الرواية تجاوزت المألوف ونفذت إلى أعماق الحقيقة، فتوسدت التاريخ وافترشت الحقائق المُرَّة، إذ سارت الرواية سيراً حثيثاً كسير السلحفاة ولكن على رأي وحكمة جبران خليل جبران القائل : (السلحفاة أدرى بالطرق من الأرانب ) وهذا ما لمسناه من مادة التاريخ المقدَّمة في أكثر من فصل وبأسلوب مُحاكٍ لمغامرات الجيش الأحمر أو الكوري أو سيناريوهات الأفلام الهوليودية وأن أخذ البعض عليها جفاف العواطف -أحيانا- أو انقشاع غيوم الخصوبة التاريخية إلاَّ أن مثل هذه المأخذ له ما يبرره. إن الشيء الجميل في الرواية اعتمادها على الراوي المتأثر بما يدور من حوله هذا أحيانا كما نجد الراوي يعلق إما ساخراً أو ناقماً لا منتقماً، يقول في ص45(شطط وعنفوان ثوري لا نظير له في ذلكم العهد الذي رضعنا من حلماته، فكل الدنيا تكاد مستعرة بلظى الحرب القطبية ....) ويمثل هذا القول الجامع لتفاصيل عالم يمور بالتناقضات والتناحرات ما بين قطبي القوة المدمرة المتمثلة برواد الفكر الاشتراكي والبرجوازي ومن لفَّ لفهما.
إذن فالرواية لم تكن باباً من أبواب التدوين التاريخي فقط كما أنها لم تهتم إلاَّ بما سطرته المسطرة أو خطه القلم وإنما يجد القارئ المتمكن أو المعايش لتلك الأحداث، كأنما هو أمام استحضار عظيم لأرواح عصر فات (ومازال ) ولم تفت أو تغب عنا ملامح وجهه القاسية ؛ لهذا فأن القارئ أيا كان مستواه لا بد من أنه سيجد أبعاداً جديدة لم يقو أحداً على تناولها قبل رواية (الشرق أشجان ) هذه الرواية التي رصدت بعين ثاقبة مسيرة وطن وبروح مؤمنة الأحداث والمتغيرات وبقالب روائي ممتاز منذ الاستقلال لجنوب البلاد وحتى اللحظة ...اللحظة التي نجدها فرصة مناسبة لأن نحث الكاتب ليطلق العنان لخياله الأدبي الواسع والجبار لعلَّه بذلك يصل بنا إلى مخرج نتوق إليه جميعا، خصوصاً وأن الشيوعية استطاعت ببعض منطقها لأن تحوِّل بعض دعاة الإسلام –الشيخ إبراهيم وعبده الصنعاني وغيرهما في الرواية – إلى مدافعين عن هذا الفكر وخصوماً للإسلام ودعاته بلا غاية أو صلة أو أصالة تربط مثل هؤلاء بأسس وقواعد وأحكام الثوابت والمتغيرات، كما أن العصر الراهن قد حال بقيمه المعاصرة ...قيم العولمة والارتزاق من دون أحداث أي نهوض جماهيري أو شعبي أو نخبوي إنساني يلتف حول خطابه ورؤيته العربية خاصة والإنسانية الإسلامية جامعة بحيث يحقق للجميع المبدأ أو الوعد الإلهي المتمثل بقوله تعالى : (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين ) فهنيئا لروائي طرق قدر المستطاع –أبوابا- لم يجرؤ سواه على طرقها وهذا بحد ذاته فقط شرفاً لا نشك بأنه سيخرس الألسن المتطاولة أو النظرة الحاسدة، كيف لا ونحن أمام أدب روائي تقف خلفه ووراءه روح صلبة متقدة وحماس لا يعرف الإخفاق إليها طريقاً لا ولا نفاد الصبر والبصيرة، فهذه الرواية كأنما هي عمل ملحمي سطرته بطولات عمالقة إنسانيون مثل الأُم والمعلمة وفاء المصري أو العم يوسف الذي كان بحق مثل صاحبه الثائر الأرجنتيني تشي جيفارا بتنقله من بلد إلى أخر في أمريكا اللاتينية كذلك يوسف الثائر على الاستعمار في الجنوب والمدافع عن صنعاء وبيروت أثناء حصارهما والمقاوم في الجولان وسيناء.
وأخيراً فإنَّا لا نجد بداً من الاعتراف بحقيقة وجود المقومات الروائية الثلاثة المتمثلة بالنص والواقع –الحكاية – والخطاب، فالعناصر الروائية متواجدة مع كل حدث ومهما تشعبت أو تعددت أو تنوعت خيوط هذه المقومات إلاَّ أن مسألة الإمساك بها أو تجميعها ليست بالمستحيل.