هل يمكن أن تقوم روسيا بفرض سيطرتها على باب المندب وتحقق ما لم تتمكن من تحقيقه أيام كانت "اتحاد سوفيتي"؟ منطقياً لا يمكن، وإذا كانت روسيا أقل من أن تتمكن من ذلك، فالأمر غير مُمكن لدولة إيران من باب أولى. لقد استمات الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة في محاولات التمدد من قاعدته في الشطر الجنوبي من اليمن باتجاه الشطر اليمن الشمالي للسيطرة عليه، ومن ثم الارتباط مع إثيوبيا الموالية له على الضفة الأخرى من البحر الأحمر (لم تكن إرتيريا قد استقلت يومها)، وبالتالي إحكام السيطرة على البحر الأحمر من ضفتيه وخنق دول الخليج، فضلاً عن تأثير ذلك بشكل مباشر وغير مباشر على المعسكر الغربي، لكن الاتحاد السوفيتي لم يتمكن من ذلك، وانكسر أمام الاستماتة الدفاعية المقابلة من المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ووكيلها في الإقليم (المملكة العربية السعودية).
هذا يعني أن سيطرة الحوثيين حالياً على الشريط الساحلي المطل على البحر الأحمر لن تتجاوز اليابسة، وأن مياه البحر الأحمر ستخضع لقوات دولية تفرض سيطرتها عليها بشكل مباشر بحجة حماية المصالح الدولية، فضلاً عن قيام كل دولة من الدول المشاركة في هذه القوات بحماية أمنها القومي من خلال هذه السيطرة العسكرية المسلحة، تبعاً لما يمثله باب المندب من أهمية عالمية، وتبعاً لانعكاس الأوضاع فيه على الأمن القومي للأطراف الدولية المشاركة بهذه القوات كل على حدة.
لقد كان الملف النووي الإيراني سبب أزمة استمرت لفترة طويلة بين إيرانوالولاياتالمتحدة، وصاحبها من الطرفين خطاب سياسي وإعلامي مكثف ترك انطباعاً لدى قطاعات كبيرة من النخب والرأي العام مفاده وضع إيران في الأذهان كدولة ند للولايات المتحدة.
تحقق إيران تقدماً وتطوراً كبيراً، خاصة في توسع سياستها الخارجية بصناعة أذرع بعيدة جغرافياً، إلا أن هذا التقدم يبدو مذهلاً قياساً على ما كانت عليه إيران سابقاً، ومقارنة بدول أخرى في المنطقة، أما وضعها في موقع الند للولايات المتحدة فهو حكم انفعالي مبالغ فيه إلى حد كبير جداً.
لقد قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض حلفائها في الخليج باستغلال هذا الانطباع المكذوب عن المستوى الجديد لإيران (مستوى الندية للولايات المتحدة) ليقوموا بضخ إعلامي كبير يهدف إلى تضليل الرأي العام بشأن ما حدث في اليمن، وإلقاء تهمة دعم الحوثي وتسليمه صنعاء على إيران، مستغلين العلاقة المعروفة بين الحوثيين وطهران، وتصوير إيران كما لو أنها سحبت البساط اليمني من تحت أقدام الولاياتالمتحدة وحليفتها المملكة العربية السعودية، فيما تشير المعطيات على الواقع الى أن سقوط صنعاء بيد الحوثيين مخطط غربي تقوده عالمياً الولاياتالمتحدةالأمريكية، وإقليمياً حليفتها السعودية بمساعدة الإمارات العربية المتحدة، وذلك في إطار السعي لتحقيق جملة من الأهداف أبرزها استهداف ثورات الربيع العربي، واستهداف جماعات "الإسلام السياسي" التي يمثلها في اليمن حزب "التجمع اليمني للإصلاح"، مع الإشارة هنا إلى أن اعتبار المخطط أمريكياً وسعودياً لا يلغي دور إيران التي دخلت كشريك لابد أن يأخذ أجر جهوده بالمقابل.
حالياً، تجد الولاياتالمتحدة حرجاً في الظهور بمظهر الداعم العلني للحوثي المحسوب على إيران، وتجد الإدارة السعودية حرجاً أكبر في هذه القضية أمام الرأي العام السعودي الذي يسيطر عليه الخطاب الديني من الجماعة السلفية الحليفة للأسرة الحاكمة. ولهذا يلجأ الطرفان لتصوير اجتياح الحوثي لصنعاء عملاً إيرانياً خالصاً.
خلال فترة التمدد الحوثي المسلح من أقصى الشمال اليمني وصولاً إلى صنعاء، لم يصدر عن الأمريكان والأطراف الدولية والإقليمية الراعية للتسوية السياسية والمعنية بالأحداث في اليمن.. لم يصدر عنهم أي موقف جاد مناهض للحوثي، وها قد بدأت قضية البحر الأحمر تتصدر المشهد بعد توجه الحوثي نحو مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر.
