وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    بعد هجوم حوثي بصاروخ باليستي وطيران مسير.. إعلان عسكري أمريكية عن عملية مدمرة    توني كروس: انشيلوتي دائما ما يكذب علينا    دي زيربي يجهل مستقبل انسو فاتي في برايتون    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    صحيفة تكشف حقيقة التغييرات في خارطة الطريق اليمنية.. وتتحدث عن صفقة مباشرة مع ''إسرائيل''    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية السيرية في الخليج العربي
نشر في الجنوب ميديا يوم 12 - 11 - 2012

تستثمر السيرة الذكريات والاعترافات، وتتوسل سرود اليوميات والمذكرات والرسائل . والسيرة قاموساً هي السنّة والطريقة والهيئة والميزة (القاموس المحيط للفيروز آبادي) . وهي أيضاً عند العامة: القصة (محيط المحيط للبستاني)، كأن يقال: سيرة الظاهر بيبرس، أي: قصته . وقد يكون للوثيقة حضور وفعل في السيرة . لكن الفعل المؤكد فيها هو للتخييل، مهما يُقل في الصدق والاختلاق والتركيب و . . وسواء كانت السيرة ذاتية، أم سيرة آخر . أما الرواية، فلأنها ذلك الفن الذي لا يكاد يعين تخومه حتى ينقضها، ولأنها ذلك (الغول) الذي يلتهم من الفنون والمعارف والأساليب ما يلتهم، فقد تستثمر الرواية من سيرة صاحبها أو سواه ما تستثمر، كما قد تستثمر من الوثيقة ما تستثمر . وقد تتوسل سرود اليوميات والمذكرات والرسائل، لكن قوام ذلك كله هو التخييل . ومن هنا جرى القول بالسيرة الروائية - كما جرى القول منذ فجر السيرة بالسيرة القصصية - والرواية السيرية .
في عام 1912 صدرت رواية جبران خليل جبران (الأجنحة المتكسرة) . وبذا بات عمر هذه الرواية السيرية قرناً كاملاً، كان للرواية العربية خلاله تاريخ زاخر، وبخاصة منذ سبعينات القرن العشرين، حيث أخذ حضور الرواية السيرية يتواتر، وكأنما هو يعبر بذلك عن اطّراد نمو الفردية - وثمة من يقول باطّراد الانكفاء على الذات - مقابل استفحال الطغيان السياسي والمجتمعي . وهكذا، ومقابل رواية سيرية مثل (أنا أحيا - 1985) لليلى بعلبكي أو (المهزومون - 1961) لهاني الراهب، صار عدّ الروايات السيرية يُعجز المرء، مما كتب حنا مينة وصنع الله إبراهيم وأحلام مستغانمي وحنان الشيخ وآمال مختار ومحمد شكري وجبرا إبراهيم جبرا وإدوارد الخراط وعلوية صبح وسميحة خريس ومؤنس الرزاز وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج و . . . عدا عما ظهر من الرواية السيرية في بلدان الخليج العربي، مما سيكون مدار هذا البحث الذي سيهتدي بالإشارات السبع الآتية:
- المراهنة الكبرى على ضمير المتكلم في الرواية السيرية، وهو الضمير الذي يُلبس الرواية بالسيرة الذاتية، ويفسح للذات أن تطغى وتتمرأى .
- غياب اسم الراوي .
- المطابقة بين اسم الراوي واسم الكاتب، والحضور الصريح للكاتب في الرواية .
- التوصل باستراتيجية اللاتعيين، أي إخفاء اسم الفضاء الروائي و/أو عدم تحديد الزمن الروائي .
- ملاعبة الضمائر الثلاثة: المتكلمة (ياء المتكلم) والمخاطب (كاف أو تاء المخاطب) والغائب: هو، لكأن الملاعبة تقتفي ما نص عليه أبو الحسن حازم القرطاجي في (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) في قوله: "وهم يسأمون الاستمرار على ضمير المتكلم أو ضمير الخطاب، فينينتقلون من الخطاب إلى الغيبة . وكذلك أيضاً فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافاً أو تاء فيجعل نفسه مخاطباً، فيقيم نفسه مقام الغائب فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضميراً متكلماً أو مخاطباً لا يستطاب وإنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض".
