كنا صغاراً، وكانت مناسبة ذكرى الاحتفال بثورة سبتمبر تعني لنا شيئين، الأول: أننا مدعومين بشرعية الثورة والانتصار لها، مقابل صياح الجدات والأهل وهم يحاولون منعنا من إشعال الرماد المخلوط بالقاز على أسطح المنازل "منصرين ومجمهرين"، فتشتعل القرية والقرى المجاورة، ونخرج نحن الأطفال ليلاً نعيد ونردد أغاني أيوب عن الثورة بفرح حقيقي، طليق وحالم. والشيء الثاني أن احتفالات تلفزيون صنعاء كانت تحرمنا من المسلسل المصري الذي نتابعه على شاشة التلفزيون الوحيد في القرية، كانت قناة صنعاء –كعادتها الآن- تملأ برامجها لأيام بالبرع وأغاني الثورة اليمنية. لم تكن الأغاني الثورية التي تحشر اسم علي عبد الله بين مفرداتها كثيرة، ومع ذلك كنا نستمتع بها، ونرددها، وعندما كان يزورنا مدير المديرية أو المحافظ لافتتاح مشاريع لم تنفذ حتى اليوم، أو يوصل لنا فقط تحيات الرئيس الذي لم نكن في تلك القرية على باله أبداً، كنا نتسابق ونصفنا حفاة أمام السيارات التي تقل موكبه رافعين صور الرئيس، وهتافاتنا ترتفع فوق مكبرات الصوت التي تحمل صوت أيوب إلى كل البيوت معلنة وصول المسؤول ورياح الثورة أيضاً: يا سماوات بلادي باركينا. كنا صغاراً لا نرى شيئاً سوى اليمن، وأي إنجاز على هذه الكرة الأرضية هو إنجاز يمني، حتى مارادونا كنا نعتقد أن أصله يمني وإلا ما كان أنجز شيئاً في كأس العالم 86، ولم نكن نتذمر كثيراً من الدولة، فتقريباً كان الأطفال في المدارس والآباء في الغربة، والنساء يحملن الحطب أو يحرثن الأرض، والجميع راض. كنت محظوظاً في يوم الوحدة لأن "بطارية" التلفزيون لجارنا كانت لا تزال تعمل، وأتذكر ظهر ذلك اليوم الذي ظهر فيه علي عبد الله وعلي سالم وهما يرفعان العلم الجديد، وأتذكر الرئيس الفلسطيني وهو يتحدث عن "الُلحمة اليمنية"، التي استعرتها منه وظللت استعرضها لمدة أسبوعين أمام من كنت أريد منهم الاعتقاد بأني مثقف وأستطيع أن أقول عن الوحدة أنها "لُحمة". كان الفرح يومها يلف الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وكنا ننتظر سيل الخير الذي سيغمر البلاد، ويوصل الطريق إلى كل قرية والكهرباء إلى كل بيت، والوظيفة إلى كل عاطل، وأشياء أخرى لم نكن نعرف كيف يمكن استيعابها. لكن ما حدث بعدها كان سريعاً.. تعددية حزبية وحرب في الخليج وعودة للمغتربين وكلام مختلف في الصحف، ثم حرب 94، لنكتشف بعد ذلك وقد كبرنا قليلاً أن كل ما كنا نحلم به ليس إلا سراب. ما الذي تغير اليوم؟ بالنسبة لي على الأقل، لم تعد أغاني أيوب تذكرني سوى بمرضه وتخلي الثورة والجمهورية عنه، وزيارات المسؤولين للقرى والمحافظات تثير القرف، بخطبها التقليدية، ومشاريعها الوهمية، وبالطبع لم أعد أرغب في حمل صورة الرئيس الذي سجن قبل يومين أحد زملائي الصحفيين، ولا أدري اليوم لماذا لا أستطيع أن استرد شيئاً من فرح المناسبات الوطنية الذي كان، لقد تحولت إلى شيء بغيض لا يطاق. أتحدث عن نفسي ويمكن لأي كان أن يتهمني بضعف الوطنية والولاء، وأشياء أخرى يمكن استعارتها من قاموس شتائم الحزب الحاكم، لكني لا أريد أن أكذب، وأريد أن تساعدني مثل هذه الكتابة على التخلص من الشعور بما يصعب التعبير عنه أحياناً، وأعرف أن مثل هذه الأشياء لا يمكن علاجها بعقاقير أوعمليات جراحية أو جلسات نفسية وإلا كنت فعلت. لماذا لا أشعر سوى بالحزن والقلق والتوتر كلما شاهدت شيئاً يرتبط بالوطن؟ لماذا لا أستطيع التصرف مثل صاحبنا علي وأتهم الغرب بكل شيء وأركن إلى الوطن المؤمن؟ لماذا لا أستطيع أن أصدق علماء الدين وهم يقولون أننا بلد الحكمة ومجتمع العفة، ثم لا أجد شيئاً من ذلك؟ أستطيع أن أصدق أننا فعلاً بلد محافظ، ذلك أننا خلال السنوات الماضية لم ننجح في شيء قدر ما نجحنا في الحفاظ على عوامل تخلفنا وبقائنا في آخر القائمة دائماً. ما الذي حدث؟ لماذا مناسبة الوحدة التي ستأتي بعد يومين خالية من أي شعور بالفرح، بالفخر، بتلك القشعريرة التي كانت تصيبنا ونحن نسمع أيوب: "أيها الشر المغير"، ونود لو أننا نجابه الموت وجهاً لوجه دفاعاً عن هذا الوطن، هل تحولت "لُحمة" ياسر عرفات إلى "لَحمة"، وتحول الوطن إلى "محل جزارة" كبير، ينهش فيه المسؤولون كل ما يربطنا به، ثم لا يتبقى لنا سوى هذا الفراغ الذي يلتهم كل الذكريات الجميلة عن الوطن والثورة والوحدة. هل تحول هؤلاء الرجال الذين كنا نهتف لهم إلى مجرد "جزّارين" لا يجيدون سوى تقطيع الوطن بدون رحمة، مجرد قطع صغيرة يرجمونها إلى الأقارب وقطّاع الطرق ورؤساء القبائل والموالين فقط، حتى لم يعد هذا الوطن الكبير يتسع لحلم صغير، وبسيط: أن نفرح، بس نفرح ونحتفل عندما يأتينا الوطن في مناسبة أو ذكرى يفترض أن تكون خالدة وتاريخية. هل يمكن أن يصل الصوت إلى ولاة الأمر فيساعدننا على استعادة ذلك الشغف الذي فقدناه؟ أتمنى. غير أني أود لفت انتباه السادة الكرام أنني لا أحب صوت شعبان عبد الرحيم الذي ينوي الغناء للوحدة، وأكبر علم في البلاد لن يستطيع ترقيع قلبي المتهرئ، ثم إن هذه المنظمات الكثيرة التي تتوالد كل يوم تحت مسميات الدفاع والحفاظ والولاء والشباب، المرتبطة جميعها بالوحدة أو الثورة، تصيبني بالحساسية، والغثيان، هل يستطيع أحد منكم أن يجعلها تتوقف! هل يستطيع الرئيس أن يفاجئنا حقاً في ذكرى الوحدة ويُسمعنا خطاباً جديداً، ثم لا يشتمنا فيه؟ أفضل شيء يمكن أن يعمله من يحتفلون بالوحدة لوحدهم، أن يتوقفوا عن الاحتفال بها. لا يمكن الاحتفال بمنجز استبدل دموع الفرح قبل عشرين عاماً بدموع القهر من العيون نفسها. يمكن أن نتوقف عن الاحتفال ونسأل عن السبب. هذا أفضل.