باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الناشط مجاهد السلالي يروي ل"المصدر أونلاين" تفاصيل ثمانية أيام خلف الشمس
نشر في المصدر يوم 23 - 12 - 2014

كان من طلائع شباب ثورة فبراير، نشط ميدانياً وإعلامياً عبر صفحته في "الفيس بوك" و"تويتر"، وعندما دشن الحوثيون الحرب على قبيلته (قيفة –رداعالبيضاء) تميّز بتغطية أخبارها، وأصبح مصدراً لكثير من الصفحات ولوسائل إعلام أخرى، ودفعه تخلّي الدولة عن أهله وقبيلته –كما قال- إلى العمل مع ناشطين آخرين لتنظيم حملة تبرعات وإغاثة، ثم غادر صنعاء بمعية عددٍ منهم نحو "قيفة" وأوصل الجزء الأكبر من مواد الإغاثة، وتجول في المنطقة وقام بالتصوير وأجرى اللقاءات، وفي إحدى هذه المهام وقع في أيدي الحوثيين..

عصبوا على عينيه بقطعة قماش سوداء كان ينفذ منها بعض الضوء، واقتادوه إلى مكان مجهول، ثم قاموا بتسليمه لجهة أخرى كان أفرادها يلبسون الزي العسكري، وبمجرد أن استلمه هؤلاء نزعوا عن عينيه تلك العصابة البدائية، ووضعوا مكانها عصابة أخرى مُخصصة لذات الغرض أحالت نهاره إلى ليل حالك..

عندما عصبوا على عينيه لم يكونوا يريدون أن يحجبوا عنه الرؤية، بل ليرى عالماً آخر، وكان ذلك كإطفاء الإضاءة في صالة السينما لإتاحة الفرصة لمشاهدة الفيلم، وهذا أحد أكثر أفلام الرعب طولاً وإثارة، ومجاهد السلالي (24 عاماً) هو المشاهد والبطل الضحيّة، وها هو يروي ل"المصدر أونلاين" تفاصيل التحقيق والتعذيب، وذكريات ثمانية أيام لم يرَ خلالها الشمس، وتأخر نشر المادة في الموقع لأسباب فنية.


لحظة الوصول إلى المُعتقل
وصل على متن السيارة، واقتاده شخص إلى داخل المبنى، أدخله إحدى الغرف ونزع العصابة عن عينيه، وأول شيء نظر إليه هو ذلك الشخص الذي أدخله.. كان يشد رأسه بغطاء أسود، وعلى وجهه لثام أسود، ولا يُرى منه وسط هذا القناع سوى عينين باردتين وخاليتين من أي تعبير، وكأنهما أحجار زُرعت موضع العينين، وجسد يلبس الزي العسكري ويعمل كما لو أنه آلة، راح ينزع عنه ثيابه، ولم يترك عليه سوى "الفانيلة" الداخلية والسروال القصير (سروال رياضي يصل إلى الركبة)، ثم انصرف وأغلق الباب.

أجال مجاهد نظره في الغرفة، كان طولها نحو ..... وارتفاعها نحو ....، أرضية ملساء بيضاء كأنها بلاطة واحدة، وجدرانها كذلك، وسقفها أيضاً، ومن خلفه مصدر إضاءة بيضاء ساطعة، والباب طبقة بيضاء واحدة، وفي رأسه فتحة صغيرة في حجم الفتحة التي كانت تبدو منها عيون ذلك العسكري من خلف القناع.

ظل واقفاً لبعض الوقت يحاول أن يفهم شيئاً، ألقى جسده هناك على الزاوية، بدأ الحر يرتفع بشكل غير طبيعي، ابتعد عن الجدران التي ظنّ أنها مصدر الحرارة وجلس في الوسط، لم يعد جسمه يتحمل شدة حرارة الأرضية، وقف، راح يتحسس الباب فإذا هو شديد الحرارة، وكلما تحسس جداراً اعتقد أنه هو مصدر الحرارة، كان يتصبب عرقاً، ويشعر بالاختناق، والحرارة تشتد أكثر وأكثر.. كان ينادي ولا مجيب، يصيح ولا أحد، يستغيث ولا مغيث.. وبينما هو كذلك إذا بالحرارة تتناقص، توقف عن التخبّط، بالفعل كانت تتلاشى، حدث ذلك بشكل سريع حتى اعتدل الجو، ألقى بجسده منهكاً على الأرض، وما هي إلا لحظات حتى شعر بالبرودة تشتد بشكل غير طبيعي، ارتفعت درجة البرودة أكثر، ظلت ترتفع بالطريقة ذاتها التي كانت ترتفع فيها درجة الحرارة حتى كاد يشعر بجسمه يتثلج، بدأت الآلام، وعاود التخبّط والصياح، وأدرك أنه في واحدة من غرف التعذيب لا مجرد زنزانة، خاصة وأنها خالية؛ ليس فيها فراش ولا غطاء ولا أي شيء.

أولى جلسات التحقيق
بينما كان مجاهد يتقلّب في تلك الغرفة بين حرارة لا تحتمل، وبرودة لا تُطاق، أقبل إليه العسكري، وعصب على عينيه، واقتاده معه.