- نفي الكاتب لسيرية الرواية ليصح فيه القول: يكاد المريب يقول: خذوني .
- التعويل في القول بسيرية الرواية على اعتراف الكاتب/ الكاتبة الصريح أو الموارب خارج الرواية، في شهادة مثلاً أو حوار . . .
- التوسل باستراتيجية القناع، أو لعبة التخفي والظهور، حيث ينشط ضمير الغائب، ويكون للراوي اسمه، كما تكون له مسافة ما تفصله عن الكاتب .
وبالروايات التي لعبت هذه اللعبة في الخليج العربي نبدأ:
لعبة التخفي والظهور
* تركي الحمد: أطياف الأزقة المهجورة (السعودية): في ثلاثة أجزاء جاءت رواية تركي الحمد (أطياف الأزقة المهجورة)، وقد تعنون الجزء الأول ب (العدامة - 1997)، وفيه يعود (بطل) الثلاثية هشام إلى فتوته عبر اكتشاف الجسد، وعبر التكون الأيديولوجي والسياسي، والمتعنون بالقومية العربية، وبما يمثل هشام من جيله . ويأتي كل ذلك إثر هزيمة ،1967 وصولاً إلى منتصف سبعينات القرن الماضي .
أما الجزء الثاني فقد تعنون ب (الشميسي - 1997) وفيه ينتقل هشام الشاب إلى الرياض، مديراً ظهره لما سبق، ومقبلاً على كل ما اضطرم فيه ذلك الماضي وهذا الحاضر من المحرمات، فتتولاه الأسئلة ويكابد الشك، نشداناً لحقائق مختلفة، وللخروج من الخواء نحو الامتلاء بالمعنى . لكن السجن سيكون له بالمرصاد .
يستعيد الجزء الثالث (الكراديب - 1998) تجربة هشام المريرة في السجن في جدة، ما خص منها الجسد وما خص منها الروح . فبعد خروجه من السجن يبدو له أن عالماً برمته قد انهار، وذلك بسقوط المبادئ والمثل، وبالبرودة القاتلة التي تجتاحه . وإذ يتقرّى هشام ماضيه حتى يوم التقري، يرى الفضاء قد خلا من أصدقاء ورفاق ذلك الماضي، كما يرى الفضاء نفسه قد تبدل تبديلاً . لقد تلون السرد في هذه الثلاثية بالحوار . لكن ذلك لم يخفف من الضغط على الرواية بالسيرة السياسية لهشام، وكذلك بسيرته الفكرية . وهما - السيرتان - ما يسّر (الظهور) في اللعبة الروائية، ما أبطل التخفي بقناع هشام .
* ميسون صقر: ريحانة (الإمارات العربية المتحدة): تحمل الرواية الأولى لهذه الراوية اسم شمسة التي تحدث عاشقها المصري (هادف) عن طموحها إلى كتابة سيرة عبدة، مما يعود إلى ستينات القرن الماضي وذلك العالم الآيل للتبدد والمحو، بينما يسعى مشروع شمسة الكتابي إلى تسجيل عالم العبودية الهامشي، على الرغم من أنه بات من الماضي .
هذا المشروع - الطموح هو بالضبط رواية (ريحانة) التي حملت اسم العبدة (ريحانة) . ومن هنا تبدأ الإشارات السيرية الكافية حتى لو لم يتوفّر للقراءة أي معطى آخر عن الكتابة . فالرواية تسوق أخبار الانقلابيين على الحاكم في الشارقة، وهجرة المنقلب عليهم إلى القاهرة، وهو ما ينادي سيرة الكاتبة، مثلما يناديها أن تتولى شمسة السرد بضمير المتكمل، ولكن دون أن ينفرد هذا الضمير بالرواية أو بالراوية . فريحانة تروي أيضاً بضمير المتكلم، كما سيروي ضمير الغائب عنها، ثم يعود ضمير المتكلم لها أو لشمسة التي تروي على هادف ذكرياتها من الطفولة إلى الجامعة .
* أمين صالح: رهائن الغيب (البحرين): حملت رواية أمين صالح الأولى في عنوانها (أغنية ألف . صاد . الأولى) الحرف الأول من الاسم والحرف الأول من اللقب . وإذا كانت السيرة تلّوح في هذا العنوان كما ستلّوح بضمير المتكلم، فهي لا تني تعلن عن نفسها في هذه الرواية التي صدرت عام ،1982 بينما ذيّلها تاريخ كتابتها عام 1975 .
