[1] المبررات التي يسوقها الحراك الانفصالي المسلح لأعماله الإرهابية ضد إخوانهم اليمنيين من أبناء الشمال ليست عملاً جديداً.. والصراخ عن الجنوب المظلوم، والوحدة التي جاءت بالمشاكل والمظالم ليست أيضاً كلاماً جديداً.. والأكثر أهمية أنها ليست وليدة حرب 1994 ولا ما جرى بعدها؛ فقد كانت كل هذه المبررات لدعوة الانفصال موجودة منذ 1992 عندما اشتغلت الآلة الإعلامية والحزبية العريقة في "الدعاية والتحريض" لشيطنة الوحدة والشماليين، والترويج بأن الحل لما يعانيه الناس في الجنوب من مشاكل ومعاناة هو العودة لما قبل الوحدة التي لم تعد مرغوباً فيها! [رغم أن الحكومة حينها كانت برئاسة قيادي اشتراكي بارز، ونصفها من الحزب الاشتراكي، والرجلان الأول والثاني في الحزب عضوان في مجلس الرئاسة، ونصف البرلمان من نفس الحزب.. وسبحان الله: يخلق من الشبه أربعين؛ فهذا هو نفس الخطاب الإعلامي والسياسي للمخلوع صالح الآن تجاه عهد ما بعد المبادرة الخليجية الذي يحمله مسؤولية كل مشكلة كان هو السبب فيها!].
في تلك الأيام لم يكن هناك نهب شامل ومتعمّد للأراضي في الجنوب، وتوزيعها على الأقارب والأصدقاء وأهل البلاد؛ إلا كما كان يريد سيّد وزارة الإسكان الاشتراكي وبتوقيعه! ولم يكن هناك أي تسريح للجيش الجنوبي البطل (الذي كان يخيف أمريكا والخليج، ويجعل العرب منهم لا يطعمون حلاوة المعسل، والأمريكان لا يهنأون بالهمبرجر والبيبسي).. ورجال الأمن الأشاوس كانوا كما هم لم يسرحهم أحد ولم يظلمهم شمالي.. والجميع كانوا في غالبيتهم من 3 أو 4 مديريات من محافظة واحدة تحديداً، ومن جزء من محافظة أخرى. وحتى بدء استلام نقود بترول المسيلة كان اليمن بشماله وجنوبه يعيش على زلط بترول مارب الدحباشي ابن الدحباشي!
ومع كل تلك المواصفات؛ فمشروع الانفصال بدأ حينها، وشيطنة الشمال والشماليين المتخلّفين الفوضويين بدأت من تلك الأيام، وكل ما يلوكه دُعاة الانفصال اليوم هو إعادة انتاج تلك الممارسات التي حدثت على خلفية عدم التوافق أو نهاية شهر العسل بين الحزبين الحاكمين في الفترة الانتقالية، وفشلهما في الاتفاق على صيغة استمرار تقاسمهما السلطة والثروة والشعب والوطن؛ نظراً لاقتراب موعد الانتخابات النيابية، واضطرارهما لخوضها إما بقائمة موحدة أو كل على مسؤوليته، وفي الحالتين كانت الخطة السرّية لنهب الوحدة والديمقراطية (انتاج نفق جولد مور) مهددة بالضياع، ويومها وجد الطرف القليل عديدهم أن الحل هو في القاعدة الشعبية السعودية المعمول بها عند تصادم سيارتين: (أي: كل واحد يصلح سيارته، وسماح يا عين، وكل واحد يروح بيته!).
[2] لأن في كل شر خيراً ما؛ فقد كشفت حادثة قتل الشيخ سعد بن حبريش أن الجنوب أيضاً مليء بالقبائل، ولها تجمّع وقيادة مثل الشمال تماماً، وهم يسيرون في مواكب، ولهم مرافقون مسلحون بالضرورة.. الفارق أن قبائل الجنوب وشيوخ قبائلها من النوع الذي لا يصيب دُعاة المدنية وكارهي القبيلة والمشيطنين لها في الشمال والجنوب بأي عارض مرضي بدءاً من الربو وانتهاءً بالبواسير المزمنة، ومروراً بالحكة الشديدة.. وهم على استعداد للدفاع عنهم وامتداحهم.. وعلى عينك يا حاسد أو يا حاشد!
