(1) البعض (غير بقايا النظام السابق) الذين بدأوا يعلنون خوفهم على الوحدة والهوية الواحدة لليمن واليمنيين، ويبدون معارضة مفاجئة قوية لفكرة الفيدرالية من أي نوع بوصفها تهديدا للوطن والشعب؛ كما جاءت في وثيقة الاتفاق حول حل عادل للقضية الجنوبية. هؤلاء مع تقديري لصحوتهم المتأخرة؛ إلا أنني أخشى أن إبداء القلق والمخاوف من (الفيدرالية) على الوحدة من قبل هذا البعض جاء في الوقت الضائع وليس فقط المتأخر جداً!
لا نقول ذلك من باب المكابرة بحكم أن الفيدرالية لم تكن الخيار المفضل لدينا؛ لكن الوطن شهد خلال السنوات الماضية ؛منذ بدء الحراك الجنوبي رسميا؛ أطروحات سياسية واجتماعية وتاريخية أخطر بكثير من (الفيدرالية) كانت وما تزال تصول وتجول في كل وسائل الإعلام، وتم الترويج لها في الندوات والحلقات النقاشية، وصدرت بها كتب وتقارير كان هدفها الأول هو تهيئة العقول والنفوس للانفصال ناهيكم عن الفيدرالية، ومن خلالها حدثت أكبر عملية تزييف وتشويه لوعي الإنسان اليمني في جنوب الوطن ؛وحيث ما حل في وطنه أو بلاد الاغتراب؛ وكان خلاصة مضمونها أن الوحدة والشمال والشماليين هم الشر الذي أصاب الجنوب والجنوبيين، وأن الحل هو في فك الوحدة، والعودة إلى الوضع السابق على 22 مايو 1990!
ومع ضراوة هذه الحملات التي ما تزال مستمرة، ومقادير الزيف والبهتان المدسوسة فيها، إلا أنها لم تجد من يتصدى لها بصراحة وقوة، خوفا على الوحدة والهوية الواحدة إلاّ قلة في إطار المعارضة والمستقلين (يمكن القول إن تصدي النظام السابق لها كان نوعاً من الدعاية الإيجابية المجانية لها لما يمثله من رمز للشر والفساد، حتى يمكن القول إن المخلوع لو كان حقا حريصا على الوحدة فأفضل شيء يعمله هو الهجوم عليها والمطالبة بالانفصال!. ومن ثم فأصحاب الخطاب الانفصالي استفادوا من ذلك كثيراً، وفي أعناقهم دين للمخلوع لأنه كان أسوأ دفاع عن الوحدة!).
وفي المقابل اندفع كثيرون في المحافظات الشمالية ؛بعضهم بسذاجة، وآخرون بخبث حزبي وطائفي من النوعين المبتلى بهما اليمن؛ للترويج لتلك الحيثيات المزيفة للوعي والمتناقضة مع الحقائق التي عاشها اليمنيون منذ 1990 ومنحها مشروعية سياسية ووطنية استغلالا لحالة التدهور المعيشي، وحالة الانسداد العام التي أوصل المخلوع البلاد والعباد إليها بممارساته الفاسدة وسياساته الفاشلة، وعجزه عن الارتقاء إلى المستوى الذي يفرضه عليه واجب حكم اليمن الموحد للمرة الأولى منذ مئات السنين!
