إنَّ القول القصصي يقوم أساساً على تقنيات سردية متنوعة، منها ما يتعلق بالكيفية التي تدرك بها القصة من طرف الراوي، ومنها ما يخص الطريقة التي يقدم بها هذا الراوي قصته أو قوله القصصي.. في محور من محاور الفصل الذي خصصه جرار جنيت للخطاب السردي عنونه بالمنظور ”Perspective” نجد تلخيصاً مركزاً لتصنيفات “وجهة النظر” التي اقترحها جل النقاد الذين عنوا بدراسة المنظور السردي، ولا يكتفي هذا الدارس بتقديم ما أنجزه هؤلاء فقط، بل إنه يقدم لنا بدوره في فصل خاص مصطلحاً جديداً هو التبئير Focalisations يقدم لنا جنيت هذه التصنيفات عبر منهج تاريخي كما يلي: 1 في سنة 1943 يقترح Cleanth Brooks et Robert Renn Warnen مصطلح المنظور السردي كمصطلح مساوٍ “لوجهة النظر”، ويقدمان نموذجاً يضم أربع مصطلحات يلخصها الجدول الآتي: الأحداث محللة من الداخل. الأحداث مرصودة من الخارج. الراوي مقدم كشخصية داخل الحدث. البطل يحكي قصته. شاهد عيان يحكي قصة البطل. الراوي الغائب عن الحدث. المؤلف المحلل أو العارف بكل شيء يحكي القصة. المؤلف يحكي القصة من الخارج. ويحدد جنيت موقع “وجهة النظر” داخلية وخارجية في الخط العمودي، وموقع الصوت الراوي في الاتجاه الأفقي. 2 وفي سنة 1955 يقوم ف.ك. ستانزل F.K.Stanzel بالتمييز بين أنماط ثلاثة للأوضاع السردية الروائية: أ الوضع الذي يكون فيه المؤلف عارفاً بكل شيء. ب الوضع الذي يكون فيه الراوي هو إحدى الشخصيات. ج الوضع الذي يكون فيه الحدث مروياً بضمير الغائب حسب وجهة نظر شخصية من الشخصيات الروائية. 3 ويقدم نورمان فريدمان Norman Friedman من جهته تصنيفاً أكثر تعقيداً في ثمانية مفاهيم: أ الراوي العارف بكل شيء المقتحم. ب الراوي العارف بكل شيء المحايد. ج أنا شاهد العيان. د أنا البطل. ه الراوي العارف بكل شيء المتعدد. و الراوي العارف الواحد. ز الشكل الدرامي. ح الكاميرا. ويلاحظ جنيت أن النمطين الثالث والرابع لا يتميزان عن الأنماط الأخرى إلا في أنهما يسردان بضمير المتكلم، وأن الفرق بين النمطين الأولين هو كذلك أمر متعلق بالصوت، بمعنى أنهما يتعلقان بالراوي وليس بوجهة النظر. 4 في سنة 1961 يظهر علينا واين بوث Wayne Booth بدراسته القيمة “المسافة ووجهة النظر“ التي خصصها للحديث عن قضايا الصوت (Voix)؛ فميز فيها بين المؤلف الضمني والراوي المعلن أو غير المعلن المتمتع بالثقة أو غير المتمتع بها. 5 وفي سنة 1962 يتناول Romberg Bertil جدول Stanzel فيضيف إليه نوعاً رابعاً وهو السرد الموضوعي «النوع السابع عند فريدمان»، مكوناً هذا الرباعي: أ سرد المؤلف العارف بكل شيء. ب سرد وجهة النظر. ج سرد موضوعي. د سرد بضمير المتكلم. 6 وفيما بعد يأتي “بورخيس“ فيدخل نوعاً خامساً وهو النموذج الصيني الذي يكون فيه السرد مكتوباً بريشة جد رقيقة. ويرى جرار جنيت في ختام عرضه أنه من الأليق هنا حتى نبتعد عن هذا الالتباس الذي ينشأ عن تزاحم مصطلحي “الصوت“ و“الصيغة“ أن لا نعتبر إلا التحديدات الصيغية الخالصة «الرؤية»، أي تلك التي تتعلق بما يسمى عادة “بوجهة النظر” أو “الرؤية” Vision حسب تحديد Jean Pouillon، والمظهر Aspect حسب اصطلاح تودوروف Tzvetan Todorov. وهكذا تصنف “وجهة النظر” إلى ثلاثة أصناف: الأول: هو ما اصطلح النقد الأنكلوسكسوني على تسميته بسرد العارف بكل شيء، وسماه بويون “بالرؤية من الخلف”، ورمز إليه تودوروف بالمعادلة: الراوي الشخصية، حيث الراوي يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية أو يقول أكثر مما تعرف أية شخصية من الشخصيات. الثاني: الراوي = الشخصية، الراوي لا يقول إلا ما تعرفه أية شخصية، وهذا هو السرد عبر “وجهة النظر“ حسب لوبوك أو عن طريق “تحديد ميدان الرؤية“ حسب بلن Blin أو الرؤية مع حسب بويون. الثالث: الراوي من الشخصية الراوي يقول أقل مما تعرفه الشخصية وهذا هو السرد الموضوعي أو ”البهافيوريست“ Behavioriste الذي يدعوه بويون “بالرؤية من الخارج“. أما مصطلح التبئير الذي يقترحه جنيت فيصنف إلى ثلاثة أصناف: 1 السرد غير المبأر أو السرد ذو التبئير الصفر، وهو الذي يقدو في السرد الكلاسيكي على وجه العموم. 