اعتقد أنه سيذهب به إلى زنزانة طبيعية، وبالفعل أدخله إلى غرفة بالجوار كانت طبيعية الجو، ونزع العصابة عن عينيه، وإذا أمامه شخص آخر مقنع بقناع أسود لا يرى منه سوى العينين.. نظر في المكان فرأى بالجوار ماسة، وكاميرا فيديو منصوبة في إحدى الجهتين على الاستاند "الرافع"، وأدرك أنه في غرفة مخصصة للتحقيق لا زنزانة..

كانت هذه جلسة التحقيق الأولى، ثم ظلت تتكرر مرّة كل ساعتين إلى ثلاث ساعات تقريباً، وتستمر في كل مرّة نحو نصف ساعة، باستثناء الساعات التي كان يقضيها في تعذيب ليلي طويل الأمد بداخل المسبح.

تداول التحقيق معه ثلاثة أشخاص، كل واحد منهم كان يركز على قضية بعينها، ويظل لنحو نصف ساعة يعيد أسئلته ذاتها كل مرّة، ويكررها بأكثر من صيغة، أو يقوم بالمداخلة بين الأسئلة ويغيّر ترتيبها، وأحياناً يطرحها كاتهام مفروغ منه، وأحيانا يقول إنها ليست اتهامات بل إدانات اعترف بها آخرون عليه، ولم يتبقّ سوى إقراره بها.

في التحقيق، وجد نفسه متهماً بالاهتمام بالضربات الجوية التي تنفذها الولايات المتحدة في اليمن عبر "طائرة بدون طيار"، وأنه يكثر النشر حول هذه القضية.. يقول مجاهد: كانت من أهم قضايا التحقيق، وحقيقة لم أكن أعرف من قبل أنها تُهمة للصحفيين والإعلاميين والناشطين!

وإلى ذلك، كان متهماً –حسب قولهم- بالتنسيق بين دولة قطر والقاعدة، وأنه الوسيط بين كل من اللواء علي محسن وحميد الأحمر وبين التنظيمات الإرهابية، ومتهماً مع أخيه بنقل أسلحة علي محسن من صنعاء إلى قيفة، وأن تلك البطانيات ومواد الإغاثة والتبرعات التي جمعها عبر صفحته في "الفيس بوك" وبمعية عددٍ من الناشطين لصالح النازحين والمتضررين من الحرب في قيفة كانت لتمويل القاعدة.

وعندما كان يقول لهم رأيه حول القاعدة ويطلب منهم استعراض منشوراته بخصوص القاعدة وانتقاداته لها، كانوا يقولون له: هكذا يفعل كل عميل يريد أن يخفي عمالته.

موقف مضحك مع المحقق الحوثي

انتهت جلسة التحقيق الأولى، وكان على مجاهد أن يعود إلى الزنزانة البيضاء، وقبل أن يحدثني عن عودته راح يمتدح أداء هؤلاء المحققين ويقول إنه أداء احترافي لا كأداء ذلك الحوثي الجاهل الذي حقق معه بالمنزل المهجور. قالها وضحك، وأثار لديّ الفضول بشأن هذا المحقق والمنزل المهجور.

يجيب: يوم السبت (22/11/2014) اتصل بي أبناء "خبزة" وأخبروني أنهم سيدخلون القرية وفق اتفاق مع الحوثيين، فذهبت وعددٌ من أعضاء الوفد الإعلامي والحقوقي الزائر إلى مكان اجتماعهم بقرية "الزوب"، وكان علينا أن ننتظر وندخل القرية معهم، لكن الحوثيين اشترطوا عليهم ألاّ يسمحوا بدخول أي إعلامي أو حُقوقي، والتزموا لهم بتعويضات مقابل الأضرار التي تعرّضت لها مساكنهم وممتلكاتهم، فرفض أبناء القرية وتعثر الاتفاق، وحينها قررت أن أدخل القرية لتصوير ما فيها بأي ثمن. فأجريت الترتيب مع صاحب دراجة نارية على أن يدخلني القرية فجر الاثنين بطريقةٍ ما..

ويواصل: بدأت المغامرة فجر الاثنين، وتوقفت الدراجة في قرية "نجد الشواهر"، وأكملنا بقية المسافة مشياً على الأقدام، ودخلت المنطقة فعلاً، وقمت بتصوير أهم ما أمكنني تصويره، وتمت العملية بنجاح. ثم عدنا إلى رداع، فدخلت الفندق، ونمت لبعض الوقت، وتغديت، وكان عليّ اللقاء بأحد أبناء القرية، وعدني بمعلومات تتعلق بمهمتي. وفي الطريق اعترضتني سيارة صالون، ونزل منها ثلاثة مسلحين، ومباشرة كتفوني وعصبوا على عيوني واقتادوني معهم. سارت بنا السيارة نحو ساعة ونصف ما بين طرق وعرة وأخرى مسفلتة، حتى استقروا في بيت مهجور أو مدمّر من آثار القصف. وهذا ما أحسست به من أرضية البيت، ومن الحجر الذي أقعدوني عليه، والجدار الذي كنت أسند إليه ظهري. وبدأ ذلك المحقق الحوثي الجاهل يحقق معي، ويطرح عليّ أسئلة كثيرة، لكنه لم يكن يفهم كثيراً مما أقول، وكان يضطرني في كثير من المرات لشرح كلامي..