بعد ثلاثين سنة من هذا التاريخ تأتي رواية أمين صالح (رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة)، فإذا بالسيرية أكبر تلويحاً وفعلاً منها في الرواية الأولى، كما هو شأن التجريبية والطموح الحداثي في الروايتين . فقد بدأت (رهائن الغيب) بمشهد ولادة المرأة "التي ستكون أمي"في البيت "الذي سيكون بيتي"بينما ينتظر الرجل "الذي سيكون أبي"كما تتوالى عبارات الراوي المعترضة . وإثر هذا المشهد - وعنوانه: في البدء - يأتي (مفتتح) بمثابة بيان للرواية سيتعزز في مظان عديدة منها، ليجلو المنظور السيري الروائي . فالراوي هو حميد "الآخر الذي لم أكنه أبداً، والذي يشيد من حطام الذاكرة عالماً لم تطأه قدماي". وإلى ذلك يضيف الراوي "وإذ أكتب ما تمليه عليّ الذاكرة وما لا تمليه، فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن".
يغري هذا الإعلان بتأخير السيرية وتقديم التخييل . لكن السيرية سرعان ما ستتأكد في ما يلي من البيان/ المفتتح، إذ يتابع الراوي وهو يرسم (مخطط) الرواية: "أسرع البازغ من أيام راوغت فخاح النسيان"و"أسرد الجسد الكامن خلف بكارة الأشكال"و"أسرد أنقاض خرائط خلفتها حروب وديعة"و"أسرد مرايا حي الفاضل في العام 1963". ولا يفوت الراوي في بيانه أن يعلن لعبته الفنية إذ يقول: "أسرد السرد الذي يتبع مسائر الحلزون العائد نحو الشظايا ملتمساً شفاعة الجذور". ولأن الراوي ليس الرهينة الوحيدة للغيب، وليس الوحيد الذي هبط في صحن الدار بلا أجنحة، بالأحرى لأنه واحد من الشخصيات التي ستملأ الرواية، فهو يختم بيانه بالتوكيد أنه إذ يسرد الآخرين (الآن) واحداً واحداً، فإنما يقتفي في سفر الالتباس "وجوهاً موّهت ملامحها وانحدرت نحو السراب، أو ربما تقتفيني الوجوه إلى خلوة الحبر، حيث أسهر متكئاً على حبر الكتابة، منصتاً إلى ما يرويه الحبر من ترف المصادفات ودبيب الحنين . . وأذرف حلماً".
بين فعل التذكّر والكتابة (الآن) وبين الماضي المروي يتطاول الزمن . وإذا كانت الرواية قد بدأت بمشهد الولادة من ذلك الماضي، فهي ستتركز إثر ذلك في مراهقة حميد وأقرانه: كريم الأعرج ومفتاح وعزوز ابن الخباز ونبيل . . . ولأن الرواية تلاحق المصائر من ذلك الماضي إلى (الآن)، فقد أفردت لهذه الملاحقة مستوى سردياً خاصاً جاء بالأحرف المائلة، وتكررت فيه كلمة (الآن)، كما تكررت في خواتيم فقراته الإشارات إلى الطفولة: صباح الطفولة/ زغب الطفولة/ أرياف الطفولة/ جمر الطفولة . وفي هذا المستوى أوجزت الرواية مآل كريم الأعرج إلى ثوري ومعتقل وحزبيّ وعاشق فمخذول، وكذلك أوجزت الرواية مآل عزوز في التجارة، وجنون مفتاح بعدما طفر وأمه من ضرب أبيه ثم أحرق البيت وفيه أبوه . . وإذا كانت الرواية ستفرد لكل من أولاء الأقران فقرة من الفصل 56 - كما سيفرد الفصل 57 فقرة لكل لحظة من اليوم، فالرواية ستكرر فحوى بيانها الافتتاحي، كأن يقول حميد: "الآن من شرفة حاضر - يبيح لي فسحة للتأمل ويتيح لذاكرتي أن تخترق بعناد أغشية تبدو ظاهرياً شفافة، لكنها مراوغة مثل سحب عابثة - أرنو إلى ماض تدرج لونه حتى صار رمادياً". على أن المهم هنا هو أن ذلك الماضي الذي يسهو عن مواعيده، يبحث عن فصله الأخير، وهذا الفصل الموعود ليس غير مزار هلامي، لذلك - ربما - انتهت الرواية بلقطات للشخصيات وللمفردات الكبرى التي تشكلت منها المشاهد، وجاءت الجملة الأخيرة تنادي عنوان الرواية، إذ يسدل حميد "أجفانه على أعوام صاخبة تتراكض في ربوع الأمس . . مثل غيب يسدل الستائر على رهائن لا يعلمون أنهم رهائن".
