هل أصبح الرئيس معزولاً عن بعض ما يجري في الساحة المحلية؟! لم أجد أبلغ من هذا التساؤل، كاستهلال مباشر، ينقل القارئ إلى قلب الفكرة دونما حاجة لمطبات وفواصل لغوية.. ثمة شعور ما انفك يتنامى باضطراد لدى بعض من خبروا طرائق الرئيس صالح وأساليبه في إدارة شؤون البلاد، مضمونه يشير إلى غياب بصماته المعتادة في عدد من القرارات والتوجهات والسياسات.. شعور هؤلاء بلغ مرحلة اليقين في ضلوع يد حديثة الخبرة بضة التكوين في طباخة جانب واسع من السياسات المتخبطة، التي سادت منذ مدة ليست بالقصيرة، وبادت لفترة وجيزة، ثم عادت بقوة وتصدرت واجهة المشهد السياسي بصورة ما برحت تُظهر النظام كمن فقد ذاكرته وأخذ يراجع دروس السياسة من نقطة الصفر..! بالنسبة لقطاع واسع من الساسة، لم يعد الواقع الماكث خلف الكواليس خافياً، إذ بات واضحاً أن (الأولاد) انتزعوا جانباً كبيراً من السلطات السيادية للرئيس، وأصبحوا يقاسمونه منذ مدة هموم الإدارة اليومية للحكم والدولة.. عند الساسة، تبدو البلاد في طور التحول إلى حقل تجارب للأولاد على طريقة (خليهم يشتحطوا) ليغدو الوضع شبيهاً بأب يعلم أولاده السباحة ضد التيار ورماية الأهداف الثابتة والمتحركة وركوب الخيل والأمواج والشعب..! ثمة تباين يمكن التقاطه بين الساسة من جهة، ومن خبروا طرائق حكم الرئيس، حول حجم الاقتطاع الذي طال سلطاته الرئاسية لصالح تعليم الأولاد فنون الرقص فوق روؤس العباد.. مربط التباين هنا، يتجسد في تساؤل مؤداه: هل هو اقتطاع في حدود فكرة (التعليم) أم إنه تجاوزها لمرحلة الشراكة والإنابة والتفويض..؟ ثم (على افتراض أن الاقتطاع تجاوز فكرة التعليم) هل يمكننا القول إن الرئيس بات معزولاً عن جانب مما يحدث في البلاد..؟! بعبارة أخرى، هل أضحى الأسد عاجزاً نسبياً عن السيطرة على جموح الأشبال؟ أم إنه بات يجد صعوبة في توجيههم فقط لاسيما بعد أن اشتد عودهم وأخذوا يقتربون بتسارع لافت من التحول إلى أسود على طريقة (راس براس)..! ما هو واضح –حتى الآن- في تعقيدات الهرم الأعلى، أن الاقتطاع من السلطات لم يتجاوز متطلبات التعلم بغرض اكتساب ميزة (الشحط)..بمعنى أن امتداد السلطات وتوسعها الذي فسره البعض -بشكل خاطئ- على أنه صراع نسبي بين الأسد والأشبال، ما هو إلا تطور مرحلي طبيعي في مسيرة (التعلم) التي تقتضي –عملياً ومنطقياً- اقتطاع كل السلطات تدريجياً، إذ إن اختبار النجاح في مدى بلوغ غاية شحط الأولاد يعني أنهم باتوا قادرين على الإمساك بزمام الأمور في غياب الرئيس (ممارسة جميع سلطاته في وجوده).. بالاتساق مع "ما هو واضح" فالوضع شبيه إلى حد ما، بأسد يقضي نهاره في التحديق إلى أشباله وهي تمارس فنون الاصطياد والبطش بالفرائس وذلك بعد أن أنجز مهمته في إكسابها تلك المهارات..! وبالتالي فالتخبط الناشئ، وسياسات الفرز والاحتواء الخاطئة، والتأرجح بين البولسة (العسكرة) وبين اللبرلة والانفتاح، ما هو إلا تعبير مجازي عن إخفاقات ما بعد اكتساب المهارات، على اعتبار أن اكتساب المهارات لا يعني إجادتها، بافتراض أن الإجادة مرتبطة بالخبرة! في ممارستها..