مثل ماذا..؟
في أحد الأسئلة عن عملي، قُلت له إنني أكتب الأخبار بصفحتي على "الفيس بوك"، وأرسلها إلى كثيرٍ من المواقع الإلكترونية. فقال: ما هي المواقع الإلكترونية؟ وأين تقع؟ ربّما ظن أنها مواقع عسكرية، لكنها تختلف بعض الشيء عن المواقع العسكرية التي يعرفها. فرحت أشرح له حتى فهم، أو بالأحرى تظاهر أنه فهم للهروب من الإحراج أمام رفاقه.

المحقق يظهر تلفوني المسروق منذ سنة ونصف
يتحدث مجاهد عن جلسة أخرى مميّزة، يقول: قبل نحو سنة ونصف نظمنا أمام فندق موفمبيك بصنعاء وقفة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وسرق تلفوني يومها بين الزحام، وفوجئت في إحدى جلسات التحقيق بالشخص المحقق يخرج لي تلفوني المسروق.. كانت هذه اللحظة التي صدمت فيها، ولم يسمح لي المحقق باستيعاب الصدمة وراح مباشرة يقرأ الرسائل التي فيها وبشكل متتابع.

يواصل: لم يكن في الرسائل شيء يدينني، ولا حتى شيء له أهمية، ولكن يبدو أنه كان نوعاً من الإرهاب النفسي وشيئاً من استعراض إلمامهم بكل شيء.

يضحك مجاهد، ويمسح على جبهته وفمه، ويقول: عندما كان المحقق يقرأ الرسائل كنت أنا أتذكر اللابتوب الذي فقدته قبل سنة وفيه كثير من المواد الإعلامية والأشياء الخاصة بالفعاليات التي كُنا ننظمها خلال فترة الثورة، كنت أتوقع أنه موجود في مكان ما من تلك الغرفة، وفيما كان هو يقرأ الرسائل من تلفوني، كنت أنا أستمع إلى الرسائل لأتذكرها وأتذكر مناسبتها وأحاول في الوقت ذاته أن أتذكر محتويات اللابتوب!

كلمة باللغة الإنجليزية تكشف سر الجحيم
في إحدى جلسات التحقيق، باشرني المحقق الأول بأسئلة باللغة الإنجليزية، كانت ذات الأسئلة الاعتيادية، عن الاسم، وكيف الحال، وما إلى ذلك، وبدا من نطقه أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، أجبت عن سؤالين أو ثلاثة، ثم قلت له: لن أجيب على أي تحقيق باللغة الإنجليزية، وطلبت منه أن يحقق معي باللغة العربية.

قال لي: أنت درست لغة إنجليزية في معهد كذا، وذكر لي اسم المعهد الذي كنت أدرس فيه بصنعاء، فقلت له: درست لغة إنجليزية، لكن لفترة بسيطة. فقال لي: بالإنجليزية: ما معنى كلمة "hell" أجبته: معناها الجحيم، وقلت في نفسي: هذه هي إذن الكلمة التي يريد الوصول إليها.

لماذا يلف حول هذه الكلمة؟ يعود مجاهد إلى الوراء ليحكي حكاية الجحيم.. يقول:
في ذلك اليوم الذي دخلت فيه قرية ........... مع صاحب الدراجة، وصلت إلى منزل على آثار قصف، قالوا لي إنه قصف من طائرة أمريكية بدون طيار. دخلته. وبينما أنا أتجول فيه وأصوّر رأيت صاروخاً لم ينفجر. التقطت له الصور من جميع الاتجاهات، وبالفوتوغرافي والفيديو.

حسناً، وأين هي الجحيم في كل هذا..؟ ما السر الكامن وراء كلمة "hell"؟ يرفع مجاهد رأسه وينظر إليّ بصمت، ثم يقول: هذه الكلمة هي الاسم المحفور على ذلك الصارخ!

لماذا هذا الصاروخ بالذات؟
يعود مجاهد إلى غرفة التحقيق ماثلاً أمام ذلك المُحقق. لا يعرف مجاهد شيئاً عن الجهة التي يتبعها هذا المُحقق. لكنه قطعاً يعرف أن هذه الجهة تتحدث طويلاً عن سيادة البلد، ولا تزال تعبِّر عن رفضها استخدام الطيارات الأمريكية بدون طيار!

يطرح المُحقق سؤاله: لماذا تصوّر هذا الصاروخ بالذات؟ فيجيبه: للنشر الصحفي. يقول له: كل الصحفيين لا يهتمون لهذا الأمر. فيرد: لا أعرف أنهم لا يهتمون. لماذا أنت بالذات؟ لأنني من هذه القرية، ولأنني وصلت إلى مكان الصاروخ.

