تحشد الحكومات الفاسدة والمستبدة جموع المتظاهرين لتهتف للرئيس أو القائد أو الزعيم، في حين تخرج مظاهرات المعارضة لتهتف للوطن وللحرية والديمقراطية.. ما حدث في اليمن في الأيام الماضية هو العكس، فحشود الاصطفاف الوطني لم تهتف بحياة رئيس أو زعيم، وإنما هتفت للوطن ورفعت علم الجمهورية اليمنية، في حين امتلأت الحشود التي نظمها الحوثي بصور "السيد" واللافتات الخاصة بجماعته، ورددت صرخته، بل ورفعت حتى أعلام بشار الأسد. المشهد إذاً لا يمكن اختزاله بمعارضة الجرعة (رغم مشروعية المعارضة السلمية لها)، ولا يمكن استهبال الرأي العام بالقول إن مظاهرات الاصطفاف الوطني هي مظاهرات مؤيدة للزيادات السعرية!
استدعاء ثورة 2011، وتصوير أن ما يحدث اليوم في 2014 كثورة مشابهة، استدعاء صحيح مع فارق جوهري أن الأخيرة ثورة مضادة تستهدف العودة إلى ما قبل 26 سبتمبر 1962، حتى وإن استمر علم الجمهورية مرفوعاً، المهم أن يكون "السيد" فوق الجميع.
لذلك يأتي الفرز المناطقي الذي تم الترويج له مؤخراً ليخدم المشروع الحوثي، وعندما تتم قراءة خلفيات الأحداث الأخيرة بمنظار مناطقي، فإن المتضرر الأول هو المشروع الوطني.
يمكن قراءة خروج الإصلاحي إلى جانب الاشتراكي والمؤتمري في مظاهرات الاصطفاف الوطني المناهض للحوثية باعتبارها مؤشرات لخارطة سياسية جديدة ربما تتشكل قريباً، مقابل التحالفات التي ينسجها الحوثي حول نفسه من رموز مؤتمرية، وشخصيات يسارية وامتدادات معروفة في أحزاب سياسية على ضفتي المؤتمر والمشترك.
هذه الحالة السياسية لا يمكن أن تستمر أو تزدهر مع إصرار جماعة الحوثي على التمسك بخيار العنف والعمل المسلح، وهو خيار رخيص وفي متناول الجميع، لكنه لا يهدم الحالة السياسية فقط وإنما يقود اليمن إلى الخراب.
عندما خرجت ذمار إلى جانب صنعاء وتعز والحديدة وإب تصرخ جميعها في وجه جماعات العنف والإرهاب لم تخرج لتؤيد الجرعة أو لتمنح الرئيس هادي وحكومة الوفاق شيكاً على بياض، بل إن تلك الحشود قد بعثت الأمل مجدداً في إمكانية وجود طريق ثالث ينتشل اليمنيين من إخفاقات حكومة فاشلة وإرهاب جماعة قاتلة.
فمن تباهى بالأمس بقتل 60 ألف جندي يمني، وكان سبباً في تشريد الآلاف من محافظات صعدة وحجة وعمران، أصبح اليوم ناطقاً باسم الشعب وممثلاً لطموحه وآماله!
بل إن المفارقة وصلت لدرجة تشبيه الحوثي بالشهيد الثائر المقدم أحمد يحيى الثلايا، صاحب المقولة الشهيرة ""شعب أردت له الحياة وأراد لي الموت"!
حدث ذلك عندما شاهد بعض المخدوعين بالحوثي مظاهرات الاصطفاف الوطني، وتأكدوا بالفعل أن الحوثي ليس هو الشعب اليمني، ولا يمكن أن يمثله.
حشود الاصطفاف الوطني كما خرجت اليوم في وجه غطرسة الحوثي وإرهابه، ستخرج غداً لتصحيح مسار الفشل في إدارة الرئيس هادي وحكومة الوفاق للبلد، وربما ما تزال الفرصة سانحة لإجراء مراجعات جوهرية في إدارة الملف الاقتصادي، تضمن أن يتم "تجريع" الفاسدين والنافذين أضعاف ما يتجرعه البسطاء من غلاء الأسعار بعد رفع الدعم عن المشتقات النفطية، مع رسم معالجات للتخفيف عن الفقراء وهم الأغلبية الساحقة في هذا البلد.
إن كانت الرئاسة والحكومة حريصة على أن يصدقها الناس، فلتقدم أدلة عملية على "التوزيع العادل للكلفة والألم".