باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الواقع والشعر والترميز في رواية «جدائل صعدة»
نشر في المصدر يوم 25 - 08 - 2014


-1-
بهذه الرواية وبأمثالها من الروايات الأحدث التي ظهرت في الآونة الأخيرة تكون اليمن قد دخلت دنيا الرواية من بابها الأوسع والصحيح بعد أن طرقت هذا الباب لأول مرة في ثلاثينيات القرن الماضي، وتابعت رحلتها في حالة من التعثر والتباعد إلى الستينيات والسبعينيات من القرن نفسه حين بدأت المحاولات الجادة والرائدة في الظهور لتثبت وجود هذا الفن الإبداعي إلى جوار الشعر الذي كان هو الصنعة الإبداعية المعترف بها، وفن القول الوحيد والرائج في مجتمع تقليدي في تنشئته الأدبية. وكان لابد أن يمر هذا الوقت الطويل قبل أن يفسح الشعر المجال للرواية بمواصفاتها الأحدث ويبدأ زمن السرد بوصفه فناً تخيلياً يأخذ مادته الأولية من الواقع بصورة غير مباشرة، وغير مألوفة، مع العناية الفائقة باللغة التي لم تعد سرداً جافاً بل تماهى فيها الشعر، وتماهت به، في منأى عن الإنشائية والأسلوب الرومانسي الذي طبع الرواية في مرحلة ما بطابعه اللغوي والشعوري.

وإذا ما استمر هذا الزخم الروائي الأحدث في التصاعد فلا أستبعد أن تحظى الرواية في اليمن بما حظيت به الرواية في أمريكا اللاتينية، إذ ما تزال هذه البلاد تحتفظ بمخزون هائل من الأساطير والوقائع التاريخية والراهنة التي لم تجد من المبدعين من يتمثلها ويقرأها قراءة إبداعية ويدخل بها، ومن خلالها، إلى ملكوت الإبداع الأدبي. ويبقى الأمل معقوداً بالجيل الجديد من كتّاب الرواية، ومنهم الشاعر والسارد الجميل مروان الغفوري الذي اتجه في الآونة الأخيرة إلى كتابة الرواية، وصار له منها ثلاث روايات قرأت له واحدة منها بإعجاب، هي "الخزرجي"، وسبق أن تعرفت عليه عن بعد عن طريق عدد من الأصدقاء الذين تحدثوا عنه باهتمام، ووصفوه بطبيب القلب المتميز والناجح إضافة إلى إنسانيته وعدم اهتمامه بالمال معبود غالبية الأطباء.

-2-
ربما تسارع القراءة الخاطفة أو تلك المستوحاة من عنوان الرواية إلى وضع هذه الرواية في خانة روايات الحرب، أو في قائمة الروايات السياسية، وسيكون في ذلك التقييم المتسرع إجحافاً في حق عمل روائي فاتن وبديع، بالغ الجمال والرهافة، لا تخلو مشاهده من الحرب والحب ومن السياسة بمعناها الفكري العميق. ولا يكفي أن يكون اسم صعدة في عنوان الرواية، وما يجري في تلك المنطقة التي كانت وما تزال تمثل بؤرة للتوتر والنزيف الدموي صدى للحرب أو تسجيلاً لتفاصيلها المتلاحقة، فالأمر يختلف تماماً، فهي رواية أوسع وأشمل وأبعد من أن تكون تسجيلاً، أو ما يشبه التسجيل. صحيح أن الحرب موجودة أحياناً في سطور وأحياناً في صفحات، لكن موضوع الرواية أبعد من الحرب ذاتها، وأبعد من الدماء التي لم تتوقف عن المسيل.

ولا أخفي أنني قبل قراءة الرواية كنت عرضة للوقوع ضحية العنوان، إلاَّ أنني ما كدت أبدأ القراءة حتى غمرني شعور مختلف تماماً، وأحسست أنني إزاء عمل روائي منفرد لا يبحث في حروب صعدة وتداعياتها، ولا تربطه بمفاجئاتها المتلاحقة، سوى خيوط لا تفتأ أن تذوب في صميم هذا العمل الروائي المتقن، ولا تلبث أن تتحول إلى عالم من التفاصيل العابرة كالضوء إلى محيط من التحليلات العميقة الخاصة بالأسباب الضالعة في صناعة الانقسامات والحروب داخل المجتمع الواحد المتجانس وإلى منافذ لحلول مصيرية.