يقول مجاهد: لم يكن الرجل يبدو ودوداً كالآخر، وإلا لسألته بالمقابل: وأنتم لماذا يهمكم هذا الصاروخ بالذات؟

المسبح.. عذاب من نوع مختلف
يقول مجاهد: بينما كنت أتلوى وأتألم في تلك الزنزانة المتقلبة، إذا بالعسكري يفتح الباب ويقتادني كالعادة، لكنه لم يتجه بي هذه المرّة إلى غرفة التحقيق، بل شعرت به يخرجني إلى الهواء الطلق. كان الوقت ليلاً، وشعرت بذلك رغم العصابة المشدودة على عيني، فليس بالعين وحدها نستطيع معرفة الوقت، وما إذا كان ليلاً أو نهاراً.. وبينما أنا أمشي معه إذا به يقول: انزل. اعتقدت أنها درجة منخفضة، وتقدمت خطوة لأنزل فإذا هو يدفعني إلى مسبح مليء بالماء، وغطست بداخله، وشعرت لحظتها أنهم قرروا إغراقي أو التحقيق معي أثناء التعذيب بالغرق، لكن العسكري قام بحركة بهلوانية وشد يدي إلى الخلف، وقام بتقييد يدي بسلسلة مثبتة على جدار المسبح، ثم فعل الشيء ذاته باليد الأخرى. ووقفت بين الماء كالمصلوب، لكن أقدامي كانت ملامسة للأرض، ثم نزع العصابة السوداء من عيني وانصرف ليقف في الجهة المقابلة.

أجلت نظري في السماء من حولي، فرأيت قرى مضيئة بالجوار على الجبال المحيطة بالمكان. فقد كانت هذه المرة الأولى التي أخرج فيها إلى الهواء، وأشاهد فيها شيئاً خارج جدران الزنزانة وعيون العسكري والمحققين التي تدور من خلف الأقنعة.

لحظات مرت كأنها ثوانٍ، وبدأت الآلام في الجسم تحاصرني، لا أستطيع أن أحدد الألم الذي أشعر به أولاً وأنا غارق إلى رقبتي في ذلك الماء البارد، فكل جسمي يؤلمني، ولا يمر وقت طويل حتى أفقد الإحساس بجسمي، وأشعر بكل جسمي متبلداً وكأنني لا أملك سوى رأس ورقبة. وبعدها يبدأ الألم يتركز في المفاصل، ويبدأ الصداع، وأشعر أن رأسي يتشقق، وأظل أتقلب بين هذه الحالات لوقت طويل، ربما يصل إلى خمس ساعات..

يقول مجاهد: من أسوأ ما حدث في هذه الليلة أنني عندما وقعت في المسبح غرق فيه رأسي مع جسمي، ثم بقي رأسي مكشوفاً للريح والهواء البارد طيلة تلك الفترة التي قضيتها في المسبح.

نفس المسبح ورعب من نوع آخر
خمس ليالٍ قضى مجاهد معظمها بين الماء في ذلك المسبح، لكنه في الليلة الثانية حرص ألاّ يغمر رأسه بالماء أثناء النزول رغم أن العسكري رفسه إلى المسبح رفساً.

لكن الليلة الثالثة كانت الأسوأ على الإطلاق، إذ تفاجأ أن العسكري الذي قام بتقييده –كالعادة- لم ينزع العصابة عن عينيه، بل زاد فوق ذلك أن وضع على فمه لاصقاً عريضاً.

يقول: استسلمت للوضع، ولم يمر كثير من الوقت حتى بدأت أشعر بحركة أقدام لأشخاص حولي. شعرت بالرعب، وأنا أحس بتلك الحركات في الماء فيما عيوني معصوبة وفمي مغلق باللاصق. ما الذي ينوون فعله بي؟

رغم شدة الآلام التي تمنعك في تلك اللحظات من التفكير بأي شيء، إلا أن ألم الرعب كان أقوى منها بكثير، وظللت أركز فيما يدور حولي على أمل أن أفهم شيئاً، وبينما أنا كذلك إذ بدأت أشعر بأنين مكظوم يصدر من هنا وهناك في المسبح.. يا الله، إنهم أشخاص آخرون معتقلون معي.

كنت أحاول أن أعرف عددهم، أحاول أن أحصيهم وأعدهم، كانوا مرّة خمسة، ومرة سبعة، ومرة عشرة. يا الله، حتى عندما تجد أصحاباً يواسونك تجدهم في هذه الحالة فيزيدوا آلامك آلاماً..!

يضع مجاهد خده على يده وهو يحدثني عن هذه اللحظة، وتغرورق عيناه بالدموع، وكأنه يتذكر تلك اللحظات، وفجأة يقول: أحد أصدقائي كان ضمن أولئك المقيّدين في المسبح.

من هذا الشخص الذي تتحدث عنه؟ هل كان لك صديق هناك؟
عندما كنت محتجزاً لدى الحوثيين في اليوم الأول، وصل هؤلاء وقال لهم الحوثيون: بعد قليل سنسلمكم الطردين، وساعتها عرفت أن هناك "طرداً" آخر سواي!

