تأخذ تعز وضعية القرفصاء منذ العاشرة مساء كاقتران شرطي لها مع الموعد الثابت للقصف العشوائي على كل الحارات .. ينتشي أفراد الحرس الجمهوري جوار مستشفى الثورة فيتسلون بكم قذيفة وكم زخات رصاص وكم مجموعة دانات .. فالقذيفة من الدبابة والدم من رأس التعزي ، والمحافظ ابن البلد يقوم بالواجب .. إنسان مثقف وقانوني .. درس القانون وصار وكيل نيابة .. يذهب إلى جنيف يدفع ببراءة الحرس الجمهوري من دم المدينة النازفة ، ودليله كما يقول أن من ماتوا هم عشرات فقط !، وكأن المفروض أن يموت الألوف لتكتمل أركان الجريمة .
الحرس يرمون القذائف إلى الجو ثم ينظرون إلى أين تأخذها الصدفة ، ومن هو محظوظ أو منحوس ممن تتساقط عليهم .. في الصباح يتأمل قائد الحرس صور الضحايا في صفحات الصحف ، تطالعهم صورة عريسين في تعز ، لفظا أنفاسهما ومضيا ليكملا ما تبقى من شهر العسل في الجنة ، لأن شهرهم في تعز كان كله فجائع .
العريسان لفظا أنفاسهما بالصدفة المحضة .. وسبحان المقدر ، فالحرس لم يقصدوهم إطلاقا، لقد كان رميهم عشوائيا دون أي قصد جنائي .. لكن العرسان حظهم نحس .. هذا ما يمكن أن يثبته الصوفي الذي كنا نلتمس له العذر ، وندري نحن كما يدري هو بأنه لا في العير ولا في النفير وأن المدينة هي في قبضة قيران ، بينما ارتضى المحافظ لنفسه أن يكون ممسحة لجرائم العسكر .. وهكذا يخلع القانون قداسته ليرتمي تحت البيادة.
اليوم التالي يفتح الحرس الجمهوري نيران الدبابات والمدفعية والرشاشات طيلة الليل .. يعطي القائد الأمر بالقصف وهو يشاهد الدش ، يطالع لعبته المسلية كيف ستبدو في شاشة القنوات .. القصف المستمر طوال الليل أثمر جرحى فقط ودعوات لمسيرة حاشدة .. لم تنفع الوسيلة والنتيجة طلعت عكس .. لا بد من كبسة .. ألو .. واصلوا القصف ..
ومن الفجر حتى العصر والقذائف لا تنقطع ، وكأن عملية الرصاص المصبوب من إسرائيل حلت في تعز .. تتسابق وتتلاحق القذائف هنا وهناك .. الأدخنة تتصاعد ومئات الرصاصات الملقاة بحقد تتناثر على المنازل والشوارع .. في جميع الأحياء تقريبا تزدان غرف الاستقبال برصاصة او مجموعة رصاص مرصوصات في الشلف كذكرى ليوم النجاة من موت محقق بعثه الحرس الجمهوري كمزحة يومية يمارسها دون تحرج او ضرورة .
الرصاصات في البيوت صارت مقدمة لأحاديث لا تنقطع عن يوم الفاجعة والعمر الجديد الذي كتب باستقرار هذه الرصاصات تحت السرير او داخل الثلاجة .. الشظايا هي الأخرى قرينة قصص مؤلمة لضحايا أزهقت أرواحهم أو أصابتهم بالإعاقة أو الجراح .. ويحتفظ الجرحى بالشظايا التي كانت في أجسادهم كنيشان فخار .. ويظل اثر الجرح عنوان ضريبة مقدمة وشهادة مؤجلة ..
الفتحات التي أحدثها الرصاص على الجدران حولت جسد المدينة إلى خارطة ستشير مستقبلا إلى أن صالح مر من هنا .. كما صارت تخليدا لمرحلة سوداء ستكتب صحائفها عن النظام الذي كان يوزع الموت المجاني دونما تفرقة .
طوال 33 عاما تم إعداد الجيش وفقا لقاعدة .. احترم الرتبة ولو كانت على حمار .. هكذا .. احترم الرتبة ولا تسأل عمن تحتها ، إن كان ينطق بالكلام أم بالنهيق أم بالزئير .. لا يهم فمن تحت الرتبة قد نطق .
الواجب هو الضغط على الزناد ، عند تلقف الأمر من الرتبة العليا .. يمر الأمر من الفم إلى الإذن إلى الزناد إلى الأحياء رأسا .. ليس ثمة فاصل بين أمر القائد والزناد .. لا محددات ، لا خطوط حمر ، لا عدو محدد ، ليتسنى التأكد من صوابية الأمر .
لا تستغربوا .. فالدبابة ترفع فوهتها وتدك من جوار لوحة "ممنوع استخدام الأبواق أمامك مستشفى"