة وأحياء قذرة تعافها الحيوانات. لأول مرة في تاريخ مصر تختلط مياه الشرب بمياه المجاري ويتم ري مئات الآلاف من الأفدنة بمياه الصرف الصحى. هذه الأوضاع المأساوية تكفي لاندلاع الثورة في عدة بلاد.. لكنها في مصر، حتى الآن، لم تؤد بالمصريين إلى التمرد ورفض الظلم.. بل إن مصر العظيمة يتم الآن توريثها من الرئيس مبارك إلى نجله جمال ببساطة وكأنها مزرعة دواجن، ولا يبدو على معظم المصريين الاهتمام بمن سوف يحكم بلادهم وكأنهم ينتظرون نتيجة مباراة فى كرة القدم بين فريقين أجنبيين. هذه اللامبالاة التى تصل أحيانا إلى حد التبلد.. ألا تُعتبر عرضا مرضيا؟!
2 كل من يقرأ تاريخ مصر قبل ثورة 1952 سيكتشف مدى الحيوية السياسية العارمة التي كان المصريون يتمتعون بها آنذاك.. كان هناك رأي عام مؤثر وإرادة وطنية قوية، وكانت المظاهرات والاحتجاجات تؤدي إلى استقالة وزراء وسقوط حكومات. على مدى أجيال قدمت مصر آلاف الشهداء من أجل الاستقلال والديمقراطية.. كل ذلك تلاشى بعد الثورة.. لقد حققت ثورة 1952 إنجازات كبرى بلا شك مثل مجانية التعليم وتكافؤ الفرص والتصنيع ورعاية الفقراء.. وكان عبدالناصر زعيما عظيما، نادرا في إخلاصه ونزاهته ووطنيته.. ولكن ثورة 52، أيضا، قد أنشأت آلة قمع جبارة سحقت كل من يحمل فكرا سياسيا مختلفا، ثم توفي عبدالناصر عام 1970 فانتهت الثورة لكن آلة القمع ظلت تعمل بضراوة وتسحق كل من يراه النظام خصما سياسيا أو بديلا له ولو محتملاً فى الحكم.. حتى انسحب المصريون تماما من المشاركة السياسية خوفا من العواقب وإيثارا للسلامة.. ألا يعد هذا الانسحاب الكامل من العمل العام عرضا مرضيا؟!
3 كثير من المصريين غاضبون وناقمون على الأوضاع في بلادهم. لكن هذا الغضب غالبا ما ينصرف إلى اتجاه خاطئ، فبدلا من أن يقاوم المصريون نظام الاستبداد الذي تسبب فى إفقارهم وتعاستهم.. يوجهون طاقة الغضب إلى بعضهم البعض.. ارتفعت جرائم العنف والبلطجة والتحرش والاغتصاب إلى درجة غير مسبوقة.. وتفشت الروح العدوانية والكراهية والمعاملة الفظة، في بلد طالما اشتهر أهله بالذوق وحسن التعامل... بل إن ما يحدث فى طوابير الخبز له دلالة: فالذين يضطرون إلى الوقوف يوميا لساعات طويلة أمام المخابز ليحصلوا على خبز لأولادهم، بدلا من أن يثوروا على النظام الذي تسبب فى هذا البؤس، ينخرطون فيمن بينهم في مشاجرات رهيبة تؤدى عادة إلى إصابات وقتلى. ألا يعد الغضب في اتجاه خاطئ سلوكاً مرضياً؟
4 شكل الإسلام دائما المرجعية القوية لكفاح المصريين، مسلمين وأقباطا، من أجل العدل والحرية لكن القراءة الموجودة الآن فى مصر مختلفة. فقد انتشرت الأفكار الوهابية في بلادنا، مدعومة بأموال النفط من جهة ومباركة النظام الحاكم من جهة أخرى.. إن الدولة البوليسية التي تقمع بشدة حركة الإخوان المسلمين وتنكل بأعضائها بلا ذنب ولاهوادة.. تفتح ذراعيها للوهابيين وتغض الطرف عن تجاوزاتهم وتتيح لهم نشر أفكارهم عن طريق القنوات الفضائية وفي المساجد.. والسبب فى ذلك أن فكر الإخوان، على الرغم من أخطائه، يعكس وعيا سياسيا حقيقيا ويمكن المسلمين من معرفة حقوقهم المهدرة وبالتالى يدفعهم حتما إلى الثورة.. أما القراءة السلفية الوهابية للدين.. فهي تنزع عن الناس وعيهم السياسى تماما وتدربهم على الإذعان للظلم.. طبقا للفكر الوهابي لا يجوز الخروج على الحاكم المسلم أبدا، حتى ولو ظلم المسلمين وسرق مالهم، تظل طاعته واجبة.. أقصى ما يمكن فعله مع الحاكم الفاسد هو إسداء النصح.. وإذا لم ينتصح الحاكم فإن الفكر الوهابي يدعونا إلى أن نتركه وشأنه ونلزم الطاعة حتى يغيره الله..