وهو ما يتطلب بالضرورة تدريباً شاقاً يكتفي فيه الأسد بالتحديق والتثاؤب والانتظار على طريقة (خليهم يشتحطوا واحنا بنتفرج)..! في مملكة الغابة، ستزداد شكاوى الطرائد إلى الأسد من هول صنائع الأشبال، وسيتضاعف أنين القطعان، وستصبح الغابة بيئة طاردة وغير متسعة للجميع، إمضاءً لرغبة الأشبال في التملك والاستحواذ والسيطرة وذلك حتى يكتمل (تعليمهم) ويتحولوا الى أسود حقيقية.. عندها ستتصف الخيارات بطابع اللامحدودية، وستبرز العناوين التالية مع فاصل لا ينتهي من الاحتمالات: فإما أن يرحلوا إلى غابات أخرى، أو يرحل الأسد الأب ويتركهم لتسوية نزاع قسمة التركة، مع عدم استبعاد احتلاف الأب مع بعض الأشبال ضد آخرين، أو اتفاقهم عليه على طريقة (نتغدى بالشيبة قبل ما يتعشى بنا)! الاختلاف، بين مملكتي الغابة والسياسة (الواقع) قد يبدو شاسعاً بموازاة المقارنة بينهما التي تبدو خيالية هي الأخرى للوهلة الأولى.. لكنها بالعودة لأقاصيص (كليلة ودمنة) تحتمل النقيضين، الاتفاق كنقيض للاختلاف بين المملكتين، والواقعية كنقيض لخيالية المقارنة..! المشكلة في اعتقاد البعض ليست في حجم اقتطاع السلطات، بقدر ما تكمن في تفجر طاقة الفرز لدى الأولاد، واتقاد رغبة التملك، وطفوق نزعة السيطرة، وهي عوامل دفعتهم لتجاوز كل ما كان محظوراً لدى الرئيس في طريقة التعاطي مع أبناء الوطن.. الاختلاف بين الطريقتين، يماثل التنافر بين الأقطاب الممغنطة في الفيزياء، عند الرئيس مثلاً، بإمكانك أن تكون معه أو ضده، لا مشكلة لدى الرجل ما دام الإيمان بما يراها ثوابت، قاسم مشترك بينكما. على النقيض تماماً من هذا، ليس في وسعك عند التعاطي مع الأولاد، أو تعاطيهم معك، سوى أن تكون تابعاً على طريقة (إن لم تكن معنا فلن نسمح لك بأن تكون ضدنا..!)، وهو ما يؤثر بشكل تلقائي على الأعمدة الرئيسية لفكرة (اتساع الوطن للجميع) التي سرعان ما تتجه لا إرادياً للتحول إلى شعار هلامي الشكل مفرغ المضمون..! حتى في رؤية البعض الآنفة، سرعان ما تعود المشكلة لتحط رحالها في فكرة السلطات ومدى الاقتطاع الذي بلغته، وهل وصل ذلك الاقتطاع حد حجب وعزل صاحب السلطة عن سلطته في بعض القضايا.. بالعودة لما هو واضح، يمكن القول إن لمسات الرئيس في جانب كبير من السياسات والقرارات لم تعد واضحة!، بالتوازي مع تخبط لافت للأولاد أنتج معضلات وأزمات كارثية لسنا نبالغ بزعمنا أنها أحدثت تصدعات في تماسك النظام، وأنتجت تحللاً في شكله الديمقراطي الديكوري لصالح الشكل البوليسي الذي أجاد الرجل إخفاءه في مراحل فائته قبل اشتداد عود أولاد الزمن الموعود..! الاختلافات بين الساسة وخبراء الطرائق الصالحية ومن سواهم، سرعان ما تذوب في خليط متفق عليه يتمثل في ضرورة أن يعيد الرجل النظر في مستوى ما منحه للأولاد من سلطات استناداً لنظرية "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"..! باختصار، لقد حسمها صاحب الباص حين قال: تفحيط الأولاد أقلق سكينة الناس، ولابد لمعلمهم من إجراء صيانة عاجلة تكفل إضافة فرامل قوية تمنع التفحيط، و على الأقل، تحد من سرعته بما يضمن إعادة السكينة إلى قلوب الغالبية المتضررة وكفى..!