صدر الموقف الأول من الخارجية المصرية، إذ أعربت عن قلقها البالغ من سيطرة الحوثيين على باب المندب. ولباب المندب تأثير مباشر وغير مباشر على الأمن القومي لدولة مصر التي لم تخض حرب 73 ضد إسرائيل إلا بعد أن تسلمت من اليمن جزيرة "حُنَيش" الواقعة في البحر الأحمر، وبهذه العلاقة المباشرة بين مصر والبحر والأحمر يغدو الموقف المصري الرافض لتمدد الحوثيين في البحر الأحمر موقفاً مبرراً ومفهوماً وطبيعياً، إلا أن المستوى الحالي من التبعية المصرية للمملكة العربية السعودية يسمح لقارئ الأحداث بربط الموقف المصري بالموقف السعودي، بمعنى أن الموقف المصري يشي بالموقف السعودي، وأن المملكة التي سلمت اليمن للحوثيين وشركائهم من نظام علي صالح تخشى سيطرة الحوثيين على باب المندب، وهو ما عبرت عنه المملكة لاحقاً.
منذ زمن والحوثي يسعى للحصول على منفذ بحري يخضع لسيطرته بشكل كامل ليقوم بوظيفته كاملة. وكان تقسيم اليمن الى أقاليم إحدى المعضلات التي لم يخرج بها مؤتمر الحوار الوطني بشيء، وشكلت لها لجنة خاصة بعد الإعلان عن نهاية مؤتمر الحوار، وكان الحوثي يحرص خلال ذلك على أن تكون محافظة "حجة" ذات المنفذ البحري ضمن الإقليم الذي يضم صعدة والمناطق الواقعة تحت سيطرته ذلك الحين، لكن اللجنة اتفقت على وضع هذه المحافظة ضمن إقليم تهامة، الأمر الذي أثار انزعاج الحوثي ورفضه، وظل يلح في المطالبة بإعادة تقسيم الأقاليم مطالباً بمنفذ بحري.
حدث ما حدث مؤخراً من اجتياح حوثي مسلح لمحافظة عمران ثم العاصمة صنعاء، واتجه الحوثي بعد صنعاء مباشرة إلى البحر الأحمر لتحقيق هذا الهدف، أي الحصول على منفذ بحري، ولكن: هل سيطرته على ميناء الحديدة وغيره من المواقع المطلة على البحر الأحمر تعني سيطرته على باب المندب؟ لقد ثارت ثائرة الولاياتالمتحدة وأقامت الدنيا ولم تقعدها بشأن البرنامج النووي الإيراني، وكادت الأمور تصل إلى الحل العسكري، فيما تبدو سيطرة إيران على باب المندب أخطر على الأمريكان والخليج من امتلاكها السلاح النووي، ما يعني الاستبعاد التام لفكرة أن يقوم الأمريكان وحلفاؤهم الخليجيين بالتنازل لإيران وحلفائها الروس بمنطقة البحر الأحمر ضمن هذا التحالف الرامي لضرب ثورة الربيع العربي وتيارات الإسلام السياسي، فضلاً عن أن يتنازل لإيران والروس بمنطقة "باب المندب" على وجه التحديد.
وتخلص هذه الأسطر إلى معطيين متناقضين: المعطى الأول هو قيام الأمريكان وحلفائهم في الخليج بدعم الحوثي ليصل إلى صنعاء، ويبسط سيطرته على جزء كبير من ساحة الحكم في اليمن، وفي المقدمة تركة اللواء علي محسن الأحمر بعد مغادرته البلاد على خلفية الاجتياح الحوثي، وهي التركة التي تشمل كافة المنطقة الشمالية الغربية من اليمن، ومنها سواحل البحر الأحمر.
والمعطى النقيض مفاده أن الأمريكان وحلفاءهم في الخليج لن يسمحوا بأي مستوى من التفرد الإيراني الروسي بالبحر الأحمر.
وبالنظر في إمكانية التوفيق بين هذين المتناقضين يمكن توقع استمرار الأمريكان وحلفائهم الخليجيين بدعم الحوثي في حدود خارطة اليابسة التي تكون منطقة الساحل فيها أبعد نقطة يسمح له بالتمدد فيها، وأن تقوم قوات دولية تابعة للأطراف الدولية الكبرى ببسط سيطرتها المباشرة على مياه البحر الأحمر وباب المندب.
إذا اتجهت الرياح هذا الاتجاه، فمؤكد أن خطوة بحجم بسط القوات الدولية سيطرتها المباشرة على البحر الأحمر تتطلب مبرراً مكافئاً وذريعة بالمستوى ذاته، والغالب على الظن أن يكون تنظيم القاعدة هو هذه الذريعة التي تبرر للقوات الدولية التدخل المباشر لحماية المصالح العالمية في البحر الأحمر، ما قد يعني أن اليمن بصدد الدخول في دوامة عنف واسعة جداً يكون طرفاها القاعدة والحوثي، وهذا يفسر الترويج الأمريكي للحوثي كطرف يحارب القاعدة، وهي اللافتة الأمريكية المستحدثة لرفع حرج علاقتها الوليدة مع الحوثيين المحسوبين على طهران، ومن ورائها موسكو.. إنهم لا يدعمون الحوثي ليحارب القاعدة لدحرها أو الإجهاز عليها، بل لإنعاشها وتوسيع خارطة انتشارها، ولتحقيق أهداف استعمارية خالصة، وعلى المياه البحرية اليمنية بشكل مباشر، وعلى اليابسة بشكل غير مباشر.