(1) اليمن، يونيو 2009م .. تغرق عاصمته في الظلام، وهي التي أعلنت منذ عامين عن مفاجأتها العصرية الكبيرة: الكهرباء عبر النوعية! أعني: عبر الطاقة النووية. المسألة أيسر بكثير: من المفترض، بحسب الوعد العاطفي الذي صرفه وزير الكهرباء لأعضاء البرلمان، أن تتجشّأ محطّة الغاز المنتظرة الكثير من الكهرباء. عندها سيحل الضياء، وكالعادة ستهتف افتتاحية صحيفة الثورة: ليخسأ الخاسئون. (كم تذكرني افتتاحيات هذه الصحيفة بعهد الراحل صدام حسين!). لا أحب أن أحبِط أحداً. فقط هناك معلومة مؤكدة، اعترفت بها هيئة معاتبة الفساد، تقول أن المشرفين على المحطّة، من الجانب اليمني، تورّطوا في عملية فساد مروّعة جرى فيها استبدال محوّل سيمنز – ألماني- بمحوّل هندي، متوسّط الحال. لقد استلموا المبلغ نفسه، 200 مليون دولار، لأن الوثائق النهائية قالت: المحوّل المستخدم ألماني، سيمنز. باختصار: لقد سقطنا من على ظهر حصان نووي، إلى حوافر ترس سيمنز ألماني.. ثم شاءت العواصفُ البلديّة أن يكون قدرُنا المحتوم : حمار هندي. هذه مجرد مقدّمة لا معنى لها في بلادٍ وصفها أحدث آبائها الروحيين بأنها "واق الواق". مع فائق احترامي للحمير الهندية، التي لا بد وأنها قد استخدمت في مرحلة ما من مراحل صناعة المشروع النووي الهندي!
(2) اليمن، يونيو 2009، يستنفر للحفاظ على وحدته التي لم يحافظ عليها، كما يفعل الرجال النبلاء. أعلن السلفيّون وقوفهم إلى جانب الوحدة مع استعدادهم الكامل لحمل السلاح إن لزم الأمر. بينما قرر، ما يسمى، تنظيم القاعدة انضمامه إلى الحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط، كما يقول تعبيرهم الثوري. وفي الأقاصي، يقف الحوثي فارداً قامته، يصرخ بصوته المميّز: أنا دولتي، أروني من فيكم الشجاع الذي سيصوّب رشاشه إلى صدري!
الحوثيّة هي الناقة التي رعتها الأجهزة الأمنيّة في شعاب صعدة، باعتراف الرئيس نفسه. أما السلفية، فهي المحلّل الأكبر للأنظمة الحاكمة، في كل مكان. في حين يتهم كثيرون الأجهزة الأمنية بأنها مزرعة تنظيم القاعدة. ويتساءلون: لماذا غاب تنظيم القاعدة عن لعب أي دور مع الحراك الجنوبي باستثناء ذلك البيان المُريب، الذي تبنّى الثورة الجنوبيّة، إن كان بالفعل يدعمها. لقد كان الكاتب اليساري عزت مصطفى أكثر تحديداً عندما تساءل، منذ أشهر: القاعدة في قبضة النظام أم في أطراف أصابعه؟ وفي كل الأحوال، ليس بمقدوري سوى أن أجزم بوجود علاقة بنيوية بين الدولة وكل من الحوثية والسلفية، وحسب.
( 3) اليمن، يونيو 2009 .. مسلّحون يختطفون بعثة طبيّة، ويفرجون عنها بعد حصولهم على وعود دسمة، وبعض الذبائح – القرابين، بالتعبير اللاهوتي- فضلاً عن " 15 رشاش كلاشنكوف". سيعود المسلّحون، حاملين الرشاشات التي حصلوا عليها بفعل الحكمة اليمانيّة، إلى عمليات اختطاف جديدة.. وهكذا، ألهمَ خاطفو الأمس خاطفي اليوم، ولم يمض أكثر من يوم واحد على انتصار الخاطفين، حتى كانت بعثتان ألمانية، وأخرى إنجليزية، قد سقطتا في أيدي خاطفين جُدد. إن السلطة وجود ذهني، كما يقول الفلاسفة، وعندما يسقط هذا الوجود الذهني فإنها تتحوّل إلى مجموعة من الدوائر الهشة عديمة الفاعلية، وتفقد خاصيتها كسلطة، متحوّلة إلى " واحدة من القوى" السائدة، بدلاً عن كونها القوة الأوحد والأقدر. ويكون الذراع والذراع الآخر هو البديل العاجل. عملية متوالدة، تشبه الصورة الدموية في "الكولوسيوم"، ميدان المجالدة الكبير إبّان العهد الروماني، وهناك يكون البقاء للأقوى، للأقدر، للأوفر.. بينما يقتصر دور السلطات على الحفاظ على حدود هذا الكولوسيوم، حيثُ سيموت أناسٌ كثيرون تحت وقع حوافر هذه الضوضاء الكونية!