وما أثار إعجابي أكثر أن الروائي عرف كيف يتجنب وصف وقائع الحرب ودور هذا الطرف أو ذاك في تأجيجها. بل لا نشعر بشيء منها، إذ اكتفى بتقديم عمل روائي غير منحاز لهذا الطرف أو ذاك، وجعل أطيافاً من تلك الأحداث التي وقعت تحكي نفسها في تشابك وبناء مظفور بدقة.

والرواية لا شك تدين الحرب، وتدين القتل اللعين، قتل الحياة، قتل الأطفال، القتل الذي لا يميز بين محارب ومسالم، بين راعي الأغنام والمحارب. وتجعل المسئولية مشتركة بين المتحاربين هؤلاء الذين فقدوا منطق التسامح ولغة الحوار، واحترام حق الحياة للجميع، وحق الجميع في اعتناق ما يشاؤون من مواقف وأفكار. نحن حقاً إزاء عمل يفرض الإعجاب بما حققه من قيمة فكرية وفنية.

-3-
قليلة هي الروايات التي شعرت بحزن عميق عند إكمال قراءتها وأحسست أن بي رغبة في العودة إليها ورفض مفارقتها، و"جدائل صعدة" واحدة من هذا النوع الآسر بأفكاره ولغته وبنيته، وبالشعر الذي يتناثر بين سطوره. وقد أكد مروان في هذا العمل البديع أنه شاعر حقيقي يعرف كيف يصطاد التعابير والجمل الشعرية وكيف يحرر الرواية من سيطرة السردية المباشرة.

ولعل أول ما يدهش القارئ ويلفت انتباهه في الرواية شكلها المستحدث القائم على نظام الرسائل المتبادلة بين بطلة الرواية وكاتبها، بين إيمان ومروان، وهو أسلوب مبتكر لم يظهر سوى في عدد محدود من الروايات، ويعطي القارئ وهماً جميلاً يقترب من الحقيقة بأن إيمان ومروان هما بطلا الرواية فعلاً، من خلال رسائلهما التي تتابعت عن بُعد. وإذا كانت إيمان، أو زينب كما كشفت في نهاية الرواية عن اسمها الحقيقي، قد اختارت مروان لكتابة حكايتها مع القرية والحرب والتقاليد والتخلف والعزلة التي فرضتها بعض المناطق على نفسها في غياب الدولة، حتى لا يتسلل النور إلى سراديب قراها ومدنها، فإن تلك لم تكن سوى بعض التفاصيل التي استوعبتها الرواية، فقد انتقلت البطلة من صعدة إلى صنعاء، وكان المنزل الذي سكنته يقع في حي الجامعة قريباً من الساحات التي استضافت شباب ثورة 2011م، التي كانت قد بشّرت باندماج كل التيارات السياسية والفكرية في ساحة واحدة وموقف واحد.

الرواية تقوم على نظام الرسائل وتتألف من سبعة وعشرين رسالة تتفاوت في الحجم وفي ملامسة الواقع. تبدأ الرسالة الأولى فيها بهذا التعريف المقتضب بالطرف الأول، وبعبارة أوضح بصاحبة الرسائل التي صنعت الجزء الأكبر من نص الرواية: "عزيزي الكاتب مروان الغفوري، أنا فتاة من صعدة، اسمي إيمان، وهذا مجرد اسم مستعار، لدي قصة. في الحقيقة أنا قصة. إذا وجدت في نفسك الرغبة لسماعها أبلغني، لا أدري كيف سأرويها عليك، ولا كيف سترويها لقرائك. أشعر برغبة في الموت، وأخشى على قصتي أن تموت مثلي، أو معي". (ص9 )

