مع إنها نشأت في مجتمع تسوده الهيمنة الذكورية، إلا أن هذه المرأة تمكنت من تجاوز حيزها الجغرافي الذي نشأت فيه، وعرضت لوحاتها التشكيلية في نحو 64 معرضا فنياً. كان أول معرض لها في العام 1986، حيث غادرت وطنها حاملة لوحاتها الفنية نحو بلاد الرافدين، فحينها لم يكن قد تسنى لها القيام بمثل ذلك في اليمن. إنها الناقدة والفنانة التشكيلية والأكاديمية اليمنية آمنة النصيري، التي تحتفل هذا العام بعيد ميلادها الأربعين، وفي رصيدها ثلاثة مؤلفات، ودكتوراه في فلسفة الفن من جامعة موسكو، ومشاركات في عدة مؤتمرات عن الإبداع والمرأة والتشكيل في عدة عواصم عربية، فضلاً عن نيلها العديد من الأوسمة والجوائز الفنية. وإلى كونها أستاذة أكاديمية ل"فلسفة الفن وعلم الجمال" بجامعة صنعاء، نظمت عشرات المعارض الفنية في اليمن ودول عربية وأوروبية، وكان أخرها معرض "حصارات" الذي نظمته بالمركز الفرنسي بصنعاء، في فبراير الفائت، والذي قدمت خلاله تجربة ورؤية مغايرة في المسار الإبداعي لها؛ بينما تقول إن فكرة الحصارات أنطقلت من الطبيعة التي تحيط بالوجود الانساني والتعبير عنها بواسطة أشكال غير مسبوقة في التجارب السابقة لها كفنانة وفي النتاج التشكيلي اليمني بصورة عامة. "الهدهد الدولية" دعت الناقدة والفنانة آمنة النصيري، إلى التوقف دقائق عن الرسم، وأجرت معها هذا الحوار: * ماذا عن واقع الحركة التشكيلية في اليمن؟ وعن موقعها في الحركة التشكيلية المعاصرة في العالم وهل تواكبها؟ حركة الفن التشكيلي اليمني تمثل ظاهرة, إذا ماقارناها ببقية الفنون, فبرغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة وحداثة هذا الفن في بنية الثقافة المحلية, إلا أن التشكيل يعيش انتعاشا ملحوظا, والملفت للانتباه هو تزايد أعداد الشباب والشابات الذين يدرسون ويشتغلون في الفن, واليوم لدينا أسماء كثيرة متفردة في أوساط جميع الأجيال, وتنتمي إلى اتجاهات تشكيلية مختلفة. إلا أنني كثيرا ما أشير إلى مسألة أجدها هامة, وتتعلق بمسارات الحركة, فقد مر على ظهور الفن البصري في اليمن ما يقارب النصف قرن, ومع ذلك لا زالت السمات التعبيرية والواقعية المدرسية هي الغالبة على الجزء الأكبر من تجارب الفنانين, ولا زال الموروث والبيئة يمثلان محور اهتمام الفنان, الذي يعالجها في كثير من الأحيان ضمن طابع تقريري يخلص للخارج أكثر من إخلاصه للرؤية المتحررة من أسر النقل, وتلك إشكالية قد أعود لتفسيرها أثناء الحوار. * من المعروف أن الفن التشكيلي في اليمن يعاني من ضآلة جمهوره وعدم الإقبال على إقتناء اللوحات وغياب التذوق.. كيف تقيمين طبيعة العلاقة بين التشكيل والمتلقي؟ وما هي فرص تطبيع هذه العلاقة؟ أعتقد إن المشكلة ناتجة عن عدة عوامل, منها طبيعة الثقافة اليمنية التي تميل إلى التقليدية والشكل المحافظ الذي يرفض الأنواع الغريبة, فالبنية الثقافية بحاجة إلى انفتاح أكبر على المنجزات المعاصرة بكل جموحها وشططها, فالمتلقي يصبح ديمقراطيا ويقبل بالجديد واللامألوف عندما يعتاد على جو متسامح ومنفتح على الآخر, وفيه الكثير من التعدد والثراء, حيث توجد أصولية بالمعنى الأشمل تحكم الذهنية العربية فتجعلها متأهبة دائما لنفي أو إنكار كل مالا يتماشى مع ذائقتها. ومن جهة أخرى يلعب تغييب التربية الفنية والجمالية دورا في تدني ذائقة المشاهد اليمني والعربي, وكل ما يصل إليه وعيه لا يتعدى الأنماط الواقعية, الأمر الذي يكرس القطيعة بين المتلقي والنص الحديث, هذا يطال المقتني أيضا الذي لا يمثل الفن جزء من اهتماماته, وحتى إن اقتنى فهو يبحث عن عمل شديد البساطة ينقل الواقع نقلا حرفيا. هكذا إشكالية لا يمكن حلها ألا بتغير في المنظومة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية, وكذا في مناهج التعليم القائمة على الحفظ وليس الابتكار والإبداع, ويتضمن ذلك كل المواد الدراسية, بما فيها العلمية, بالإضافة إلى الاهتمام بالتربية الفنية وتنمية الملكات وتطوير الذائقة.