وبقدر تسامح الوهابيين مع الاستبداد فإنهم يتشددون للغاية في كل ما هو غير سياسى وكثيرا ما يقدمون المظهر على الجوهر مما أدى إلى اختصار الإسلام في المظهر والعبادات، بمعزل عن المبادئ الإنسانية التى نزل الإسلام أصلا للدفاع عنها: العدل والمساواة والحرية.. لقد صار السؤال الأهم فى مصر الآن: ماذا ترتدي المرأة؟ ماذا تغطي وماذا تكشف من جسدها (الذى يحظى بأهمية كبرى في الفكر الوهابى).؟ وليس السؤال أبدا: ماذا نفعل نحن المصريين حتى ننقذ بلادنا من المحنة التى تمر بها؟..
إن اهتمام وسائل الإعلام بمعارك الحجاب والنقاب كثيرا ما يفوق اهتمامها بتزوير الانتخابات وحركة استقلال القضاء والاعتقالات والتعذيب.. عندما يشرب المصريون من مياه المجاري ولا يجدون الخبز لأولادهم ثم يتشاجرون بعد ذلك بشدة حول لبس النقاب أو خلعه ويدعو بعضهم النساء إلى ارتداء النقاب بعين واحدة فقط.. ألا يعكس هذا تشوشا فى التفكير وخللا في ترتيب الأولويات؟
إن المجتمع المصري في رأيى يمر بحالة مرضية وليس في ذلك عيب أو عار، فالجماعات البشرية تمرض وتصح مثل الأفراد. أول خطوة فى علاج المرض التشخيص الصحيح.. عندما يتخلص المصريون من اللامبالاة ويستردون وعيهم السياسي وقراءتهم الصحيحة للدين.. عندئذ فقط، سينتزعون حقهم فى العدل والحرية وستنال مصر المكانة الكبرى التي تستحقها.
كبوة الاسواني:
آثرت الاستشهاد بمقالة الاسواني للحديث عن متلازمة استوكهولم التي تقول كل القرائن ان الفحل قد اصيب بها، وذلك من جهة لمكانة الاسواني كروائي، ولأن حديثنا يدور حول الرواية، ومن جهة اخرى لاتخذ من الروائي الكبير شاهدا على موقفينا، الفحل وأنا، عندما شرقنا وغربنا لأن الحقيقة لاتوجد عند احد بعينه حتى ننحاز اليه. فالاسواني المصري كتب هذه المقالة قبل ثورة يناير 2011 المصرية ليصب فيها جام نقده على السلفية الوهابية مدافعا عن الاخوان المسلمين الذين يسلقهم هذه الايام بألسنة حداد.
لقد غابت خطورة الاخوان وظلاميتهم على الاسواني كما غابت عن كثير من القيادات الليبرالية واليسارية المصرية، ولم تنفعهم تجربة السودان الأليمة مع الاخوان المسلمين ولم يعتبروا بها. فهم ككثير من البشر لا يعتبرون حتى يذوقوا العذاب الاليم.
لقد اتهم الاسواني الشعب المصري ذو التسعين مليونا بالاصابة بمتلازمة استوكهولم، فما بالك بصاحبنا المسكين الفحل، الذي تحامل عليه صديقه الراوي كل ذلك التحامل دون ان يفكر انه مصاب بالمتلازمة الشهيرة.