لم تكتب إيمان أو زينب رسائلها إلى مروان من قريتها النائية المغروسة في سفح واحد من جبال صعدة العالية، وإنما كتبتها هنا في صنعاء بعد أن انتقلت إليها للعلاج من ورم البطن الذي عانت منه وجر عليها من الأقوال والاتهامات الباطلة ما جعلها تعيش في مناخ من الجحيم الموازي لجحيم الحرب. كان من المستحيل أن تكتب إلى مروان أو غيره، قبل أن تسكن في صنعاء، وتتمكن من التعامل مع وسائل التوصيل والمراسلات الإلكترونية الحديثة لترسم من خلالها لوحات مؤثرة عن معاناة الناس من الحرب، وتحديداً في قريتها الصغيرة، مع إشارات دالة إلى الواقع الاجتماعي والعلاقة التي كانت قد بدأت في الانزلاق نحو خلافات على أمور لم تكن معروفة قبل الحرب التي صارت محور أحاديث الناس في القرية: "عادت الحرب ثم غابت، لكنها سرعان ما عادت من جديد.

لا يعرف أحد الطريق إلينا أكثر من الحرب. إنها الرحّالة الوحيد الذي يكشفنا كل سنة، ثم يهيل علينا التراب ويمضي بعض الوقت. حتى أن نساء القرية كن يحلفن بالله إنها الحرب العاشرة، عندما كانت الحرب الرابعة تضرب الطبول والمدافع". (ص68) ، وعلى مدى شهرين من 4 فبراير 2014م إلى 21 مارس من العام نفسه، استمر التواصل بين بطلي الرواية، ونمت بينهما في هذه الفترة القصيرة علاقة حب حميم، وصلت بالرسائل إلى نقطة الذروة بعيداً عن التكلف والتصنع، وفي سياق من التلقائية والتوارد الحر . وقد انتهت الرواية، أو بالأحرى الرسائل، دون أن يتم لقاء ما بين الحبيبين اللذين تجلى حبهما على الورق في تجربة إبداعية لا تصدر عن عالم مرئي جاهز تماماً، ولا تتجاهله، بل تمشي به على جمر الروح في إشارات تشير ولا تشرح وتضمر أحياناً ولا تفسر.

وبطبيعة الحال فقد كان الواقع بمرارته وبؤسه يسيطر على رسائل إيمان بينما تتميز رسائل مروان بالسرد الرائع الشائق، وبوصفه مبدعاً بامتياز فقد تفطّن لأبعاد تلك المرارة التي تبدو في رسائل إيمان، وحاول ما استطاع أن يخفف من مخاوفها عبر إشارات تنم عن وعي عميق بمقتضيات المرحلة وملابساتها ومؤثراتها التاريخية: "عودي مرة أخرى، يا إيمان، إلى الكلمات الأولى، عندما قلت لك يا شمس الله، اعبري أزقة القرية حافية، تحسسي ملامحي، ملامحي أنا، احملي نعليك تحت إبطيك كما فعل "بِشّر الحافي"، الصوفي الأكبر، واسلكي الدروب الضيقة في الوادي والقرية، اهبطي إلى الطفولة من جديد، أعبري الأزقة وافتحي قلبك، أغمضي عينيك وافتحي بصيرتك. عودي إليها الآن أو غداً". (ص207 )

-4-
لقد عرفت اليمن الخلافات المذهبية منذ وقت مبكر وتعايشت معها، وحين كانت طبول الحروب تدق فليس من أجل المذهب وإنما من أجل السياسة واحتكار السلطة والاستئثار بها. والمذاهب التاريخية كالحزبية المعاصرة حقل للتعددية والتنوع، بل هي أرقى لأنها حالات فكرية، ولا أظن أن إنساناً عاقلاً يقبل على نفسه أن ينتمي إلى مذهب أو إلى حزب مهمته إشاعة البغضاء، وتعميق الحقد ضد الآخر.