عنوان
ليلتان قضاهما مجاهد داخل المسبح منفرداً، وثلاث ليالٍ قضاها مع أولئك الأصدقاء الذين لم يشاهد أياً منهم ولم يتحدث إلى أي منهم. ومرّة سادسة كانت حكايتها أخرى، وتفاصيلها مختلفة تماماً.. يقول:

هذه المرة، أدخلني العسكري إلى المسبح كالمعتاد، ونزع العصابة عن عيني، وقيّد يديّ إلى الخلف، وراح يقف هناك بالقرب.. مرت عليّ دقائق وأنا بين الماء، بدأ الشعور بالبرد ينحسر قليلاً، لم ينحسر الشعور بالبرد لتغيّر درجة حراة الماء، بل للآلام الشديدة التي كُنت أشعر بها في جسمي.. تركز الألم في ركبتي المكسورة، كان ألماً شديداً لا يُطاق.. حاولت تحمّله، حاولت أن أصبر عليه، لكن الألم كان يشتد كلما استجديته عطفاً..

انقضى نحو ساعة أو أكثر وأنا على هذه الحال، وبينما أنا كذلك، وبينما كنت أقلب عينيّ في كل اتجاه بحثاً عن لا شيء ينقذني وقعت عيناي على العسكري الواقف هناك خلف الليل واللثام والأسود.. كان يبدو لي كعمود من الظلام في الظلام، لكنني كنت أعرف أنه إنسان وليس عموداً، فكرت في استعطافه. توقعت أنه سيستشعر حدة الألم، هممت بذلك، قررت أن أناديه، لكنني تراجعت، تراجعت وأنا أستبعد أن بداخله مثقال ذرة من إنسانية، وعدت إلى نفسي وأوجاعي.. عاد الألم إلى ركبتي كأشد مما كان، راح يلح عليّ في أن أنادي العسكري وأستعطفه، ظل يشتد عليّ وكأنه انضم إليهم ليمارس التعذيب بحقي من جهته.. راح يجبرني على استجداء شيء من الرحمة في هذه الكتلة من الظلم، وأن أتحسس في ظلام قلبه عن شيء من نور إنسانية، وبعد منازعة معه رضخت وقررت الاستجابة له وأن أفعلها.. ناديت العسكري، وقبل أن يصل بدأت أشرح له: في ركبتي ثلاثة كسور، أرجوك، لا أستطيع تحمّل هذا الألم، أنا أخوك، في الأيام العادية وفي بيتي لا أستطيع أن أثنيها لبضع دقائق.. سألني عن طبيعة الكسور، ومتى كانت؟ ويا لهذه التعاسة، ويا لهذا النحس! هذا هو السؤال الذي كنت أخشاه، وهذا هو السؤال الذي جعلني أتردد أكثر من ساعة قبل أن أناديه وأستجديه.

لماذا لا تريد أن تخبره بحقيقة الكسور في رجلك وتشرح له الإصابة؟ ما الذي كنت تخشاه في هذا الأمر؟
فكّرت أن أكذب عليه، أن أخترع له أي حادثة، أقول له إن رجلي تعرضت لهذه الكسور، لكنهم كانوا يعرفون عني كل شيء، والكذب سيزيد الأمر سوءاً، وقررت أن أقول له الصدق..

وما هو الصدق الذي تريد الهروب منه؟
- في ثورة 2011 خرجت مع شباب الثورة في مسيرة "كنتاكي" الشهيرة، وعندما واجهتنا القوّة الأمنية وبدأت تستهدفنا بالقمع والرصاص قفزت إلى مقدّمة المصفحة لأرمي الرنج (الطلاء) على الزجاج، لكن عربة المياه اقتربت منِّي ووجهت صوبي خرطوم المياه، ولأنها فعلت ذلك من منطقة قريبة جداً فقد ألقت بي بعيداً ووقعت على ركبتي، فأصيبت بشرخ. ثم مرّت الأيام حتى كنت أستطيع المشي فخرجت لاستقبال مسيرة الحياة الشهيرة، استقبلتهم في ذمار، وشاركتهم المسيرة راكباً لأنني لا أستطيع المشي لمسافة طويلة، وفي مدخل صنعاء حين استقبلتنا رصاص الأمن والبلاطجة أصيبت ركبتي بطلقة من الرصاص البلاستيكي، وعندما ذهب إلى المستشفى تفاجأت أن فيها كسرين إضافة إلى الكسر الثالث، وتمزّق عضلي في مؤخرتها.

* وهل أخبرت العسكري بهذه المعلومات؟
- لم يكن أمامي إلا أن أخبره بهذا ولو بشكل مقتضب، فهم -يا صديقي- يعرفون عنّي أكثر مما تعرف أنت، ولو صدقتهم في كل شيء فسأقول إنهم يعرفون عنّي أكثر مما أعرف أنا..!