الامر الآخر المهم في هذه المقالة هو: انها تكشف حال الشعوب العربية، كل الشعوب العربية طوال نصف قرن مضى فما عدا مما بدا؟ ان تحرك هؤلاء المرضى فيما سمي بالربيع العربي الذي استحال شتاء قارسا، دمر فيه جيش ليبيا وبنيتها التحتية، ويكاد يدمر فيها جيش سوريا وبنيتها التحتية بايديهم، كما وصف القرآن : (يدمرون بيوتهم بأيديهم وايدي المؤمنين). فمن هم المؤمنون هنا؟ لقداختلطت على المساكين منكودي الحظ كل المقاييس، حتى ان الناظر اليهم والسامع لخطابهم، كما كتبت ذات مقالة، يكاد يتصور انهم يعتبرون الناتو واسرائيل من اهل السنة والجماعة!.
عود على بدء:
في بداية الرواية في الفصل الذي يحمل الرقم 2 منها يورد الرواي قصتين عن اسلوب الانجليز في فترة حكمهم للسودان، وكأنها توطئة لمقارنة يريد من القارئ ان يقيمها بين حكم الانجليز وبين حكم الاخوان، أو بالاحرى حكم الحكومات الوطنية بعد الاستقلال.
ويحكي الراوي القصتين هكذا:
ونحن في المدرسة الأهلية الوسطى، زارنا خواجة إنجليزي، قيل لنا، إنه كان مدير المديرية في الدامر أيام الإنجليز.. وقرر زيارة عمدة عطبرة، وتقديم الاعتذار إليه، وزيارة المدرسة الأهلية.. وأصل الحكاية أن العمدة كان يعمل على فتح المدارس الأهلية في المنطقة، لأن الإنجليز كانوا لا يصدقون إلا بالشح لفتح المدارس الأميرية.. فهذا العمدة ونفر من الرجال الوطنيين، قرروا فتح المدرسة الأهلية لزيادة فرص التعليم.. وعند فتح هذه المدرسة رفض ذلك الخواجة الإنجليزي فتحها، وادعى ظلماً أن عدد المدارس يكفي في المدينة وما حولها!! والمديرية لا ترغب في فتح المزيد منها، حتى وإن كانت أهلية، وبمال المواطنين!!.. تصدى له عمدة عطبرة، واحتدَّ الحوار بينهما.. غضب الإنجليزيُ، فصفع العمدةَ على خده.. فما كان من العمدة إلا أن يأخذ الخواجة المدير (صلفحانية) ويطرحه أرضاً، ويلوي يديه ويركب على ظهره، ثم يتناوله بالضرب صفعاً على قفاه..
أنقذ الناس الخواجة من العمدة وغضبه بصعوبة.. وقاده الحرس إلى نقطة البوليس، وفتح فيه الخواجة بلاغاً بالتعدي عليه.. وعندما سمعت الحكومة الإنجليزية في (تن داوننق ستريت)، أمرت الحاكم العام في الخرطوم، بنقل الخواجة مدير المديرية بالدامر إلى لندن فوراً، وأمرت الحاكم العام بالتصديق لفتح المدرسة الأهلية.. وهاهو الخواجة يعود بعد هذه السنين، وقد أصبح كهلاً، ليعتذر لأسرة العمدة الذي تُوفِيّ قبل سنوات، ويزور مدرستنا الأهلية التي كانت سبباً في نقله المهين من السودان..
كتب عمر أفندي كلمة باللغة الإنجليزية.. وكلف الفحل بقراءتها، فكان عملاقاً في نطقه بإنجليزية سليمة، الأمر الذي دفع بالخواجة الكهل، ليقوم من مكمن جلوسه، ويصافح الفحل بإعجاب وامتنان..
