كان يعيش حياة رغيدة. لكن هايل عبده بشر، ابن عم شاهر عبد الحق، رجل المال والأعمال المرموق، وجد نفسه في قبضة غرباء، محاربين وعديمي الرحمة، على قمة جبل بين قبائل القرعان بمحافظة مأرب، حيث تحتجز حريته هناك منذ أكثر من شهر. ورغم المدة الطويلة وثقيلة الوطأة التي أمضاها وكيل أعمال شاهر عبدالحق في أيدي الخاطفين داخل كهف يبعث على الكآبة والإحباط والشعور بالضياع، إلا أن قضيته المأساوية لم تلق نصيبها من الاهتمام على المستوى الإعلامي. إنه محبط وحزين، وحينما أجهش بالبكاء أدركنا إحساسه المرير بالقرف والعذاب والقهر. إليكم القصة كاملة. الأسبوع الماضي زارت "المصدر" هذا الرجل المختطف في كهفه الموحش، حيث يحيط به رجال مدججين بالسلاح متجهمي الوجوه. في الحقيقية لم يكن سفرنا إلى ذلك المكان سفراً عادياً. فالطريق محفوفة بالمخاطر بسبب الانتشار الغير مسبوق لنقاط تقطع القبائل على خط مأربصنعاء, الطريق الذي لا تكاد تمر ساعات قليلة حتى يحدث فيه تقطع بين القبائل المختلفة. لهذا السبب اضطررنا للسفر الساعة ال2 بعد منتصف الليل رغم أن المسافة لا تبعد سوى قرابة 90 كم شرق العاصمة صنعاء. وعبر التلفون، بدأ الخاطفون يرسمون لنا الطريق الذي يجب أن نسلكه. خرجنا من الاسفلت في منتصف الجبل لنصعد طريقاً شبه معبد ولكنه كان من الوعورة بمكان. وماأن اختفى عنا الازفلت حتى برزت لنا أول نقاط الخاطفيين. مجموعة مسلحة (بالرشاشات الخفيفة والمتوسطة وعدد من ال"آر بي جي" وبالطبع الكلاشنكوفات وعدد هائل من خزنات الذخيرة المتعددة) استوقفتنا للتأكد من هويتنا. ورغم أنهم يعلمون بتنسيقنا المسبق، إلا أنهم أصروا على استيقافنا ليقوموا بعدة مكالمات هاتفية أسفرت عن السماح لنا بالمرور. كان الاتفاق بداية على مقابلة الخاطف، أما المخطوف فكان الخلاف حول لقائه لم يحسم بعد، لكنني أحببت المتابعة آملا أنني عندما ألتقي بالخاطف سأستطيع إقناعه بالسماح لي بمقابلة المخطوف. وفي نقطة محددة بين الجبال الشامخة والشاهقة الارتفاع من منطقة الفرضة، طلب منا الانتظار حتى وصول الخاطف إلينا. لم يدم انتظارنا كثيراً, فما هي إلا دقائق وإذا بسيارة لاند كروزر(شاص) من الموديل الحديث تطل علينا من أعلى الجبل وعليها أكثر من عشرة أفراد مدججين بأنواع الأسلحة. بالتأكيد رفعت نسبة التوتر والخوف لدينا. بدأنا بالتحاور مع الخاطف الذي بدا في الخمسينات من عمره، ويضع على عينيه نظارة شمسية قاتمة السواد تخفي عينيه وجزءاً من ملامح وجهه, ومتمنطقا بحزام كبير من ذخيرة الكلاشنكوف. بدا متوجسا. فكل غريب هناك يعتبر جاسوساً محتملاً بالضرورة. أبدى إصراراً بعدم السماح لنا بمقابلة المخطوف متنقلاً بين أعذار مختلفة للخروج من إصرارنا. وبعد أن شرح لنا قضيته وأطلعنا على الوثائق التي معه لتوضيح ملابسات المشكله لنا قبل كل شيء حسب رأيه، قمنا بمحاولات عديدة ومضنية ولأكثر من ساعة اقتنع بها جزئياً للسماح لنا بتصوير المخطوف شريطة أن ننتظر في مكان محدد وهم سيقومون بإحضاره إلينا. ساعات بدت كأيام ونحن في الانتظار. وفي مكان بين جبلين شاهقين تناولنا الإفطار بالقرب من أحد بيوت البدو (بيوت على سبيل المجاز) والمكونة من الخيام أقصد خيمة واحدة هي البيت. أثتاء ذلك مارس الخاطفون نوعاً من الإرهاب النفسي علينا عن طريق الاتصالات المتكررة، وسؤالنا أكثر من مرة عن الأسئلة التي سنوجهها للطرفين. بعد أكثر من أربع ساعات انتظار وصل الخاطفون على متن سيارات شاص وقد تضاعف عددهم وانتشروا بشكل سريع حول المكان المقترح لإجراء المقابلات. كان القلق بادياً عليهم. وطلبوا منا سرعة إجراء المقابلات، فأثر ذلك على ترتيباتنا لإجراء المقابلات. من أول وهلة بدا رجل الأعمال هايل عبده بشر منهكاً جداً ومتأثراً. الرجل البالغ من العمر 64 عاماً