ولكيلا يقول أحدهم: هذا من ثمرات عهد ما بعد 1994؛ فلن نفتح الجراح ونذكر بالحرب الدموية المدنية المتحضرة الخالية من القبيلة والقبائل في يناير 1986.. وسأذكر فقط مضمون رسالة أرسلها بالفاكس (ولدينا صورة منها) الأستاذ سالم صالح محمد (عضو مجلس الرئاسة والأمين العام المساعد للاشتراكي) في نهاية 1992 أثناء أحداث العنف أو هبّة ديسمبر استغلالاً لمعاناة الناس من التدهور المعيشي بسبب فشل حكومة الحزبين.. والرسالة كانت موجّهة لرئيس مجلس الرئاسة ونائبه، تدعوهما إلى ا لسماح لقبائل عدن والضالع ويافع بالوصول إلى صنعاء (أكرر صنعاء) لحمايتها مما وصفتها الرسالة من هجوم قبلي آخر!
الحمد لله، القبيلة والقبائل ومشايخ القبائل ليسوا شراً مُطلقاً، وينفعون في اليوم الأسود، وحتى مشايخ الشمال يمكن تجاوز شيطنتهم عندما يتعلق الأمر بالإعلانات الأسبوعية، والمساعدات الودية لإصدار صحف تنافح عن الدولة المدنية، بل يمكن أن يصل الأمر إلى الانخراط في أي حزب سياسي أو تجمع تضامني يؤسسه أي شيخ، فليس في ذلك معصية، والضرورات تبيح القبائل والقبيلة، وربما اقتنع هؤلاء بما كتبه كاتب راحل عن أمثالهم ممن نسوا ما كانوا يقولونه عن الرجعية وعملاء الاستعمار فتهافتوا على جوائز عتاة الرجعيين العملاء ولسان حالهم يبرر فعلهم قائلاً: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..!".
وأكاد أجزم أنه سيأتي يوم ستصير فيه حتى القاعدة شيئاً مقبولاً طالما أنه جنوبي، ويؤيد الانفصال، ويتحدث عن الهوية الجنوبية. وتماماً كما نلاحظ اليوم كيف حصل سلفيون وعتاة في فقه الجهاد ضد الشيوعيين على البراءة وال"أيزو" منذ التحقوا بدعوة الانفصال واستعادة الدولة الجنوبية! فلا تثريب عليهم، ولا لوم، ولولا أنهم سلفيون متشددون لغنّى لهم دعاة المدنية كارهو السلف والخلف أغنية المغني القديمة: "بلاش العتاب"!
[3] مطلب قبائل حضرموت في حضرمة الأمن الداخلي وشركات البترول أمر ليس فيه مشكلة؛ بشرط تعميمها على محافظات أخرى مثل عدن والمهرة وسقطرى؛ بحيث تتم عدننة ومهررة وسقطرة الوظائف فيها، وقصرها على أبنائها الأصليين وليسوا الوافدين الطارئين الوفيين لمناطقهم الأصلية. ومن غير المعقول أن عدن مثلاً التي كان عدد غير قليل من ضباط الأمن فيها في الستينيات من أبناء عدن (قال لي أحدهم وهو ما يزال حياً حتى الآن: كنا مسيطرين عليه) لم يعودوا إلا كالغرباء وهم يرون معظم المسؤولين في مدينتهم من خارج المدينة، وبالتحديد من تلك المديريات المقدّسة المشار إليها سابقاً، والذين يتصرفون فيها وكأنهم أبناء المدينة الأصليين وغيرهم وافدون.. وبمعنى آخر، فالأمر يحتاج أيضا إلى هبّة في عدن ل"عدننة" وظائف الأمن والإدارة كلها أسوة بحضرموت، بل حتى الحراك الجنوبي في عدن بحاجة إلى "عدننة" لأن الغالبية العظمى منهم من خارج المدينة.. والمصادفة أنهم من نفس المديريات المقدّسة! وهم بالمناسبة الذين يقومون بعمليات شراء واسعة النطاق للمنازل، وبناء الجديد منها ليضمنوا أغلبية حين أي استفتاء.. وهم يفعلون ذلك في الوقت الذي تتفرّغ فيه مواقعهم الإعلامية للحديث عن الشماليين الغرباء الذين هجموا على عدن ليحتلوها ويغيروا هويتها التاريخية!