التقيتُ شاباً من أهم ناشطي " الاختطافات". سألته: أنت ابن شيخ القبيلة، لماذا لا تبادرون بتسليم الخاطفين إلى السلطات؟ قال لي بهدوء: الخاطفون هم أشجع رجال القبيلة، ونحن نعيش في اليمن.. سرعان ما سنكون في أمس الحاجة إلى هؤلاء الشجعان. قلت له : ضد من؟ رد عليّ: ضد الجميع، والأهم من ذلك: ضد دولة، تأخذ كل شيء ولا تقدم شيئاً!
كنتُ أتحدّث إلى صديقي عبد الهادي العزعزي حول هذه المسألة تحديداً. علّق العزعزي: من الواضح أن الدولة تفتقر إلى أي حضور ذهني لدى هؤلاء، وهو ما جعلهم يفهمون السلطة بوصفها " بندقية". ولأن السلطة ، أيّاً كانت، هي طموح بشري، فقد ابتكر هؤلاء أقصر السبل للحصول على هذه السلطة: اشتروا بنادق، وخزانات رصاص. وكعادته، وهو مثقف يساري أحترمه كثيراً، ضحك بصوت عالٍ وهو يقول: لو امتلكتُ عشرة مليون ريال فسوف أؤسس لدولة جديدة في اليمن، منطلقاً من النقطة ذاتها: السلطة بندقية.
دعوني أعزز هذه الملاحظة بمشاهدتين: الحوثي، وهو مواطن يمني، يهدد الحرس الجمهوري – اليد العسكرية الأقوى- برد عنيف، في أحوال كثيرة. لا يمر وقت طويل حتى يكون الحوثي قد تمكّن من تدمير طقم عسكري وقتل وإصابة عدد من الجنود. أما طارق الفضلي، وهو مواطن يمني أيضاً، فهو يقول لصحيفة محلّيّة أنه يتمنّى أن يكون قائد المنطقة الجنوبية، مهدي مقولة، متواجداً في مواجهة مع الجماهير في الجنوب كي يتلقي درساً لن ينساه! يحدث بعد ذلك أن يخرج مسلّحون إلى الشوارع، ويصعدون إلى الجبال، ويقطعون الطريق، ويحرقون الصحف الرسمية في الأكشاك.
في الجانب الآخر، يفكّر رجال السلطة بإعلان الحرب في لحج والضالع، قبل أن يتدخل الرئيس شخصيّاً لإيقاف هذه المغامرة، بحسب ما كتبه نبيل الصوفي في صحيفة الحياة. أي أننا أمام أجهزة سلطة تفكّر بحسبانها طرفاً من الأطراف، قوة من القوى، جماعة مسلّحة في مجرّة من الجماعات المسلّحة.. وعليه فإن كل الاحتياطات التي ستتخذها هذه السلطة هي تلك التي لا بد وأن تضمن تفوقها على الأرض، إذ إن هذا هو كل ما يشغل بالها.
وفي محاولة للصراحة، قال عيدروس النقيب عبر قناة الجزيرة: اليمن مليء بتجار الحروب، لكنه فشل في تأكيد هذه الصراحة حين طلبت منه المذيعة ذلك. وهي صراحة شبيهة بتلك التي تبناها عبد القادر باجمال عن مهربي الديزل: أعرفهم بالاسم، قبل أن يفشل في تأكيد معرفته، أو يتخذ موقفاً مسؤولاً حيال هذه القائمة السوداء.
في الحالين: هناك تجار حروب، كما قال النقيب، ومهربو ديزل، كما في مكاشفة باجمال. وأخطر ما يمكن أن يخرق نسيج أي أمّة هو: التهريب، باعتباره ضربة قاضية للاقتصاد، وتجارة الحروب بحسبانها كلمة الهلاك الكُبرى. وبدلاً عن السيطرة على هاتين التجارتين القذرتين، ضمن عملية تصحيح كبرى لا بد وأن تشمل التشريعات والقوانين أيضاً، فإن السلطة – لأسباب كثيرة، بعضها ظني وأغلبها يقيني- قرّرت أن تحارب خصماً آخر، لا علاقة له باليمن، ولا بحاجاته الماسة. وهكذا، جرت العادة على تسمية هذا الخصم: تنظيم القاعدة، بعد استيراده من سلسلة جبال الهندكوش. قل ما تشاء حول هذا التنظيم، لكن عليك أن تتأكد أن الذي يختطف السياح – أي أنه يهدد السياحة والاستثمار- هم القبائل لا تنظيم القاعدة المزعوم. كما أن الذين استبدلوا المحوّل الألماني – 200 مليون دولار- بآخرهندي، هم مهندسون وسيمون لا علاقة لهم بتنظيم القاعدة. أما الذين يهربون الديزل، وأولئك الذين ينهبون الأرض والمستقبل، أو الذين يديرون منصات الصواريخ في شمال الشمال.. كل هؤلاء الذين دمروا بلدنا، وخرّبوا