النفوس الضعيفة فقط هي التي تراكم الضغائن، وتحرص على الانتقام وتسعى إلى تمزيق الصفوف خدمة لشياطين الأنس والجان. ورواية "جدائل صعدة"، قصيدة حب ودعوة عقلانية منتصرة لإعادة النظر في مواقفنا من بعضنا، ومحاصرة منطق التعصب، وإساءة الظن بالآخر حتى قبل أن نتعامل معه وقبل أن نتعرف على نواياه.

ولا ننسى -وفي الرواية إشارات مكثفة ومهمة إلى الأعداد المتبقية من الأقلية اليهودية في صعدة- تذكرنا كيف عاشت تلك الأقلية الكبيرة في ربوع اليمن على مدى ألف وأربعمائة عام لم تشهد على الإطلاق حالة من حالات العنف أو الإيذاء. حتى بعد أن هاجرت غالبيتها الساحقة في نهاية أربعينيات القرن الماضي، واختارت الانضمام إلى الكيان الصهيوني المصنوع ليكون رأس حربة في حروب مستمرة ومتتابعة ضد العرب والمسلمين، فقد بقيت الأعداد القليلة التي اختارت البقاء في صعدة وغيرها من المناطق اليمنية في رعاية شعبية ورسمية إلى أن استيقظت الفتنة من رمادها وبدأت تلك الأعداد تتعرض للتهديد والأذى، وصار كل شيء ممكناً بعد أن صار المسلم يقتل أخاه المسلم بوحشية بدائية لا نظير لها.

إن الأنظمة الفاسدة الجاهلة لوظيفتها العامة هي التي تجعل المجتمعات النائية تختار طريقة حياتها الشاقة والبائسة، وتجعل منها خلفيات لاستقطاب الشباب إلى هذا التيار أو ذاك، خاصة في غياب كامل عن الولاء الجامع والحب الواجب للوطن وناسه ، تقول إيمان بطلة الرواية في جزء من رسالتها إلى مروان: "إذا وقفت على قمة الجبل الذي يعلو منزلنا مباشرة، ونسيت لوهلة جدائل إيمان الطويلة، ونظرت إلى الفضاء المترامي أمامك لن تجد مدرسة حكومية واحدة. لو أمسكت ناظوراً بين يديك وتفحّصت المنحدرات والدروب والوديان على بُعّد عشرات الكيلومترات لن ترى طفلاً يحمل حقيبة وزيّاً مدرسياً"(ص51). في هذه السطور إشارة كافية إلى الخلل العام الذي صنع الحروب وساعد على إنتاج الطوائف الدينية في صورها المعادية لبعضها، وضاعف من التفاوت الطبقي الطفيف في مجتمع صعدة، وقاد إلى استقطاب الشباب في ميادين المعارك الخاسرة بدلاً عن دفعهم إلى البناء، وخوض المعارك ضد التخلف المضروب على هذه البلاد عامة وعلى هذه المناطق النائية خاصة حيث "الماضي يفترس كل شيء في القرية والمدينة"، والجملة الأخيرة من الرواية (ص100).

بمثل هذه الإشارات العميقة تفضح الرواية أسباب الحرب ومكوناتها، كما تعكس إدانة الناس ورفضهم الصارخ لأي حرب مهما كانت نتائجها، كما توحي بذلك الفقرة التالية الغنية بالوضوح، وكأنها لسان حال أهل المنطقة جميعاً وقد همست بها إيمان وهي في طريقها من صعدة إلى صنعاء: "إذا انتصرنا في هذه الحرب لن نحتفل، لأننا نجهل الأعداء، إذا خسرنا لن نبتئس، فنحن لا نرى منتصرين، سيان الطريق الذي ستسلكه الحرب ما دام الوادي لم يحترق بالكامل.