لم يستطع إخفاء دموع القهر التي تجمعت بمقلتيه كنوع من الاحتجاج على الوضع الذي يمر به. علامات الإرهاق بدت واضحة من تغير لون بشرته ومن منظر لحيته التي ودعت الحلاقة منذ أن غادر صنعاء مجبراً. ورغم أن بنية الرجل تميل إلى البدانة إلا أن النحول بدا واضحا من التجاعيد التي تضاعفت في وجهه. كان صوته متهدجاً، ولمرات عديدة لاذ بالصمت ليمنع دموعاً كادت تسيل على خده. "قلت لأولادي يعطوا شاهر عبدالحق كل ما أملك ويخرجوني مما أنا فيه، فالعيشة بهذه الطريقة أصبحت مستحيلة"، بمرارة وحزن نطقها بشر ونظراته حزينة تقول الكثير، كأنما أمر إطلاقه بيدي. راودني شعور بالضيق والألم. لقد حزنت كما لم أفعل من قبل. ورغم أنني قابلت كثيراً من المخطوفين, إلا أن لهجة الرجل وتهدج صوته وكبر سنه والأمراض التي يعاني منها جعلني أشعر بالتعاطف معه بشكل كبير. "أنا تعبان وحالتي النفسية متعبة ولا أتواصل مع أحد"، عبارة كررها مراراً، ملابسه بدت رثة جداً، فهو يلبس قميصاً وفوطة عدنية خضراء، وكوتاً أزرق وجزمة من دون شراب. قال إنه ليس مستعدا لإجراء حوار طويل,ربما نوع من الحذر والحصافة، الصفتين اللتين تتجسدان في عباراته التي ينتقيها بدقة. لقد اكتفى بشرح طريقة اختطافه وما يعانيه هناك، مؤكداً أن لا علاقة له بالمشكلة. وبطريقة درامية قص لنا قصته مع الثعابين التى فوجئ بظهورها عليه في أحد الكهوف التي أسكنوه فيها وهو ماسبب له ذعرا شديدا رفع مستوى الضغط في دمه إلى مستوى غير مسبوق. وإذ كان يبذل جهداً كبيراً في محاولة الظهور أمامنا بمظهر الرجل الصلب, إلا أن ما يعانيه كان أسرع في التعبير عن حالته.. طلب منا نشر معاناته الإنسانية، ودعنا وبدأ بالنزول من الجبل إلى حيث تقف السيارة، وكان الخاطفون يساعدونه كي لا يسقط أرضاً نظراً لحالته الصحية ولحالته النفسية الصعبة، وبالطبع لكبر سنه. جاءت سيارة لتقله بعد انتهاء المقابلة. ولقد بدا أثناء صعوده السيارة خائر القوى يرمقنا بعينين غائرتين دامعتين. وبعد ذهابه عاد الخاطف ليشرح لنا القصة الكاملة لمشكلته مع رجل الأعمال شاهر عبدالحق، التي يدفع ثمنها هذا الرجل عاثر الحظ. بعد انتهاء الحوار حاولت أن أشرح له خطورة الوضع الصحي للمخطوف وما قد تؤدي إليه المشكلة إن تفاقمت، لكنه أجاب بنبرة تحدي تنم عن غلظة وصرامة: "إن مات الرجال ذا لفيناه في بطانية وجبناه لأهله، وجبنا بدله واحد ثاني"، مؤكداً أن الخطف طريقة سلمية بديلة للقتل وسفك الدماء. أثناء العودة اعترض الحراس المدججون بالسلاح طريقنا على مقربة من المنطقة، حاولنا محاورتهم وتخويفهم بالحملة العسكرية لكنهم بدوا في أتم الاستعداد للقتال والموت "في سبيل الحق" كما يعتقدون. معظمهم لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره. وأيا كانت مظلومية الخاطفين، فإن أحداً لا يستطيع الشعور تجاههم بالتعاطف. ومهما كانت متاعب هؤلاء الرجال المسلحين، فإنها ستتضاءل لا شك أمام متاعب هذا الشخص الأكثر بؤساً في العالم، الذي انتهينا من مقابلته للتو. من هم "القرعان" القرعان، هي أحد فروع آل الخضير، القاطنين في سلسلة جبلية شديدة الوعورة تمتد من أسفل جبل يام الشهير المطل على الجوف حتى تطل على حريب نهم. وهذه السلسلة غنية جداً بالرخام والجرانيت والمعادن، إلا أن المشاكل القبلية حرمت أبناءها من الاستغلال الأمثل لهذه الثروة. قبائل القرعان وآل خضير بدو رحل يعملون بالرعي ويتنقلون من مكان لآخر والقليل منهم من استقر وبنى له بيتاً؛ معظم بيوتهم من الخيام. وتعتبر آل خضير جزءاً من قبيلة الجدعان التابعة قبلياً لآل غفير الذين بدورهم يتبعون قبيلة نهم. تتبع القرعان إدارياً محافظة مأرب، وتسكن في نقيل الفرضة وما حوله في الطرف الغربي من محافظة مأرب، وتعتبر الحد بين محافظتي مأربوصنعاء.