بثت الفضائية اليمنية تقريراً مصوراً عن حادثة العرضي، وقد كانت مشاهد تنخلع لها الألباب وتنشج لمرآها صم الصخور، جريمة ستحفر ذكرها في وعي اليمنيين إلى الأبد، دخل الحزن إلى كل بيت، وحلت الفجيعة في كل قلب، الاكتئاب بعدها كان سيد الموقف، لكن الاكتئاب لن ينجز لنا شيئاً غير الضعف أمام ضربات الأعداء والتسليم لنوازعهم الشريرة. لم تكن المشاهد مألوفة ولا متوقعة في إطار السلوك البشري، وكنا كمن صبت عليهم تلك الرصاصات الغادرة ومتنا، لكننا احتفظنا ببقية إدراك لمتابعة رقص كتبة المقيل، سحرة الفرعون على جثثنا، ولقد متنا بفعل ذلك مرتين، حتى الآن أعني، فربما نموت ثالثةً إذا نجا الجناة وقيدت الجريمة ضد مجهول كالقاعدة مثلاً..
هل كانت الحكومة موفقة في بث مشاهد من تلك المقتلة! سنختلف كثيراً حول هذه النقطة تحديدًا لكننا سنتفق على أن عدواً ما يتربص بنا وعلينا جميعاً الاصطفاف لمواجهته، وحتى أولئك الذين يرضعون حليبه النجس عليهم أن يصطفوا معنا، فهم وأبناؤهم كما نحن وأبناؤنا تحت مرمى رصاصاته وفي محيط غدره..
كالعادة يسكن زعماء العصابات أفخم القصور، ومعهم تسكن أحذيتهم، لكن الحذاء لا يدوم طويلاً حتى يرميه صاحبه، لا يحتفظ الناس بأحذيتهم البالية، كما لا يبقى الحذاء جديداً على الدوام..
كنا نظن أن نظام صالح مكث يحكم البلد طيلة ثلث قرن، لكننا اكتشفنا أنه لم يكن يفعل غير أمرين؛ يبني من قوت أطفالنا المتاريس حول عرشه، ويجهز أدوات الموت كي ينتقم بها من الشعب فيما لو قرر في لحظة من الزمن الوقوف في وجهه وامتلاك إرادته..
مراراً أكد صالح أنه يجلس على رؤوس الثعابين، كنا نظن أن الرجل يتحدث عن متاعب الحكم ومخاطر الرئاسة، لكننا حين أشفقنا عليه ورغبنا في راحته سلط علينا كل هذه الثعابين ولا يزال ، لقد كان صالح صديق كل هذه الثعابين..
وعلى أنها تبدو متنافرة فيما بينها إلا أنها تعمل بتناغم شديد، لتكرس مفهوم أن مضي صالح يعني مجيء الخراب، القاعدة والحوثيون والحراك المسلح، عصابات القتل والتقطع وتفجير أبراج الكهرباء وأنابيب النفط، الحراك التهامي وعودة الثارات، والبقية لم تأت بعد..
لقد كان الرجل يجلس على بالوعة طيلة ثلاث وثلاثين سنة، يسدها بعجزه، وحين قام عنها انتشرت كل الروائح الكريهة، وانطلقت الحشرات والقوارض و غلمان مزيفون يهتفون أن اللعنة على الثورة التي جلبت كل هذا الخراب، بهذه الدقة كان توصيف الكاتب طاهر شمسان.
كانت حادثة العرضي فيما يبدو تتويجاً لنشاط الثعابين، حيث يتم التخلص من قيادة البلد تمهيداً لعودة حارس البالوعة، وحينها يسير الراكب من صنعاء إلى تعز دون أن يعترضه المسلحون الملثمون ، وتنسون انطفاءات الكهرباء، ويكف الانتحاريون عن تمزيق أشلاء أطفالكم، تعود صعدة إلى حاضرة الدولة ، وتعاود فروع المؤتمر الشعبي العام نشاطها في محافظات الجنوب بعد فترة إعارة لدى الحراك المسلح..
جاء تقرير لجنة التحقيق في مجزرة العرضي ليقول أن المرتكب هي القاعدة، وتهافت كتبة المقيل وسحرة الفرعون ليثبتوا الجرم على القاعدة، القاعدة وفقط، وهم يعلمون جيدًا أن القاعدة مجرد أداة للقتل، مدية للذبح، بندقية لا تقتل إلا إذا ضغط أحدهم على الزناد، وهم يعرفون ونحن نعرف والشهداء يعرفون من الذي ضغط على الزناد، لقد كانوا بتهافتهم هذا يشيرون إلى الذي ضغط على الزناد..
لم تكن مجزرة العرضي الأولى ولن تكون الأخيرة إذا بقي هادي محافظًا على هدوئه، وإذا لم يتوفر قدر من الردع يتحسس معه المجرم عنقه قبل الإقدام على جريمته، فإن اليمنيين سيكونون في حضرة مهرجانات دم جديدة، ولكن بأشكال أخرى أكثر كارثية من إطلاق الرصاص مباشرة على رؤوس الأطباء والمرضى الممدين في غرف الإنعاش..
هذا الشعب قام بثورة وقدم التضحيات، وأتى بالحكام الحاليين بعد أن خلع السابقين، وهو ليس قاصراً حتى تحجب عنه الحقائق، فلا أقل من كشف المتورطين في هذه المجزرة الإنسانية المروعة، وإخضاعهم للعقاب العاجل، واتخاذ التدابير لمنع تكرارها، ومغادرة مربع الحلول التوفيقية بين الذئب والغنم..
للثورة شعب يحرسها، وللشعب رب يحميه، ولا نامت أعين الجبناء.