في ذلك الماضي - الغيب - رمحت الرهائن - حميد وأقرانه - بين سجن المدرسة والسينما والعرس واقتحام الخرابة وكرة القدم وجولات الدراجات والعراك والعشق ومشاكسة الأساتذة والآباء والسرقة وصراع الديكة . . واشتبك كل ذلك برهائن أكبر من الشبان والصبايا والآباء والأمهات . وقد نتأ من ذلك أن تأتي قصة والد حميد بضمير المخاطب، بينما جاء رسم سلطان وأحمد وسنان كلحظات فاصلة في تكوّن حميد . فمن الأول القوي الذي يعمل مع المخابرات يطلب حميد "علمني لأكون قوياً مثلك«، ومن الثاني القومي المأخوذ ورفاقه بالسياسة والذين يتظاهرون ضد الاستعمار ويهتفون لعبدالناصر، يطلب حميد أن يعلمه السياسة . ومن الثالث الذي جاء وحيداً وغامضاً تواكبه أناشيد السكر وشجن الساكسفون، يطلب حميد أن يعلمه الموسيقا . والقوة والسياسة والموسيقا إذاً، هي ما يصبو إليه هذا المراهق الذي وشمت ذاكرته قصة خلود في نشأتها "طفولة مشبوهة أم أنوثة مقمطة«، والتي اعتدى عليها مخدومها فيما شاع أن القمر هو الفاعل، وقد كان لرواية يوسف المحيميد (فخاخ الرائحة) عزف آخر على هذه الأسطورة .
ثمة الكثير أيضاً مما وشم ذاكرة حميد، وتعاور على سرده المتكلم فرداً وجماعة كما تولاه الغائب بلغة تلفعها الشاعرية غالباً، ولا تعدم عبر ذلك المواطن التي تفيض بها المجازات على الشخصية أو الحالة أو الحدث . على أن اعتماد البناء المسرحي للمشهد قد خفف من وطأة ذلك كما خفف منه اعتماد اللقطة السينمائية .
ومن أمثلة ذلك أن يبدأ السرد بوصف الأزقة الأفعوانية الضيقة وبيوت الطين والسعف والمصابيح المعلقة، ثم يظهر في أورام المدينة هذه كلبان هزيلان وناطور أخرق وصمت زاهد و . . حميد في الثالثة عشرة من عمره . وكذلك يبدأ السرد بريح خفيفة وشمس مذهبة وصيادين يصنعون الأقفاص وأسماك لاهية في البحر و . . وعراك بين فريقين للصبيان . وقد يتوقف السرد في لحظة بعينها لتنتقل العين السينمائية من بيت إلى بيت ومن شخصية إلى شخصية، أو قد يبدأ السرد بلحظة بعينها كالظهيرة في الفقرات 8-9-10-11 والمساء في الفقرتين 12-13 وليلة الحلم في الفقرتين 17-18 وليلة العرس في الفقرتين 36-37 . . ولئن كان في كل ذلك - ومعه ما كان للحوار من حضور مميز - ما يغلّب الروائية على السيرية، فإن النظر من جديد إلى (رهائن الغيب) بجماعها يظل يلح بالسؤال عن ترجحها بين الرواية والسيرة، وبالتالي عن ترجحها بين رواية السيرة الذاتية ورواية التكون الذاتي، بين الذات المموهة وبين لعبة المرايا، مما بات غواية كبرى للرواية العربية .