[2] قد تكون الفيدرالية هي الحل الأكثر كلفة: مالياً وسياسياً (باستثناء الانفصال والكونفدرالية والحكم المستبد) لتجنب انهيار الوطن الذي يتربص به مربع الشر اليمني (النظام السابق+ القاعدة+ الحوثة+ الانفصاليون) لكن كثيرين من الذين نحسبهم مخلصين في رفضهم للفيدرالية وتخوفهم منها (وهذه الكلمات موجهة إليهم) تأخروا كثيراً في إعلان موقفهم القوي الصريح الرافض للفيدرالية (فضلا عن الانفصال) وهو موقف كان سيكون تاريخيا ووطنيا لو كانوا أعلنوه منذ ظهرت الفكرة على استحياء وحذر، ومن هؤلاء برمزيته الوطنية أو علاقاته الحزبية التاريخية مع المتحمسين للفيدرالية والانفصال، من لو كان بدأ تصديه للفكرة من البداية لنجح على الأقل في تحقيق فرملة مبكرة لهذا التوجه! لكن للأسف الشديد فضل المشار إليهم (لا نريد ذكر أسماء رموز وطنية مهمة ولا أسماء أحزاب وطنية نحسبها صادقة في قلقها المتأخر على الوحدة) السكوت والتوهان في أحاديث عائمة من النوعية التي لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً! انتظاراً – إن أحسنا الظن- لكسب ثقة الغاضبين والمتذمرين ثم العمل من الداخل لفرملة اندفاعاتهم الهوجاء، وتعديلها باتجاه صحيح يركز على علاج المرض الحقيقي وليس الظواهر، أي إصلاح الدولة المريضة أو نظامها المختل منذ تأسيسها، بدلاً من تحميل الوحدة تبعة ذلك. أما إن أسأنا الظن فقد فضلوا موقفا انتهازيا يضمن لهم التصفيق، والثناء فسكتوا على الخطأ، وبرروا حيثياته في أحيان كثيرة، لكيلا يقال عنهم إنهم عملاء للمخلوع، وكأن الوحدة إرث خاص به وليس روح اليمن وقلبه ومصيره!
(3) نكرر القول للمرة الألف إن الخلل لم يكن في الوحدة ولكن في التآمر عليها وتأميمها لمصالح حزبية وشخصية، أما مطلب (الفيدرالية) أو (الحكم المحلي السليم) فليسا هما الخطر الحقيقي أو الأول على الوطن اليمني والشعب اليمني، ولولا الظرف الخطير الذي يمر به اليمن، وتتكالب عليه المؤامرات من الداخل والخارج، لكان يمكن أن تتغير المواقف تجاههما، فليس عيبا ولا فخرا رفض أو قبول هذا الخيار أو ذاك ، فالخطر الحقيقي كان يتمثل في ممارسات من طرفين، النظام السابق بسياساته العقيمة التي كانت وقوداً للفوضى والدعوة الانفصالية. والطرف الآخر هم دعاة الانفصال أو فك الارتباط أنفسهم الذين راحوا كالعاصفة الهوجاء يحطمون قيماً ومبادئ وطنية نبيلة، وينشرون أوسع منظومة من الأكاذيب لإثبات صحة مواقفهم الشاذة!
قولوا لنا: ما هو أخطر؟ الفيدرالية على مقترح الإقليمين أو الستة، أو سنوات من الحملات الإعلامية والدعاية السياسية التي تنال من الهوية اليمنية الواحدة، والأخوة اليمنية الجامعة لشعب موحد: ديناً، ولغة، وثقافة، وتقاليد وعادات، وتاريخاً وجغرافية؟
وما هو أخطر على اليمن واليمنيين؟ قبول فكرة الفيدرالية لقطع الطريق على مربع الشر أم ذلك الخطاب العبثي العنصري المجنون الذي راح منذ 2007 على الأقل يزرع الفتن والأحقاد بين اليمنيين بحجة أن الشمال والجنوب شيئان مختلفان متناقضان متعاديان لا يلتقيان أبدأً لا في تاريخ ولا هوية؟
أيهما أخطر وأسوأ وكان أجدر بالتصدي له وتفنيده، الفيدرالية كنظام سياسي وإداري له إيجابياته وسلبياته عندما نصت عليها وثيقة الحل العادل الأخيرة. أم هذه الهوة النفسية السحيقة التي نشط الانفصاليون – وسكت عنهم كثيرون في الشمال منهم كثيرون من المحذرين من الفيدرالية ألآن- لخلقها بين الشمال والجنوب، والشماليين والجنوبيين حتى وصلت إلى إنكار يمنية الجنوب تماماً؟ كم واحد من هؤلاء فتح صفحات جرائدهم وسخروا أقلامهم لمواجهة تلك الدعاوى الباطلة؟ إن لم نقل إنهم راحوا يطبطون على دعاة الفتنة ويظهرون لهم تأييدا على بياض فأعطوهم إشارات خاطئة أنهم على حق، وحيثياتهم صحيحة (لا نتكلم هنا عن المطالب الحقوقية المشروعة فحتى قيادات الانفصاليين متورطة في ذلك أيضا).