* يبدو أيضاً حضور الفن التشكيلي اليمني في الخارج محدود وضيئل، فما هي الأسباب من وجهة نظرك، وكيف ينظر الآخرون إلى الفن اليمني بحكم مشاركاتك الخارجية؟ لازال حضور الفن في الخارج كما ذكرت في سؤالك محدود مقارنة بنشاطات الآخرين, ومع ذلك يحظى الفنان الجاد بالاهتمام والتقدير, فالأمر مرهون بمستوى التجربة, والأعمال التشكيلية اليمنية العالية المستوى تدهش المختصين في صالات الفن وتجعلهم يتساءلون عن سبب غياب هذه التجارب عن المشاركة المتصلة في المحافل الدولية, وبالطبع يصعب عليهم فهم ظروف البلد والأوضاع الاقتصادية والأزمات المتلاحقة التي تحول جل الاهتمام إلى السياسي على حساب الثقافي .
* هل تصنفين فنك ضمن اتجاه معين؟ وما هي المؤثرات في تجربتك؟ أنا أنتمي إلى الفن المعاصر بكل سمات الحداثة فيه, وتقترب أعمالي من التجريد أكثر. وعن المؤثرات لابد أن كل ما يحيط بالفنان يمثل مؤثرا في التجربة, فالعالم المحيط والمعارف المتنوعة والتجارب الحياتية, والتعليم والخبرات والالتحام بالحركات الفنية المعاصرة, جميعها تدخل في تشكيل التجربة, لذا أعتبر تجربتي نتاج عالمي المتعدد, إلا أنه ينعكس في النصوص من خلال رؤيتي الذاتية.
* معرضك الأخير يشكل انعطافة جديدة في مسيرتك الفنية.. هل هو امتداد لتجاربك الماضية، أم أنه تعبير عن تجربة مغايرة، خاصة مع استخدامك توليفات وتقنيات غير مألوفة سواء في تجاربك السابقة أو في التجربة التشكيلية في اليمن بشكل عام كاستخدام ما يشبه الدراما التعبيرية والمؤثرات الصوتية؟ الفنان بحاجة دائمة إلى التمرد ليس على الخارج فحسب بل وعلى نفسه وأدواته, ما حدث أنني أردت اختبار وسائل جديدة تتناسب مع طبيعة الطرح, وبحثت عن شئ من التغيير لكسر حدود المألوف لدى المشاهد فالرؤية كانت نوعا ما صادمة واحتجت إلى شكل أيضا ينقل هذا الجو, فوجدت في توظيف الوسائط الرقمية وسيلة يتحقق بها التصور, وكان المعرض فرصة لتقديم أدوات جديدة للتعبير تعرف عليها الجمهور اليمني. والمعرض أعتبره تحول بالنسبة لي لكنه لن يستمر في اتجاه واحد فتلك محطة جربت فيها وسائل جديدة لكنني لن أتخلى عن لوحة المحمل, وإنما سأخرج إلى تجارب مغايرة بين حين وآخر, وتبقى اللوحة اهتمامي الأساسي.
* هل يعبر هذا عن انتقالك من الحداثة (الذي يمكن تصنيفك فيها) إلى ما بعد الحداثة؟ أم هو عودة إلى الواقع أو الواقعية والتعبيرية – إن جاز التعبير – واعتماد الإنسان كموضوع لهذا الفن؟ نعم هي انتقال إلى ما بعد الحداثة خاصة في الاعتماد على الوسائط الرقمية وفن الفيديو, وهذه شائعة جدا في الأعمال المابعد حداثوية, ولأن في هذا التيار سمة شعبوية, أي أنه يكرس مواد ومعالجات ذات طابع أدائي ينحو إلى التبسيط, فقد ظن البعض بأنه عودة للغة الواقعية, وهو استنتاج غير دقيق, إذ أن قرب المضمون من حياة ووعي الجمهور ودراما الأداء لا يحيل بأي صورة إلى الواقعية كمدرسة فنية, ولقد دهشت لمدى تفاعل الجمهور مع المعرض, واستيعابهم الأعمال على رغم جدة تقنياتها وغرابتها على مشاهد لم يعتد إلا على اللوحات المتحفية . أما عن اعتماد الإنسان كموضوع فهنا قضية تتعلق بالرؤية الفردية للفنان, فبينما تتهم التيارات المابعدحداثية بالنزوع المادي وتكريس وجود المادة وتغييب الإنسان من الفن, يتبلور خط قوي يتبنى فكرة أنسنة العالم وإعادة الاعتبار للإنسان وذاتيته وحريته. وهي قضية أؤمن بها و أتمثلها في كل أعمالي, بما فيها المراحل السابقة لهذا المعرض, وذلك يبرر أيضا وجود الإنسان بطل أوحد في المعرض الأخير (حصارات) .