2 السرد ذو التبئير الداخلي، سواء كان محدوداً أو متنوعاً كما في مدام بوفاري، حيث الشخصية البؤرية هي في البداية شارل ثم إيما ثم شارل من جديد، أو متعدداً Multiple كما في الروايات التي تقوم حبكتها على الرسائل حيث يكون الحدث الواحد مستحضراً مرات عديدة حسب وجهة نظر عدد كبير من الشخصيات التي تنشيء الرسائل، «وهي التقنية المستعملة في ميرامار وإن كانت هذه الأخيرة لا تقوم على أساس الرسائل». ويقول جرار جنيت: إن الشعر الحكائي”Lanneau et le livre Poème narratif” الذي كتبه Robert Browning «والذي يحكي عن جريمة مشاهدة بالتتالي من طرف القاتل والضحايا والدفاع والاتهام...» هو الذي مهد لهذا النوع من السرد. 3 السرد ذو التبئير الخارجي المنتشر فيما بين الحربين بفضل روايات Dashiel Hammet، حيث يكون البطل متحركاً أمامنا دون أن نستطيع معرفة أفكاره وعواطفه. ونخلص من هذا إلى أن التصنيفات للرواة ترتبط بالطريقة التي تقدم بها مادة الرواية، طريقة العرض التي تعتمد على مسرحة الحدث، أو طريقة الحكي التي تستند إلى الخلاصة “Sommaire“. كما نخلص إلى أن “وجهة النظر” تعني “العلاقة بين المؤلف والراوي وموضوع الرواية “أي هي الزاوية التي ينقل الراوي انطلاقاً منها الأحداث؛ بمعنى أن هذه الأحداث لا تحكى لنا من طرف مؤلف عارف بكل شيء كما رآها هو، بل تحكى لنا كما تراها شخصية من شخصيات الرواية التي “تكون مركز السرد ومن خلالها نرى نحن الآخرين“ كما يقول بويون. يرى واين بوث أن “وجهة النظر” تمنح الراوي رؤية داخلية، وتنقل النظرات المحدودة للشخصيات، بيد أننا نجده كما أشرنا إلى ذلك آنفا يقول إن الأعمال الروائية المقدمة عبر وجهة النظر، وبواسطة “مسرحة الحدث“ تطرح كذلك معرفة بكل شيء من طرف المؤلف الذي يركن إلى الصمت. ذلك أن اكتشافنا الجوال المتنقل لوعي 16 شخصية في رواية “عندما استلقيت محتضراً“ لفولكنر Tandis que j'agonise وخلال امتدادها لا نرى إلا ما يحتويه وعي هذه الشخصيات. إن هذا الاكتشاف يمكن أن يظهر بمعنى ما غير مرتبط براوٍ عارف بكل شيء، ولكن من الناحية الواقعية هو مصنوع من طرف المعرفة بكل شيء. ولقد استعمل فولكنر في روايته هاته تقنية وجهة النظر المتعددة أو الرؤية المجسادية Vision Stéréoscopique، “فقص نفس الحدث مرات عديدة من خلال بؤر سردية مختلفة، كل فصل يأخذ كعنوان اسم الشخصية التي تروي الأحداث من خلالها“ «وهي نفس التقنية المستعملة في ميرامار كما سنرى». ويرى بول إيلي Paul Ilie “أن القارئ في هذه التقنية يجد نفسه لا في المشهد نفسه، بل في الأشكال التي يرى بها هذا المشهد. إن الشيء المنظور يبقى أقل أهمية من الكيفية التي هو منظور بها إليه”. ولقد ربطت الناقدة اللبنانية يمنى العيد ربطاً موفقاً بين استعمال هذه التقنية وحاجة الإنسان إلى الحرية في أن يقول ما يريد قوله بنفسه دون وصاية، “لأن الحقيقة لم تعد في صوت الراوي وحده، بل هي في هذه الأصوات وقد تعددت، وعدالها نطقها ورؤاها“. تقول يمنى العيد إن هذه التقنية التي يختفي فيها الراوي وراء شخوصه لكي يقدم القصة وكأنها تحكي نفسها بنفسها، فضلاً عن أنها ساهمت في دفع القصة إلى تحقيق الإيهام بالواقع، تشير إلى لعبة فنية ارتبطت بحاجة الإنسان المعاصر إلى الحرية التي يعيش قمعها لتعبيره خاصة في زمن أصبحت فيه الأجهزة الثقافية والإعلامية تتولى عنه القول، وتظن أن هذه الحاجة إلى الحضور قولاً في الأدب هي ما قد يفسر تراجع الراوي وغيابه خلف الشخصيات ليفسح الكاتب لها المجيء لمسرح القول هذا. وإذا كانت الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بطبيعة الحال إلا عن طريق تعددية في بؤر السرد، فإن هناك حقيقة أخرى، وهي أنه لا توجد حقيقة واحدة بل حقائق، وعلى أي حال إن معرفة الحقيقة في مجال ما هو إنساني أمر لا يُدرك. وعلى هذا تبقى “وجهة النظر” تقنية سردية تتفتح على آفاق الحياة المتنوعة، وتبتعد عن النظرة الأحادية ذات الطابع الاستبدادي التي يتبناها الراوي العارف بكل شيء.