ماذا كان يتوقع هؤلاء أن تكون النتيجة عندما يسمع مواطنو الجنوب قوى سياسية ورموزا معروفة تنتمي للمحافظات الشمالية وهي تساند الخطاب الكاذب أو المبالغ في أبسط الحالات، عن تهميش الجنوب ومحاربته، وسحق تاريخه، وتشويه تقاليده وتحطيم انجازاته ونهب أراضيه وثرواته، وتشريد أبنائه وحرمانهم من الوظيفة العامة، ومن الحصول على أرضية أو بيت له ولأولاده؟ هل تتذكرون ماذا كتبت صحيفة ثورية جدا في صفحتها الأولى، أن المواطنين في عدن استيقظوا صباح 7 يوليو 1994 ليجدوا غرباء يقتحمون منازلهم ويطردونهم منها ويحلون محلهم؟ رددنا على هذه الكذبة يومها لأننا كنا في عدن بعد يومين من ذلك التاريخ! وإن كان ذلك لا يمنع أن مواطنين سابقين نهبت منازلهم في دورات الصراع الدموي السابق على الوحدة وعادوا ليستردوها، لكن تقديم الامر بتلك الصورة هو أخطر من الفيدرالية!
أين كان هؤلاء الذين بدأوا يوزعون الاتهامات الغبية على الآخرين يوم كان يقال إن الجنوب ليس يمنياً. وأن هوية الجنوب وتاريخه وثقافته ليست هي هوية الشمال وتاريخه وثقافته؟ هل ثارت غيرتهم؟ هل بكوا الهوية الواحدة؟ هل شحذوا أقلامهم وبياناتهم لمواجهة ذلك الخطر أم سكتوا وطنطنوا؟
للأسف الشديد، سكت معظم هؤلاء كالشيطان الأخرس واحتموا بتقاليد الأممالمتحدة التي لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، وتتحدث في العموميات، وتقول: نعم وهي تقصد: لا.. وفي الوقت الضائع انتبهوا أن الوحدة والهوية الواحدة في خطر ليس من دعاة الانفصال وفك الارتباط وإنكار يمنية الجنوب، ولكن ممن وافق على أن تكون الدولة الجديدة فيدرالية بأربعة أو خمسة أقاليم!
(4) على رأي المثل اليمني: [حيّا الله بالمليحة من أين ما جت!] فالترحيب بالغيورين على الوحدة الخائفين عليها من الفيدرالية واجب ولو أن الوقت قد لا يسعف.. وفي آخر ساعة.. وربما آخر لحظة، لكن من المهم ألاّ تتحول غيرتهم ومخاوفهم الآن إلى ممارسة خاطئة أخرى في بيان تعليلاتهم. فمن الجائز أن يقولوا إنهم يخافون على الوحدة والوطن والشعب، لكن من العدل أن يتواضعوا ويتجنبوا تقليد مسرحية السيسي المصرية المتظاهرة بالعداء للمؤامرة الصهيونية الأمريكية! ولا سيما أنهم صمتوا يوم كان الكلام واجباً وحدوياً وقعدوا يوم كان الوقوف انتصاراً للوحدة وهزيمة للصهيونية الأمريكية!