تأملت هذه الواقعة.. وقفت عندها طويلاً، بعد هذا الزمن من سنوات العمر.. وقتذاك، في ذلك الزمن البعيد ساعة حدوثها، كانت لا تمثل لنا شيئاً ، غير ما هو ظاهر لأعيننا، وعلى قدر استيعابنا للموقف.. خواجة (كافر)، قوست السنون ظهره، ونال النمش من وجهه، وتهدلت أطرافه، فبات شيخاً عجوزاً، يستحق الشفقة والعطف.. أكرمت إدارة المدرسة وفادته بكلمات طيبات جاءت (بلسان أمه).. وشعرنا ساعتئذِ بالزهو والعلياء لزميلنا القوي الجريء الذي أجاد الإلقاء، وجوّد العبارة، وأبدع في مخارج اللفظ..
أما الآن، فالأمر يختلف.. فأخذت أفكر.. إلى أي مدى كان الاستعمار يسوس البلاد، ويتدبّر أمورها.. كان دون شك- وهذا من دواعي سياسته التي تقف عند حدود المصلحة والجوهر- يتعامل بمصداقية، عندما يتعلق الأمر بكرامة وإنسانية مواطن!!.. وإن أردنا الإنصاف، ألا يجمل بنا التذكير بأن هذه الحكومة النصرانية الاستعمارية، قد حظرت الرِقّ، وجعلته جريمة ضمن جرائم قانون العقوبات، في الوقت الذي روَّجت له وباشرته حكومة الاستعمار التركي الإسلامية!!.. ألا يثبت هذا أن الانجليزي (الكافر) – كما كان يقول جدي رحمه الله – جاء أقرب إلى روح الإسلام وجوهره من الحاكم المسلم ؟!
في الواقعة التي نحن بصددها، كان الاستعمار صارماً وحازماً، لم ينْحز ويتعاطف مع الخواجة الإنجليزي السيّد، ولم يتساهل مع الباطل!!..
والخواجة نفسه، وزيارته للسودان، إلى أي مدى، كانت تكشف لنا اعتراف هذا (النصراني) بما اجترحه من خطيئة الظلم، وسقطة سوء التصرف!!.. لم تأخذه العزة بالإثم، فجاء في سن الكهولة تلك، ليُكفّر عن ذنبه، معترفاً بجريرته.. فقدم الاعتذار عن سوء السلوك لأسرة العمدة، ولأسرة المدرسة، ولأهل السودان جميعاً..
سافرت بي الذكريات بعيداً عن ماضي التلمذة، إلى ماضي العمل.. فتذكرت ما تدافع فيضاً!!..
كنت أطالع عدداً من الملفات خاصة بسكك حديد السودان.. وجدت واقعتين: الأولى متعلقة بعامل وابورات في سنوات الأربعينيات، يعمل في البواخر النيلية التي كانت بين كريمة/ دنقلا/كرمة، فأصابته شرارة بعينه من الفحم الحجري الذي كان يُستعمل كطاقة محركة لإحدى هذه البواخر.. لم يكن وقتئذٍ لدى إدارة السكة الحديد قانون بإصابة العمل.. ومع ذلك لم يقل الإنجليز لهذا العامل السوداني البسيط، بأنه بلا حق يقرره القانون، وإنما لجأوا لمفهوم (العدالة الطبيعية المطلقة)، ومنحوه تعويضاً في شكل منحة إكرامية (قراتيويتي).. وكان مبلغاً معتبراً في ذلك الزمن البعيد، عوضه بعض الشيء عن عينه التي فقدها.. فتجلت لي النظرة الإنسانية في تلك الواقعة، وجعلوه يباشر عمله بعينه الواحدة، وكان ذلك أكثر كرماً وتقديراً لحالته..
أما الواقعة الثانية، فكانت لموظف في مكاتب العموم لرئاسة السكة الحديد بعطبرة..نشب عراك بين ذلك الموظف ومسؤوله الإنجليزي، وصل درجة التشابك بالأيدي... وظن الكل أن هذه هي النهاية الطبيعية لذلك الموظف.. كيف يتجرأ سوداني على إنجليزي؟!
يا للهول !!...