نريد من المتحمسين لإضفاء المحلية على الوظائف في محافظاتهم الجنوبية أن يفتوا أيضاً في كيفية التعامل مع أبناء محافظاتهم الذين يملأون محافظات الشمال.. هل هؤلاء سيكونون مُعرّضين لنفس المعاملة أم أن الأمر يحتاج لهبّة شمالية قد يكون السفير طوّاف يعد لها الآن أسوة بغيره؟ نقول هذا لأن المجال أو الشهية سوف تنفتح عند الجميع.. والحراك الانفصالي المسلّح المجرم الذي أحرق محلات الشماليين وطالبهم بالخروج من حضرموت والجنوب (وغداً سيطالبون الجنوبيين من غير محافظاتهم بالمطالب نفسها!) سيظهر له مقابل ولو على طريقة قاعدة المخلوع!
تخيّلوا رداً على إحراق أسواق القات بتهمة الشمالية؛ أن يتجرأ حراكيون شماليون لإحراق محلات بيع التمباك الحضرمي، والحنة، والعسل، وحتى "التمبل" الوارد من حضرموتوعدن وشبوة!
[4] بصرف النظر عن حركات "نُص كُم" التي قام بها المخلوع ووسائل إعلامه الرسمية حول التحذير من الفوضى أثناء الهبّة؛ فالموقف الحقيقي للمخلوع يظهر في الوسائل غير الرسمية التابعة له، ففيها كان الاهتمام بنجاح الهبّة واضحاً، والترويج السيد لأخبار الاستعدادات ثم النجاحات المزعومة لا تخطئها العين، وهي بالمناسبة مما يتناقض مع البكاء على الوحدة المهددة بفيدرالية الإقليمين في لجنة 8+8 في مؤتمر الحوار.. ومثلهم: المغفلون التاريخيون الكارهون لمركز صنعاء المقدّس، الذين يعادون تاريخ الإمامة في الجنوب ويؤيدونها في صعدة ويسكتون عن أفعالها الإجرامية، ومن حولهم يوسوس الحوثة الجدد للحراك: انفصل، كمثل الشيطان إذ يقول للإنسان: اكفر!
[يستحق المخلوع إشادة خاصة؛ ليس لأنه ذكي ولكن لأنه الأكثر كفاءة في معرفة أقذر العناصر الإعلامية وأكثرها سفالة من كل مكان وحزب ثم استخلاصها لنفسه واستخدامها لتحقيق أهدافه.. ماذا نقول: مواهب!].
[5] هل لاحظتم أن اليمنيين المؤيدين للقمع المصري ضد المتظاهرين السلميين المعارضين للانقلاب العسكري هم الذي يذرفون الدموع على ما يحدث في الجنوب عندما تتصدى قوات الأمن لعمليات التخريب الحراكية؟
في مصر يؤيدون سلطة القمع وقتل الحريات، ونهب ثروات الشعب المصري مثلهم بالضبط مثل بقايا نظام المخلوع صالح.. وفي اليمن يناضلون من أجل حرية التظاهر والاعتصامات، واسترداد حق الشعب في حكم نفسه.. ودون أن يعوا أنهم ينفذون حلم المخلوع في تفكيك الوحدة ليقول للعالم: أم نقل لكم؟