حاضرنا ومستقبلنا، هؤلاء لا علاقة لهم بتنظيم القاعدة. هل تريد أن تتعرض لأكبر قدر من التسفيه، والسخرية، وربما اليد! عليك فقط أن تبادر إلى الاستخفاف بفكرة " تنظيم القاعدة في بلاد اليمن". لقد أثبتت فكرة القاعدة، التي لم تعُد جاذبة للاهتمام في عديد من دول العالم، أنها حصّالة النقود الأحدث، العابرة للأزمات والانتكاسات. وحين تكون بجوار دولة ثريّة مثل السعودية، عليك أن تكون حذراً وأنت تشير إلى تنظيم القاعدة، لأن هذا التنظيم الملعون هو الذي يدرّ الحليب تحت ذرائع لا انتهاء لها. وإذا لم يكن لهذا التنظيم وجود بالمطلق، فإن عليك كي تثبت وطنيتك لأقصى حد أن تتبنى أنت تأسيس هذا التنظيم. إن الأمر يشبه ما ذكره تشارلز ديكنز في رواية" أوليفر تويست". فعندما يهرب طفلٌ من الكنيسة إلى وسط مدينة لندن، فإنه سرعان ما يقع في يد عصابة لصوص. وطبيعي أن يكون أول درس يتلقّاه، على العكس تماماً من الكنيسة، هو كيف تلتقط منديلاً بخفة دون أن يحس الضحية بأن شيئاً ما يهرُب من جيبه. قال أوليفر تويست لزعيم العصابة بخجل: إننا نسمي هذه العملية في الكنيسة " سرقة". رد عليه زعيم المجموعة: أووه، لا عليك يا بني، لكننا نسميها هنا في لندن: إعادة توزيع للثروات!
وهكذا، سيكون ممكناً أن نقول لتنظيم القاعدة في اليمن: أيها الملعون، كم أنت مفيدٌ جدّا! لا ينبغي عليك أن تنقرِض أو تختفي. صحيحٌ أنك ستدخل النار لكن عليك قبل ذلك أن تدخِلنا الجنة!
كتبت قبل أشهر عن فيلم الرهان الخاسر، ويبدو أني سخرتُ على نحو ما من فيلم تنظيم القاعدة في بلاد اليمن. لم أكن أتوقع أني بهذه الطريقة الفجّة كنتُ أعتدي على "أكل عيش" أناسٍ لا أعلمهم. لقد كانت نتيجة فعلتي النكراء متوقعة للغاية: دفعت الجهات المستفيدة بالأستاذ الخميسي إلى الرد على ما كتبته في (12) حلقة
أسبوعية، أي في فترة زمنية امتدت لثلاثة أشهر، عبر صحيفتي 14 أكتوبر و26 سبتمبر. ولأن الخميسي قال كلاماً بليغاً لا يمكن للمرء أن يعثر فيه على جملة لها معنى، فإنه ختم الحلقة الثانية عشرة باتهام صريح إلى شخصي الظريف: مروان الغفوري يلتقي مع تنظيم القاعدة في منطلقات وتصورات وسلوكيات لا حصر لها. ما رأيكم بخفة الدم هذه، أعني: بهذا الدم القاتل!
لو لم يكن تنظيم القاعدة موجوداً في اليمن لخلقته الجهات المستفيدة، وإذا تبرّعت للتشكيك في سلامة هذا السياق، فستكون أنت ذاتك " تنظيم القاعدة"!
يخطئ ، فيما أعتقد، من يقول أن السلطة تجد نفسها الآن في " حيص بيص" ، والتعبير استخدم مؤخراً من قبل الكاتب الاسلامي جمال أنعم. إن السلطة الآن تؤدي مهامها الوطنية الملحّة: مواجهة الانفصاليين في الجنوب، القاعدة في كل مكان، الحوثيين في الشمال. يا للنعيم، السلطة مطمئنة تماماً إلى أدوارها، لأنها في غياب هذه المهام البسيطة – التي يعتقد كثيرون من قيادات بلادنا أنها لا تتطلب استعمال العقل- ستجد نفسها في مواجهة حتمية مع مهام وطنية حقيقية من المفترض أن تؤدي إلى إنقاذ اليمن، عن طريق: التعليم والصحة والبنية التحتيّة وخلق نظام مؤسسي يعيد الثقة للجماهير بجمهوريتهم .. إلخ. هذه المهام تعني بصورة بسيطة: أن يشترك الجميع في تنفيذها، مع تنحية كل من تورّط في أي عملية قذرة حالت دون تنفيذها من قبل. بعبارة أكثر وضوحاً: إن بناء دولة جديدة تنتمي إلى العالم، إلى القرن 21، يقتضي أن يأتي بناة جدُد ينتمون إلى هذا القرن. وهذا ما لن يسمح الرجال القُدامى بحدوثه، وسيعمّدون طريقتهم تلك بالدم .. لمصلحتنا، بالطبع! -- * مقولة للرئيس الأميركي رونالد ريجان!