اجتمعت إدارة السكة الحديد العليا، برئاسة مديرها العام الإنجليزي وضم عدداً من قيادات المصالح من الإنجليز.. وصدر القرار باسم المدير العام المستر/ جي زد نورم، إلى مجلس الحاكم العام في الخرطوم المستر/ هاو، وبحيثيات وأسباب محددة.. وانتهى القرار بفصل الخواجة الإنجليزي المتعارك مع الموظف السوداني الذي كان اسمه علي جمال طه، من خدمة حكومة السودان، ونقله فوراً إلى بريطانيا.. وجاء في الحيثيات، أن المستر/ روك رولاند- مدير إدارة المراجعة في الحسابات، - تصَّرف بسوء سلوك غير منضبط، وبرعونة صبيانية، مع مرؤوسه.. ومثله لا يصلح أن يمثل حكومة جلالة الملكة..
وتعويضاً للسيد/ علي جمال طه الموظف السوداني الذي لحقته الإهانة، تقرر ترقيته إلى درجة مدير إدارة المراجعة في الحسابات، لأنه كان ضحية عنجهية متهورة وغير مبررة من مديره الذي جعل من نفسه سيداً، الأمر الذي دفع به ليفقد الاتزان المطلوب.. وحفاظاً على إنسانية هذا الموظف المرؤوس، فإن قواعد القانون والأخلاق والانضباط، تسري على الكل تأسيساً لمبدأ العدالة المجردة.. ومن ثم لا بد من عقاب من يخل بتلك القواعد وتعويض من يقع عليه الظلم.. وبذلك أصبح ذلك الموظف أول سوداني يتولى منصباً رفيعاً، لا يناله إلا إنجليزي..
تأملت!!.. أنا لا أدافع عن الاستعمار الذي نهب ثرواتنا، ونال من هويتنا السودانية، ووحدتنا الوطنية وعمق تناقضاتنا ، لكني فقط أقارن من حيث الإدارة واحترام إنسانية الإنسان وأسأل: أين هذا السلوك المتحضّر من حكامنا في المرحلة الوطنية، بعد أن ذهب الاستعمار الإنجليزي (البغيض)!! وضاع عنا أميَز ما تركه فينا هذا (البغيض)!!.. أين تلك الأخلاق من حكام هذا الزمان، الذين تعاون معهم صديق عمري، فكان من الهالكين؟!.. أين نحن، وقد جاءتني حكمة (الحسن البصري) تدق جوانحي ناصعة؟! فقد رأى هذا (الحكيم) بهلواناً يلعب على الحبل، فقال: هذا خير من أصحابنا، فهو يأكل الدنيا بالدنيا، وهم يأكلون الدنيا بالدين..
فتأمل !!... كما يقول الدكتور حسن أبشر الطيب
عن حكمة الانجليز ووحشيتهم:
وليام هارولد إنجرامز كان فيما كان حاكماً لمستعمرة عدن بالإنابة، ووكيلاً أول لحكومة عدن، وضابطاً سياسياً في مستعمرة عدن، والمستشار المقيم البريطاني في المكلا.
يوجز انجرامز جوهر دور السلطة باعتباره في الاساس فن الادارة لا الزعامة، وهو ما يعاكس على طول الخط فهم قياداتنا المحلية لدور السلطة. ان السبب الرئيس من بين اسباب فشل حكامنا وقياداتنا يمكن تلخيصه في عبارة سوء الادارة. يقول انجرامز:
السلطة - من وجهة النظر الإنجليزية- هي تعلم فن الإدارة قبل الزعامة، وفي عدن تكون البدايات الأولى لتعلم السياسة الإدارية، وكيف يمتلك الفرد القدرة على تحديد المسافة التي تفصل العقل عن الواقع.
في عدن وجدت الرؤية البريطانية نفسها ما بين مكان يمتلك القدرة على مساعدة الآخر بما له من معارف وتواجد على مستوى العالم، وآخر يرى بالطرف الأول كيانا يضع أسلوب المعرفة الخيار الوحيد في لغة الحوار مع ذاته ومع مايحيط به.