لا أخشى سقوط السيد في الحرب، أخشى سقوط شجرة الرمان"(ص158). وفي مكان آخر من الرواية يجذبنا صوت آخر معادٍ للحرب وللقتل، من خلال تأملات شقيق "إيمان" المحارب الشاب "حسن" الذي ملَّ الحرب واستمرارها: "كم أمقت هذه الحرب من قلبي، نسافر مع أناس لا نعرفهم لنقتل أناساً لا نعرفهم، وينتصر آخرون لا نعرفهم، حتى المهزومون لا نعرف فيهم أحداً. سألت نفسي الف مرة وأنا منبطح على بطني في الآكام والوديان: ما الذي سيحدث لو انهزمنا أو انتصرنا في الحالتين سنعود إلى البيت أو سنموت".(ص109)

وفي تأملات مماثلة لإيمان تختصر بها، ما فعلته الحرب في القرية: "كنا نرى المدى مفتوحاً حتى آخر جبل وما بعده. وكان بمقدورنا تخيّل كل شيء، وفهم كل شيء، لم يكن لدينا الكثير من المعرفة ولا الكتب، كنا نمتلك الخيال، وكان يكفينا. أنزلت الحرب ستارة عظيمة سوداء حجبت عنا كل شيء. ما أن تطل المرأة من شباك بيتها القروي حتى نرى ظلاماً لا آخر. له أصبحت الستارة تملأ النهار والليل". (ص105)

-5-
قد يرى البعض أن واقع هذه البلاد بما يجري على جنباتها من حروب واغتيالات وانفلات أمني لا يشجع على الإبداع الجاد، ذلك الذي لا يصدر إلاّ عن حياة مستقرة وراحة بال، وهو تصور خاطئ، فالبلاد التي يعيش مبدعوها في رغد العيش وأمن وأمان، لن يتمكنوا في كثير من الحالات من إنتاج نماذج أدبية لا ينضب ضوءها. وقد أشرت في السطور الأولى من هذه القراءة إلى الإبداع الروائي لأمريكا اللاتينية الذي خرج مبهراً من واقع تنهشه المظالم والديكتاتوريات الوحشية، وتمكنت الرواية في البلاد تلك من خلال السرد الواقعي السحري أن تكشف مكامن المعقول واللامعقول في الحياة، وأن تقدم للعالم أهم النماذج الروائية الأصيلة والمبتكرة. وهذا ما بدأت أشعر أن ملامحه الأولى بدأت تنبثق من تراب أرضنا روايةً وشعراً وفناً تشكيلياً، وتوشك هذه البدايات أن تثبت حقيقة أن الأرض التي تختزن موروثاً غنياً من الحكايات والأساطير ومن المعاناة القاسية قادرة على أن تصنع مبدعين على درجة عالية من النضج والارتقاء، وان تمنح روح الشعب القدرة على تحدي التمزيق والتفتت ومواجهة الانقسامات الطائفية والمذهبية وغيرها من الويلات التي تتولد من الفردية والأطماع والرغبة في الانتقام المتبادل.

لطالما شكّل الطغيان السياسي في بلد ما حافزاً جوهرياً يدفع بالمبدعين إلى المقاومة بالكتابة، وتحرير المجتمع من قبضة الدولة وأجهزتها القمعية. وما كان التغيير سيحدث في أي مكان من العالم، وتنهار الأنظمة الاستبدادية التقليدية دون ثورة فكرية يقودها الإبداع، ويكشف مخاطر الاستسلام واللامبالاة. وإذا كانت البدايات السردية في بلادنا قد أسست لهذا الاتجاه وفي رائعة الشهيد الزبيري "واق الواق" خاصة فإن الجيل الجديد. جيل مروان الغفوري من كتّاب الرواية المناهضة للشعور المحبط قد قطعت شوطاً لا بأس به في هذا المضمار الذي لا يكتفي النص الروائي معه بتحديد شكله أو أسلوبه فقط وإنما تجديد رؤيته أيضاً، وبذل الجهد للخروج من مسيرته الوهمية الحكائية بوعيها السلبي وذاتيتها الخيالية إلى البحث في الواقع عن مكونات القهر الاجتماعي وتلمس وميض طريق جديد قادر على مجابهة الشعور النفسي الضاغط والمفعم باليأس والإحباط.