* وكيف كانت ردة فعل العسكري؟
- كانت مفاجأة، استمع إليّ بصمت، كأنه شعر بالألم الذي كُنت فيه، أو أحس بالألم الذي كان فيّ، اتجه إلى الداخل، وعاد بعد وقت قصير، وراح يفك القيود من يدي بهدوء، ساعدني في الصعود من المسبح، وعصب عيني من جديد ليعيدني إلى الزنزانة، مشى بي يقودني وكان شعور جديد مختلف يسري بداخلي، كم شعرت تجاهه بالامتنان، وكم شعرت بالارتياح وأن الدنيا ما يزال فيها خير، كنت ساعتها أريد أن أضمه إلى صدري.. فعلاً، مهما سار الإنسان في الإجرام فلا بُد أن يظل محتفظاً بقدر من إنسانيته في مكان ما من نفسه السوداء، ومهما قسى قلبه وتحجر فلا بُد أن يظل في قلبه أجزاء لينة.

* وماذا بعد؟
- اقتادني إلى الزنزانة، وأثناء ذلك كنت أفكر بالرباط الذي لمحته في يده. وما إن وصلت إلى الزنزانة، حتى فك الرباط من عيني، وراح يثني ركبتي حتى التصق ساقي من الجهة الخلفية بمنطقة الفخذ، صدمني بهذه المفاجأة، نقض بشكل مفاجئ كل ما اختلج في صدري من إحساس جديد، كنت أهز الجدران من شدة الصياح، وهو يقوم بتربيط رجلي على هذه الطريقة، ثم قيّد يدي حتى لا أفك الرباط، وتركني على تلك الحال وانصرف..

كانت الزنزانة ساخنة ساعة الدخول، كان هذا جيداً بعد الفترة التي قضيتها بالمسبح، لكن الحرارة لم تطل، وسرعان ما تحول نظام المكيّف إلى الهواء البارد.. بدأ البرد، اشتد بشكل تدريجي، ظل البرد يشتد والألم في ركبتي يسابقه ويشتد بشكل أسرع.. كنت أتألم، أتعذب، أتلوى، أتأوه، أصيح، أصيح، أصيح.. يا الله، لا أستطيع أن أصف ذلك، شيء فوق المعقول، فوق أن يصدّق.. كانت تلك المرّة الوحيدة التي ظل مكيّف الزنزانة مبرمجاً على البارد فقط، وكانت المرّة الوحيدة التي نسيت فيها نفسي وعُمري وبكيت فيها كما لو أنني طفل.. كنت أناديهم بكل صوتي وأرجوهم وأتوسل إليهم أن يعيدوني إلى المسبح ولكن دون جدوى.. لا أدري كم قضيت على تلك الحال، وهذه المرّة الأولى التي أقضي فيها كل ذلك الوقت بدون أن يتخللها تحقيق في غرفتهم الطبيعية، ربما كانت هي كل الساعات المخصصة لأقضيها في المسبح، وفجأة انتبهت وهم ينعشونني من حالة الإغماء التي أصبت بها، وإذا بهم يقتادونني إلى التحقيق.

مشيت إلى غرفة التحقيق على رجل واحدة، فالرِّجّل المصابة لم أكن أشعر بها بتاتاً، أو بالأحرى لم أكن أشعر بشيء سواها.. نزع العسكري العصابة عن عيني، ومباشرة بدأ المحقق أسئلته، كان هذا هو المحقق الأول، ولأول مرة لم يبدأ التحقيق معي بكلمة "كيف حالك؟"، لا أدري لماذا افتقدت هذه الكلمة في تلك اللحظة؟ ربما كنت أريد أن أشعر بأن أحداً يحسّ بي ويشعر بألمي حتى ولو كان واحداً من هؤلاء الذين يعذبونني، وكأن هذا المحقق لمس لديّ هذه الرغبة فأراد أن يحرمني هذا الإحساس، جلس على الكرسي وهو ينفخ صدره، وكان يبدو مزهواً.. نعم، هكذا كان يبدو، وبدا لي أنه على الأرجح قد شعر بي وأحس بكل ما أنا فيه!

التحقيق بعد التنويم
أحب مجاهد ذلك العسكري الذي كان يأتي كل ساعتين أو ثلاث لينقذه من عذاب الزنزانة ويقتاده إلى غرفة التحقيق، وكانت هذه إحدى عمليات هذا الإنقاذ..

عصب على عينيه كالعادة، واقتاده إلى الغرفة، وفجأة وجد المحقق يضع على رأسه جهازاً يُشبه جهازاً تستخدمه الكوافيرات لمعالجة شعر النساء، كان للجهاز أطراف حادة من الداخل شعر بوخزها في رأسه، ثم حقنه بحقنة في الوريد فقد بعدها الوعي خلال ثوانٍ.

حدث معه هذا لمرتين، ولم يفهم من ذلك شيئاً، لكنه تمكن في جلسة اعتيادية من معرفة ما كان يدور في تلك اللحظات، إذ طرح عليه المحقق ذات مرة سؤالاً، وعندما أجابه فوجئ بالمحقق يقول: أنت اعترفت بأنك فعلت كذا وكذا، فأنكر ذلك، وساعتها قام المحقق يشغل له مقطعاً قصيراً من شريط كاميرا الفيديو.. يقول مجاهد: رأيت نفسي في المقطع وأنا أتحدث وذلك الجهاز على رأسي، وعرفت أنه تحقيق تحت التنويم.