المدينة كمركز للاشعاع الحضاري:
في ظل الادارة البريطانية اصبحت عدن منارة حضارية تجبر الداخل اليها على خلع نعليه عند ابوابها، بندقيته، وخنجره، وجنبيته، وهمجيته. واصبحت الفوطة والقميص الزي الوطني للقادمين اليها من مضارب القبيلة، فوطة وقميص دون اكسسوارات تعبر عن المكانة، كالذهب الذي يزخرف الجنبية، فيضطر العري من رموز الوجاهة الفرد الى التزين بحسن الخلق، واكتساب الوجاهة بالمهارة والكفاءة فيما يعمل. ولم تسمح عدن بترييفها عن طريق فرض الهمجية عليها كما فعل الثوار فيما بعد.
إن عدن، كما عبر بيان حلقة دراسية جامعية، التي صنعت مكانتها العالمية الجغرافيا لم تخلق أمامها مبدأ نفي الطرف المقابل، ولكنها أصبحت بالنسبة له الجسر الذي يعبر من خلاله إلى مدارك الزمن المتجدد، وأصبحت عدن تمتلك صفة المدينة صاحبة الوسائل المتعددة في تكوين العلاقات، وصفة المدرسة التي تعلم الفرد الارتقاء بالجوهر والشكل، ومن هنا كان الانطلاق دائما من عدن في الصحافة والاقتصاد والفن والإدارة والسياسة والثقافة والتعليم والرياضة، وتنوع الأجناس والأديان والمذاهب والأفكار، حتى قيل عنها ممن زاروها في ذلك العهد إنها المدينة الوحيدة في العالم التي بها هذا الكم من الاختلاف، وتمتلك هذا القدر من التسامح.
أدركت بريطانيا أن استقرار الوضع في عدن لايكون إلا من خلال ترتيب الأحوال في المناطق الريفية عبر سياسة التقدم نحو الأمام الهادفة إلى خلق حالة توازن بين مدينة تطرح بها مشاريع المجتمع المدني وريف لاتزال الحياة به لها شروطها الذاتية.
فتأمل كما يقول المصنفون القدامى عندنا....
أما عن وحشية الانجليز فحسبك سيرة الجنرال كتشنر في السودان والسودانيين:
قاد كتشنر حملة الغزو الثنائي (البريطاني – المصري) على السودان عام 1898م والتي تصدت لها قوات المهدية في موقعة كرري الشهيرة، والتي أسفرت عن نهاية الدولة المهدية ومقتل 22.000 شهيد من السودانيين و22.000 جريح و5.000 أسير. وقام بقصف قبة المهدي بأم درمان.
ليس ذلك فحسب بل قام بمبادرة وحشية عندما أمر بإخراج جثة الامام محمد احمد المهدي وتمزيقها، واخذ جمجمة المهدي وارسالها إلى بريطانيا انتقاما من ما فعله المهدي بغوردون وحاميته. وضع هذا القائد مثالا خطيرا في تاريخ السودان ونقطة تحول خطيرة. خصوصا عندما منعت الصلاة والأذان لعامين متتاليين في أم درمان عاصمة الدولة المهدية.
في عام 1902م عاد إلى بريطانيا وأنعم عليه بلقب “نبيل” وعين قائداً أعلى للقوات في الهند. وهنالك انضم لتنظيم الماسونية العالمية وأسس رابطة كتشنر بها. غادر الهند في عام 1909 م وحاز على لقب مارشال، وعمل قنصلاً بمصر وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى استدعي إلى بريطانيا ليعمل سكرتيراً لشئون الحرب. يؤثر عنه قوله لمستشاريه: “لا يجرؤن أحدكم على تذكيري باللوائح والأعراف فهي إنما وضعت لإرشاد الأغبياء”.
ولوحشية الانجليزي نظائرها في تاريخ العرب والمسلمين وبعضها مما لا يخطر حتى على بال الشياطين، ولعل اول مرة اتعرف فيها على لفظة الفحل اسما لرجل، كانت فيما كتبه د. عمر مصطفى شركيان بعنوان “صفحات مندثرة من تأريخ السُّودان الحديث... مملكة تقلي ... نشأتها واضمحلالها” وقد جاء فيها بالاعاجيب. والمقالة موجودة على النت لمن شاء ان يقرأها. وقد كان الفحل اسما لاحد ابناء المكوك الملوك في تقلي.