-6-
ويأتي الشعر في صورته البهية ليخفف من مرارة أحاديث الحرب، ويتمكن من أن يرحل بالقارئ والرواية معاً إلى سماوات أخرى، ثم لكي يثبت أن مروان الغفوري شاعر حقيقي لكنه في هذا العمل الروائي لا يستسلم لغواية الشعر سوى للحظات ثم يستأنف طريق السرد : "أنتِ أيتها الصغيرة المشعّة، يا جرحي المفتوح على البحر، لطالما كانت الحرب تحدك من كل جهاتك، اصعدي الجبل رويداً رويداً، ولا تزعجي الأطفال من حملة السلاح، لا تجفلي الطيور على أكتاف النائمين في الكمائن، لا تقولي للمقاتلين: عودوا إلى الوادي. اصعدي الجبل رويداً رويدا، حتى تقفي بمحاذاة الشمس ثم اهبطي مع الأبدية". (ص157)

لقد استطاع الشعر بإشراقاته القليلة المكثفة أن يتسلل إلى قلب الرواية ويعطيها باستعاداته اللماحة هذه الومضات المعجونة بالحب والأمل: "اللغز في شَعّرَك يا إيمان، لم تخلق الطبيعة شَعّرَك لتغفو تحته القوافل المارة في الوادي قليلاً، أسدلي شعرك حتى يصل الوادي".(ص46)

تأتي أهمية الجدائل في العنوان، "جدائل صعدة"، أو شمس الله كما يسميها الروائي، في أماكن عديدة: "لو أنك وبيتك بالقرب من قمة الجبل صعدت إلى القمة قبل الفجر وتركت نجمة الصباح ترتاح قليلاً على كتفيك، وأسدلت خصلاتك على القرية والقرى المجاورة لسكنها السلام حتى الأبد". (ص47 )

وأجدني مدفوعاً إلى الوقوف عند المزيد من هذه الومضات الشعرية ومحمولاتها من الإضاءات الخلفية الباعثة على التأمل والاستغراق في الواقع بعيداً عن المباشرة السردية: "أيتها العذراء، يا من أنقذتني من نفسي ومن العالم؟ ماذا كنتِ تنتظرين، اصعدي الجبل رويداً واعصري السحابة على المتحاربين، هشي دخان المعارك بجدائلك وامنحي أمانك للرعاة في الجبل، قولي لهم: انشروا أغنامكم لا تجفلوا من الحرب.

قولي للرعاة المختبئين في الجحور الذين أخطأتهم الحرب حتى الساعة، أن النار يتبادلها المناضلون والمجاهدون، وأنهم لذلك سيحملون الخطيئة حتى نهاية الأزمان. يقسمون "ستنتصر" ولا يعرفون ما الذي سيفعلونه بعد ذلك، ربما سينفقون ما تبقى من أعمارهم في تأبين أعدائهم، والكتابة على قبورهم. قولي للرعاة: تماسكوا قليلاً سترثون الجبل يوماً ما، اصعدي يا إيمان اصعدي...". (ص160)

في هذه الشذرة الشعرية المضيئة تتجلى هوية الرواية وتنكشف وظيفتها، وفيها كما في غيرها من الومضات الشعرية العابرة تتحدد هوية بطلة الرواية التي عادت إلى اسمها الحقيقي وهو "زينب" لتدرك أنها لم تكن سوى الرمز الإنساني لصعدة بكل ما ادّخرته شخصيتها النقية من معانٍ، وما تعرضت له من مخاوف واتهامات. وأن الورم الذي انتفخت معه بطنها وكان ذريعة كيديه لاتهامها بالزنا ، ما هو إلا البُعّد الرمزي للحرب، وأن إزالته طبياً إشارة غير مباشرة إلى الحل السياسي المقبول والممكن ليعود إلى زينب أو بالأحرى إلى صعدة أمنها واستقرارها الذي هو جزء لا يتجزأ من استقرار وطن يعاني ويتجرع الويلات على أكثر من صعيد، وأن الاتجاه صوب المستقبل في ظلال الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية هو التعويذة الوطنية القادرة على إخراج البلاد كلها من محارق الخلافات والحروب.