ويتابع: الغريب أن جوابي في مقطع الفيديو لم يختلف عن جوابي الآخر.

ولماذا يطلعك على المقطع إذا كان الجواب متطابقاً في المرتين؟
ربما كان نوعاً من الضغط النفسي وإثارة الخوف في نفسي، أو تعمدوا أن أعرف الهدف من ذلك الجهاز والحقنة حتى لا أخفي شيئاً مما كانوا يظنون أنه عندي.

ماذا أراد المحقق بذكر اليدومي وزيد الشامي؟
جلسات التحقيق كانت تجري بشكل هادئ، وأحياناً بشكل ودّي، أي لا أتعرض فيها للضرب والإهانة، ولدرجة أنني سألت المُحقق ذات مرّة: ما هو تخصصك؟ فقال: طبيب نفسي، ومتخصص في الإعلام. تخصصان بعيدان، لكن يبدو أن له علاقة ما بعلم النفس. وحسب ما نتابع من الأفلام والمسلسلات البوليسية يكون أحد أعضاء فريق التحقيقات طبيباً نفسياً، أو نال دورات في هذا المجال. أما تخصصه في الإعلام فلا أستبعد أيضاً أنه هو الذي نال دورات في هذا المجال من بين أعضاء الفريق، لأنه هو المحقق الذي قال لي ذات مرّة: المتفاعلون معك على الفيس بوك أطلقوا من أجلك أسرع هاشتاج، وتريد أن تقول لي إنك شخص بسيط ولا صلة لك بأي من الجهات؟ عندما قال هذا عرفت أن قضيتي خرجت للرأي العام، وأسعدني كلامه جداً بأصدقائي على "الفيس بوك،" وكأنه لمح في وجهي علامات الارتياح فأراد أن يكبتها. وإذا به يقول لي: كل المتفاعلين معك هم أشخاص عاديون جداً، لم يتفاعل معك أي من الشخصيات الكبيرة، ولا قيادات الأحزاب، ولا كبار الصحفيين. قلت له: لا يهمني إلا هؤلاء الأصدقاء على "الفيس".

وكما أسعدني بتلك الكلمة، فقد حزّ في نفسي أنني لم يكترث لي أي من الشخصيات الكبيرة والقيادات الحزبية، خاصة قيادة الإصلاح الذي أنتمي إليه، وكأن هذه هي الرسالة التي أراد إيصالها، إذ أراد أن يوغر صدري عليهم، أو ربما كان يحاول أن يدفعني إلى الاعتراف عليهم بشيء يظن أنني أخفيه عنهم. ولا أنكر أنه أوغر صدري عليهم، لكنه في جلسة تالية قال لي عكس هذا الكلام، حيث سألني عن علاقتي بعلي محسن وحميد الأحمر، وقال: إنني الوسيط بينهم وبين تنظيم القاعدة، فقلت له: يا أخي لا صحة لهذا الكلام. ورحت أقول له إنني شخص بسيط أكثر مما يتصوّر، فقال لي: إذا كنت شخصاً بسيطاً فلماذا يقوم اليدومي وزيد الشامي بمتابعة قضيتك ويطالبون بالإفراج عنك؟ ضحكت وقلت له: أنت قلت من قبل إنه لم يتفاعل معي إلا البسطاء في "الفيس بوك"، والآن تقول لي إن اليدومي والشامي يتابعون قضيتي! وحقيقة لم أفهم لماذا ذكر اليدومي وزيد الشامي بهذه الطريقة ونقض كلامه السابق.

كان هذا هو الطابع المُعتاد في التحقيق بخلاف الجلسة المطوّلة التي حقق معي فيها ذاك الحوثي بعد القبض عليّ..

يضحك مجاهد ويعود إلى الجلسة الأولى مع المُحقق الحوثي في ذلك المنزل المهجور.. قال: سألني عن أسلحة علي محسن، وأين أخبّيها..؟ فأجبته: وهل تركتم مع علي محسن سلاح؟ قال: أيش تقصد؟ قلت له: لا شيء، دخلتم إلى مقر الفرقة الأولى وحوّلتم أسلحتها إلى تُحف وحولتم مقرها إلى حديقة، والناس تتفرج على التّحف؟ فاستشاط غضباً، وقال لي: "أقلك أين مخبي أسلحة علي محسن"؟ فرددت عليه بسخرية: في زغني "تحت إبطي". استفزته هذه الكلمة فانفعل بشدة ورفسني في بطني رفسة قوية، واندفع يرفس الأرض ويركل الأحجار أمامه ويذهب ويجيء أمامي ويسب ويشتم ويقول: "أنتم دواعش، تربيتم على المفتالة (القوادة)، طبيعتكم الكذب، يابن الق....". مثل هذه اللحظات لم تتكرر أبداً في الجلسات التالية مع المُحققين الثلاثة، رغم أنني كنت أتوقّع حدوث شيءٍ من هذا القبيل من المُحقق الأول.