أما عن الوحشية فقد روى شركيان أن زبانية المك ناصر، احد ملوك تقلي، كانوا يلقون بالمعارضين السِّياسيين في دوكة حجريَّة تحتوي على زيت ساخن بعد ما تصل درجة الغليان وذلك بعد منتصف النَّهار، أي في وقت الهجيرة. ونتيجة لهذا الرُّعب، هرب كثيرون من رعايا المك إلى خارج المملكة، وقد سكن أفراد منهم في مدينة الدَّلنج في ريفي شمال الجِّبال.
فهؤلاء هم البشر، مسلمين كانوا أو نصارى، يغلب شرهم خيرهم ولا امل الا في العقل المهذب للاخلاق وصانع القوانين يحمي الناس من الناس.
المرأة في رواية الفحل:
للفحل وصديقه الراوي صولات وجولات وغزوات في عالم المرأة، لكن المرأة في عالم الحسن الروائي ليست مجرد مطية تركب، بل انسان كامل يضفي على الحياة بهجة، ويملؤه انسا وفنا. وسأقتطف من الراوية مثلا هي السا الساحرة.
التقى الصديقان، الراوي والفحل بالسا وهما في طريقهما الى القاهرة في اجازة، وكانت السا مضيفة على الطائرة. وكان الفحل كما وصفه الراوي بهي الطلعة جميل المحيا جذابا جميلا وسرعان ما عقد علاقة مع المضيفة الحسناء وواعدها على اللقاء في فندق بالقاهرة.
يقول الراوي:
ذهبنا لفندق (شبرد) لمقابلة صديقنا معاوية، والمضيفة الحبشية الفارهة الطلعة ، حلوة الابتسام..
وما إن دخلنا بهو الفندق بديكوره النحاسي المميَّز، حتى وقعت عين الفحل على مضيفته التي لم تخلف الميعاد.. التقت عيونهما مع الابتسامات الوضيئة.. أخذني من يدي واتجه بي نحو الفتنة الشاهقة.. بلوزة بيضاء مخططة بالأزرق التركوازي، يبرز منها صدر جبلي متحدٍ في توثُّب، وتنتهي بمهرجان عند الخصر.. وبنطال كحلي يلتصق باتساق مغناج بالجزء الأسفل من القامة الطاغية.. خَلتْ ثيابها من البهرجة والمغالاة في الاستعراض، فجمّلتها بساطة العرض لتفسح المجال للإبداع الرباني في أبهى صورة..
عندما رأتنا وقفت، لتعلن عن وجودها.. هذه الهالة السامقة التي تصافحنا بوجه شقيق البدر، الآتية من الجارة الشرقية أثيوبيا، حيث ينبع منها النيل الأزرق، ماذا تقول عنها الكلمات؟! إنها كل هذه المهرجانات التي تتدفق عطاءً يتلاقى في جميع المسارات..
حينما سلمت عليها، غاصت يدي في بحر الليونة السمراء، المرتوية بتربة الخصوبة والنماء.. أي سحر هذا الذي يأتينا من شرق حدودنا؟!
قالت وهي تغرس فتنة عينيها في جوفي المتصحِّر:
- اسمي إلسا..
قالتها بلكنة إنجليزية معجونة بلهجة أمهرية في غاية العذوبة والدلال.. تعارفنا بعد أن استقبلت الفحل بأحضان باذخة بالمودة والشوق.. ماذا فعل فيها هذا الساحر الماكر في الطائرة؟! كيف سباها إلى هذه الدرجة التي ذاب فيها الزمن؟!
وختاما:
ان في الرواية الكثير من هذا الجمال ادخره لكم الى حين تقرأون الرواية، كما ان فيها الكثير من الاحداث التي تثير التأمل وتغري بالكتابة حولها، ولكني قد أطلت.
الرواية صادرة عن دار عبادي للنشر بصنعاء ككل روايات الحسن محمد سعيد، في مائة وستين صفحة من القطع المتوسط، وقد ابدعت لوحة الغلاف واللوحات الداخلية ريشة الفنان السوداني المبدع سليمان ابراهيم سعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.