* خلال تجربتك الفنية تمكنت من بلورة طابعك الخاص الذي صار يميز أعمالك، فهل هناك خصوصية لكل مرحلة أو معرض على حدة؟ كلا إنها ملامح كلية لعموم التجربة, وقد يضيف كل معرض علامات جديده، إلا أن هناك خط واحد يربط الأعمال, وكثيرا ما أشعر بالسعادة عندما يتعرف الناس على لوحاتي دون الرجوع للتوقيع, فهذا همنا في التجربة الفنية الوصول إلى شئ ما يميز الفنان عن غيره.
* في معرضك الأخير قدمتِ أيضاً ما يشبه نقداً صارخاً ومباشراً للواقع الاجتماعي وخاصة بالنسبة للمرأة، هل يمثل هذا عودة إلى الاهتمام بالبعد الاجتماعي الأنثوي، رغم أنك كنتِ قد قلتِ في لقاءات سابقة أنك قد تجاوزتِ ذلك إلى الاهتمام بالبعد الإنساني بشكل عام؟ صحيح إنني أذكر دوما بأن تجربتي فقط في بداياتها تنتمي إلى فكر نسوى وبأن الهم الإنساني والكوني يشغلني في الوقت الراهن, وقد عبرت عن الموضوع في معارض عديدة ومنها هذا الأخير, وضمنت بيان المعرض عبارات تشير إلى أن مفهوم الحصار الذي أعبر عنه يتجاوز القيود الاجتماعية والخارجية عموما وحتى الحصارات والمخاوف الكونية, فالحصارات أيضا في الدواخل البشرية للكائن دونما تجنيس وهي سلسلة من الأوهام والمخاوف الامحدودة. وقد وظفت صورا وأشكالا مرمزة بعضها يحمل ملامح نساء وبعضها الآخر لا يفصح سوى عن حياة كائن بشري, لكن الإسقاط الأكبر من قبل النقاد والجمهور كان في اتجاه المرأة, وتلك قراءة مشروعة, كما أنني أعتقد أن المشاهدين رأوا المرأة المضمون الأساسي للأعمال نتيجة وجود اللفائف الكثيرة حول الشخوص, إضافة إلى معاناة النساء اجتماعيا والضغوط التي يعشنها جعلت المشاهدين يحيلون كل الاحتمالات إلى قضايا المرأة, ومن الضروري الاعتراف بأن النساء شكلن الرموز الأكثر في المعرض, إلا أن الموضوع لم يكن عنها فقط. * هل هذه التحولات هي تعبير عن تحولات في ذات آمنة النصيري كإنسان، أم هي انعكاس للواقع الاجتماعي والقلق الفني الإنساني والمعرفي؟ هي كل ذلك , فهي حالتي الداخلية كفنانة وكإنسانة, وهي مخاوفي ومخاوف البشر من دمار الكون ومن الكوارث المصنوعة ومن القمع ومن الانتكاسات, ومن التغييب ومن الموت ومن المجهول, انه بالفعل تعبير عن قلق وجودي وواقعي ومعرفي, وغضب تجاه منظومات قاسية, ومحاولة للاعتراض على قبح يحاصر عوالم الإنسان, ولقد انعكس هذا القلق على الشكل الذي احتجت فيه إلى الدراما والحركة والكتلة في الفراغ المتمثلة في أعمال التنصيبات.
* يقال عادة "الناقد فنان فاشل" كيف استطعت التغلب على هذه المقولة، خاصة بعد النجاح الكبير الذي تحققه معارضك والاهتمام الإعلامي والثقافي الذي تلاقيه؟ بعيدا عن المقولات المقولبة, أؤمن بأن كل فرد حالة خاصة على جميع المستويات, وفي الفن لا توجد مغالطات, لأننا أمام نص مرئي, أما أن يكون ضعيفا أو قويا, سواء كان صاحبه فنان متفرغ أو فنان وناقد أو طبيب وفنان .