لماذا المُحقق الأول بالذات؟
لأنه هو رئيس الفريق، وكان ينفعل بعض الشيء أثناء التحقيق، ويقول لي: أقسم ما ترى ضوء الشمس إلا إذا اعترفت، وكان يمر عليّ في الزنزانة بين وقت وآخر، ويردد عليّ من الباب بنبرة تهديد: تعوّد على هذا الجو، تأقلم مع هذا الجو، لا تحلم تشوف ضوء الشمس، وكان يردد هذه العبارات في التحقيق أيضاً.

وكيف عرفت أنه رئيس الفريق؟
لأن الثلاثة اجتمعوا في إحدى جلسات التحقيق، وتحديداً في جلسة التنويم بذلك الجهاز، وكان هو من يعطيهم التوجيهات.

وجبة واحدة أتذوق معها الإحساس بالوقت!
ثمانية أيام بلياليها من نهار الاثنين وحتى نهار الثلاثاء من الأسبوع التالي، مرت على مجاهد السلالي يوماً واحداً، أو ليلة واحدة، لكنها كانت طويلة جدا.. لم يميّز خلالها وقت الصباح من الظهر من العصر من المغرب من الليل.

فقط هي مرّة واحدة عرف فيها الفجر.. كان ساعتها مقيداً في عذاب المسبح، وإذا بأذان الفجر قادم من إحدى القرى على رأس الجبل المجاور يهمي عليه دفئاً يبدد البرد، وأماناً يبدد الخوف، وأُنساً يبدد الوحشة، وتذكره بأنه "لا إله إلا الله"، وأنه "الله أكبر"، "الله أكبر".. يتابع: كم اشتقت لذلك الأذان، وكم أحببت ذلك الأذان، وكم تمنيت أن يطول ذلك الأذان!

لم يعرف كم انقضى من أيام قبل ذلك اليوم، وكان يتوقّع أن الأيام القادمة أطول بكثير، ولا حاجة لمعرفة الوقت، ولا معنى للإحساس بالوقت، فقط كان شيء من الفضول يدفعه لمعرفة تقسيم اليوم والليلة، ولكن دون جدوى.

يقول: كانوا يقدمون لي وجبة واحدة في اليوم، يخلطون لي فيها ما تبقى من طعامهم، وهي عبارة عن بعض الرز المخلوط مع الإدام، ومعه "كدمة"، كنت أفهم من هذا أنه وقت الغداء، وعادة هؤلاء الناس أن يتغدوا وقت العصر. كنت أتذوق تلك الكدمة وأتذوق معها الإحساس بالوقت!

صباح يوم ....... اقتاده العسكري إلى الغرفة المجاورة، ولما وصل نزع العصابة عن عينيه، كان مجاهد يظن أنها جلسة تحقيق، لكنه تفاجأ بهم يضعون أمامه بعض الأوراق ويطلبون منه التوقيع عليها من غير قراءة محتواها، خطر له أن يسألهم: ما الفرق بين التوقيع وأنتم تغطون على عيوني وبين التوقيع وأنتم تغطون مضمون الأوراق؟ سؤال وجيه، لكن مجاهد احتفظ به لنفسه خشية التبعات!

قام بالتوقيع، وسرت بداخله موجة من الأمل، فقد اقترب الفرج، إما بالإفراج، وإما بالإحالة إلى النيابة، وكلاهما فرج وخلاص من هذا العذاب.

لم يمضِ وقت قليل حتى جاءه العسكري يقتاده إلى سيارة وصفها بأنها مرتفعة تشبه الصالون بكراسٍ طويلة تشبه تلك التي ينقل عليها السجناء في جولاتهم بين السجن والنيابة، لكن هذا لم يرجّح لديه أنهم قرروا إرساله إلى النيابة؛ لأن هذه السيارة هي ذاتها التي نُقل عليها إلى هذا المكان المُوحش.

ساعة ونصف والسيارة تصعد به وتهبط في طريق غير مسفلت، وحتى عندما كانت تسير على الجزء المسفلت كان تفكيره يصعد ويهبط به أيضاً، توقفت السيارة فجأة. نزل العسكري، فتح الباب، سحبه إلى الخارج، شدّه من الخلف ورفسه رفسة قوية وهو ينزع العصابة عن عينيه. ارتطم مجاهد بالأرض، وارتطمت بأذنه عبارة بصوت "المحقق الأول" تقول: المرة الثانية سنجعلك تحفر قبرك بيدك.

كانت عيونه لا تطاوعه للانفتاح أمام ضوء النهار الذي لم تره منذ قرابة مائتي ساعة متواصلة، وراح يغرز أصابع يديه الاثنتين في الأرض يتحسس بهما الأمر، وما إذا كان حقيقياً أو مجرد حلمٍ أو وهمٍ تحت التنويم المغناطيسي.. التفت بنصف وجهه لينظر إلى السيارة التي انطلقت للتو بسرعة كبيرة في الوادي، لكن حركة إطاراتها أثارت أثناء الانطلاق غباراً كثيفاً كان بمثابة القناع الذي يخفي ملامحها.. يقول مجاهد: يوماً ما، سينجلي الغبار، وتسقط الأقنعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.