وأكاد ألتقط من بين سطور الرواية إدانة خفية للمبدعين الذين يتحاشون الاقتراب من القضايا الحساسة المرتبطة بحاضر هذا البلد ومستقبله وأن مناقشة تلك القضايا في إطار الأعمال الإبداعية ستكون أجدى وأكثر تأثيراً من مناقشتها في الخطاب السياسي والإعلامي. وأعترف أن تشريحها كما تم في هذه الرواية البديعة بمشرط طبيب قلب كان أميناً وصادقاً ودقيقاً وفي إطار عمل روائي جاد ومنفتح على أهم أساليب التقنيات الروائية الأحدث.

-7-
ومن الإشراقات الشعرية في الرواية إلى الإشراقات الصوفية فيها، إلى تلك التي ألمحتّ إليها الإشارة السابقة عن "بشر الحافي" أحد أركان الكشف والذوق وأرباب الأحوال، فقد نجحت الرواية في تأسيس ملامح معراج صوفي يلوح أحياناً في شذرات أو تعابير تفيض بقبس من نور الروح مخلّفة في النفس مزيجاً من المتعة والرغبة في الارتحال نحو المطلق المتناهي في حالة من المجاهدة والكشف عن طريق آخر لا تنام معه الروح ولا تفقد إنسانيتها ورحابة اتساعها لقبول الآخر مهما اختلفنا معه أو تصادمت آراؤنا الدنيوية بآرائه الدنيوية. "لم يزدني الورد إلاّ عطشاً" ذلك صوت الحلاج يدخل في سياق تلقائي خال من المباشرة والتمسك بالمحسوس. والمهم ما يكشف عنه هذا المنحى من وعي عميق لدى الروائي تجاه مفهوم التناص في العمل الأدبي، وما توحي به بعض الاستعارات الصوفية من أمل في حل شيفرة الصراع الدائر في الحياة.

وحين يعجز الحس يبدأ دور الحدس في تفكيك بعض الخفايا الغامضة في حياة البشر وأساليب تعاملهم مع بعضهم البعض، والمبدعون الكبار يستندون في إبداعاتهم الكبرى على جناحين أساسيين هما: التصوف والفلسفة لإظهار موقف الروح ودورها، لا في طلب البحث عن الحقيقة فحسب؛ وإنما في إفناء الرغبات القاتلة ومواجهة الأهواء. وما من نص كبير إلاّ وقد استوعب شيئاً ولو صغيراً من المخزون الصوفي، شعراً كان أو نثراً، انطلاقاً من أن الروح هي التي تمد شجرة الكتابة بالماء الذي لا ينفد ولا يتغير لونه وطعمه. كما أنه في صراع بلا معنى يتنافى مع الدين والعقل والعلم والشعر والفلسفة لا مناص من الاستعانة بتجليات الروح وإشراقاتها، وكل روح بحاجة إلى من يوقظها بين حين وآخر من سباتها: "في ليالي صنعاء الجافة، عندما يخلو هواؤها من الرطوبة والماء.. عندما يبلغ جفاف صنعاء مداه وتنام كل الأصوات إلا كلب الحي. أصعد إلى السطح، انظر النجوم. في الساعات تلك يصبح الكون أكثر بهاءً وشفافية، فيتدفق فيه كل شيء. تتدفق من ليل السماء الأسرار بغزارة.

انتظر الموجات القادمة من فجر الزمان، والضوء القديم الغابر، استمع إلى الله فأجده، وإلى "حسن" فيمنحني نوره. يكون قلبي مثل مرآة شديدة الجلو، ويكون بيني وبين الله خطوة". (ص25)

ليس ما سبق دراسة في رواية "جدائل صعدة" للروائي الشاعر والناثر الجميل مروان الغفوري بقدر ما هي محض مقاربة أولية تشير بإيجاز شديد إلى ظلالها الفنية وأجوائها الفكرية. وأجزم أنها ستحظى بالكثير من الترحيب والدراسات النقدية لا لموضوعها الساخن والمهم فحسب؛ وإنما للغتها العذبة وأسلوبها السردي البديع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.