الحضور الصريح للكاتب:
على النحو الذي بكّر إليه غالب هلسا في (الخماسين 1975)، إذ حمل الراوي - البطل اسمه الصريح، تلت روايتا عبدالحكيم قاسم (محاولة للخروج - 1980) و(المسلة - 1980) لكاتب هذه السطور، فحمل راويا - بطلا الروايتين اسمي الكاتبين . وهذا ما سيتوافر في فورة الرواية العربية خلال العقد الأخير بخاصة، كما فعل حليم بركات وخليل النعيمي وخليل صويلح ونورا أمين . . وفي هذا السياق تدافعت الروايات التالية في الخليج العربي:
* طالب الرفاعي: سمر كلمات (الكويت): منذ روايته الأولى (ظل الشمس - 2000) بدا جلياً كم هو ملح على الكاتب أن يلعب لعبة حضوره الصريح في الرواية . وهذا ما مضت به المغامرة أبعد في رواية (سمر كلمات) التي لعبت لعبة السيرة ولعبة الأصوات، فتطابق فيها السارد والكاتب، كما كان الكاتب فيها صوتاً من أصوات .
يؤكد طالب للشخصية الروائية التي حملت الرواية اسمها (سمر) أن صديقتها ريم ستكون إحدى بطلات الرواية التي يكتبها، أي رواية (سمر كلمات) . وسوف تزخر الرواية بسيرتها، أي بالسيرة النصية، فالسيرية هنا ليست وقفاً على الكاتب الذي يشله التفكير بريم عن كتابة الرواية، فتخشى سمر من أن تعتبر الرواية سيرة ذاتية، فتكون فضيحة، لأن الكويت صغيرة، وحين تسأل ريم الكاتب عمن اختار أسماء الشخصيات في الرواية، فيخبرها أنه هو من سمى، ما عدا صديقه سليمان، إذ اختارت له هذا الاسم فرح بنت طالب الرفاعي، فأين هو الواقعي وأين هو المتخيل؟ أين هي السيرة وأين هو اللعب؟ أين هي - بالأحرى - الحقيقة الفنية؟
يتضاعف إنجاز الرواية للجواب عن تلك التساؤلات بما تسوقه الرواية من سيرة كاتبها . وأول ذلك أن سمر تزوره في مكتبه الصغير في جريدة الفنون، حيث كان يعمل طالب الرفاعي كما هو معروف . لكن الأهم ما سيلي في الفصل الثاني حيث تظهر زوجة الكاتب (شروق) تحوم كعادتها حول زوجها الذي ينشد التفرغ "الرواية تحتاج لتفرغ"ويمضّه الجمع بين الوظيفة الحكومية والكتابة . وفيما يحدّث به الكاتب زوجته، يصف مكابدته لكتابة روايته الجديدة، ولعسر البداية دوماً، كما يحدّثها عن شخصيات الرواية وعلاقته بكل منها: "عليّ أن أتخيل الأبطال بصورهم وأصواتهم ونظراتهم وحتى روائحهم، ومن ثم عليّ أن أصادقهم، أعيش معهم في الأمكنة التي تجري فيها أحداث الرواية، وأحيا لحظاتهم لكل أوجاعها . ويردف الكاتب أنه منذ البداية يبحر مع الشخصيات على سفينة الرواية، ويصير واحداً منها، "نلتقي ونتحدث ونصغي لبعضنا البعض ونختلف وقد يموت أحدنا فنحزن عليه ونبكي، وقد نحتفل بعيد ميلاد آخر ونرقص". وقد يتساءل امرؤ عما إن كان بعض ذلك أو كله من قبيل المكر الذي يداور السيري . لكن طالب الرفاعي يبدو غير آبه وهو يقبل على "تجربة جديدة"مع ريم، وحسبه أن يتساءل عما إن كان بحاجة إلى علاقة إنسانية جديدة . وسوف يتساءل بحرقة أكبر في الفصل السادس عما تقدمه علاقة ثانية لرجل متزوج، بينما تنبت بين الأسطر قصة حب لرجل يبدو مستقراً في بيته ومع زوجته وأولاده . ولا يفوت الكاتب أن يصل ذلك بالسؤال عن اختلاف الجنسين، لكن الأهم هو أن الكاتب يخبر زوجته بعلاقته مع إحدى بطلات روايته الجديدة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.