منذ البداية كان التصدي للدعوات الانفصالية والحلول الخطرة على الوحدة والهوية أسهل بكثير، فقد كان أصحابها أنفسهم أكثر حذراً وتخوفاً من ردود الأفعال، لكن للأسف حدث الصمت المعيب. بل وأكثر من ذلك تسابق كثيرون في الشمال خاصة لاحتضان تلك الدعوات، والترويج لأصحابها من خلال فتح وسائل الإعلام لهم، والتسابق لإجراء الحوارات الصحفية، والتعامل معهم كأبطال ومظلومين وأصحاب قضية عادلة دون الانتباه إلى كميات السموم والأكاذيب والتظليلات التي احتواها خطابهم السياسي والإعلامي! كل ذلك حدث سذاجة من البعض الذي ظن أنه يضر النظام السابق. وخبثاً من بعض ثان للاستفادة منه في مشاريعهم الصغيرة المقابلة. وانتهازية من البعض الثالث لابتزاز النظام السابق وغرف ما تيسر من أمواله والحصول على مناصب بدعوى الدفاع عنه! حتى صح القول إن هؤلاء كانوا الحامل الإعلامي لأولئك.
ادعاء البراءة اليوم لا ينفع. وخاصة الذين دخلوا مؤتمر الحوار وهم يعلمون أن الفيدرالية بل الانفصال مطروح بقوة منذ اللحظة الأولى. ويعلم القراء أن كاتب هذه السطور لم يكن من المتحمسين للفيدرالية في الظروف القائمة، وقد قلت رأيي فيها وفي البديل، لكنني لا أراها أسوأ من الانفصال والنظام السابق الذي تأسس مطلع الوحدة، والذي تعمل جهات داخلية وخارجية على تمكينه.
على أن حل الفيدرالية ببضعة أقاليم أفضل من فيدرالية الإقليمين، ومن الانفصال ومن الاستمرار في هذه الدوامة التي لن يستفيد منها إلا مربع الشر، وهو حل وسط إلى حد ما ويحظى بقبول كبير (وخاصة في المناطق الشرقية وعدن، فليس صحيحا أن الجنوبيين كلهم متحمسين لفيدرالية الإقليمين). وهو يحافظ على الوحدة ويحميها من مشاريع المجانين، ويحقق صورة من الفيدرالية للمتحمسين لها.. وعلى الذين لم يقتنعوا نهائيا أن يشمروا سياسيا للعمل على كسب الأغلبية في أي انتخابات قادمة لإقناع الشعب بمشروعهم الخاص: تحويل الدولة إلى فيدرالية بإقليمين، أو الرجوع عنها لصالح الحكم المحلي واسع الصلاحيات، أو حتى العودة إلى نظام 22 مايو القديم إن رأت جبهة المخلوع أنه صالح للعمل به!
[5] الذين سكتوا على دعوة الانفصال ودعاته وثاروا اليوم ضد فيدرالية من عدة أقاليم؛ كأنهم يقولون: [ فيدرالية؟ يا عيباه.. قد الانفصال أهون!].. أي كأنهم لا يعلمون ما يدور من مؤامرات داخلية وخارجية!
الاتهامات التي تطاير ضد الموافقين على الفيدرالية هي صورة من الانتهازية؛ فالذين يطالبون بستة أقاليم مدانون وعملاء. وأصحاب فكرة الإقليمين في مأمن من النقد!
والذين يطالبون بالحكم المحلي في أمان من نقد وشتائم أصحاب فكرة الإقليمين المتفرغين للنيل فقط من أصحاب مشروع الستة أقاليم! هل رأيتم أغرب من هذا؟
كلمة أخيرة للرافضين للستة الأقاليم والحكم المحلي: كل طرف منكم يقنع حلفاءه التاريخيين الرافضين لفكرته لمصلحة الحكم المحلي أو الفيدرالية.. وعندما يتحقق إجماع فتأكدوا أن الموافقين على الستة أقاليم سيكونون أول المرحبين بذلك!