سنستريح قليلًا ونحن نتابع المنتخب اليمني في خليجي23. ستسمو الروح الرياضية فوق كل خلاف: الشرعية والانقلاب، الحوثي والمقاومة، لجان المليشيا والأحزمة الأمنية، سيقفون خلف أضواء الشاشة، كبار السن الذين ملوا من الحرب سيرتدون العدسات ويحدقون بالأعين المزغللة التي خيم بداخلها الحزن، الشباب والنساء، الجميع سيشاهد الكرة بحثًا عن فرصة فرح وسط الأجواء الصعبة والحزينة. قلة فقط من الذين يبنون أمجادهم الشخصية عن طريق التضحية بأطفال الآخرين سيطلقون النار على متجمعين يشاهدون المباريات. سينهزم المنتخب ولن يتحدث عنه أحد، ولا عن خطط تطويره، لكنه قد يفوز ويحقق المستحيل ليتقافز الأدعياء الذين يعشقون الانتساب لأحداث الفوز ويستدعون المنتخب الذي ذهب بأردية رياضية قديمة تخلو من شعارات الاتحاد العام للعبة، يستدعونه للتكريم. الرياضة تسمو على كل خلاف، هذا هم المهم. الرياضة تجمع فرقاء السياسة في العالم، إقليم كاتالونيا الذي ينادي بانفصال الإقليم عن إسبانيا، ينسى هذه النعرة وتصطف جماهير الإقليم خلف نادي برشلونة، تذوب مطالب الاستفتاء بمباراة كرة، يرسمون لوحة المدرجات، يهزجون، لا يلطخون كرة القدم بسياسة العنصرية ولا بالأزمات السياسية، يقولون عن ذلك بكل رقي: الروح الرياضية. هذه هي الروح التي تبدو مغيبة في ثقافة العرب وتحديدًا في الخليج. إذ من يصدق أن بعثتا المنتخب الإماراتي والسعودي انسحبتا من مؤتمر صحفي رياضي، بجريرة وجود وسائل إعلام قطرية، وكلهم خليجيون، الإمارات والسعودية وقطر، ويشاركون في البطولة نفسها، ثم ماذا سيفعلون إذا ما التقى فريقان في الأدوار التالية؟! مفتتح البطولة حنق، يا للمصيبة، نأمل أن تسود الروح، كي لا نشاهد الحنق ذاته في النهائي.
لكل إنسان ذكريات لاهثة خلف الساحرة المستديرة، نحن القرويين لدينا الكثير من الذكريات، مع بطولة كأس الخليج التي تقام في الكويت، تذكرت أيام ما كنت رياضيًا قبل اثنتي عشرة سنة. كنا نتعرض للهزيمة من فريق القرية المجاورة، بفارق ضئيل بالأهداف، إلى أن وضع إدريس الخطة. كان إدريس شغوفًا بمتابعة الدوري، عدوى الشغف انتقلت إلى كثيرين. كنا نشتري الصحف الرياضية، نتابع برامج الإذاعات، وحين احترف علي النونو في السودان اشترينا مذياعات متقدمة كي نلتقط موجة إذاعة أم دُرمان ونسمع المعلق الزول وهو يقول الكرة مع علي النونو. تمثيل اليمن خارجيًا كان يجذبنا، وكلما قدم أحد اللاعبين أداءَا جيدًا كنا نرفع رؤوسنا كما لو كنا نحن من يركض. تابعنا الدوري البحريني لأنه كان لدينا مدافع يحترف هناك، والسوداني، والمصري حين انتقل النونو إلى هناك، وبكل تأكيد كنا نتابع الدوري اليمني من المدرجات، كنا ندخل ميدان الشهداء ونعود إلى القرية ليلًا. أذكر الصافرة الأولى التي كنت فيها في المدرجات لأول مرة، بقيت ألوي برأسي في زوايا الملعب، أبحث عن المعلق وصوته، كل جديد يأتي يبحث عن المعلق، عارف كان راعي غنم ويتابع عبر الراديو؛ حين لم يجد المعلق في الملعب أبدى استيائه الشديد وهجر المشاهدة من المدرجات مفضلًا السماع من الراديو في الجبل وهو يركض خلف الغنم، يراوغ الكلأ، يرسل صيحاته لبلح وحمط وحانئ، يحني أغصان السدر كما لو كان كرة سقطت إلى رأس "رأس الحربة، يقذف حجرًا إلى الجدي القاصي فيصيبه ويصرخ جوووول. لقد تأثر بمصطلحات المعلقين، حتى أنه كان يقول لأصحاب الوديان الذين يصيحون عليه إذا ما دخلت غنمة إلى الوادي: العفو منك.. تسللت يا صاحبي.. ويرفع الغترة التي مزقتها الأشواك تحت لفح الشمس، يرفعها كما لو أنها راية حكم مساعد. كان إدريس يسمع عن خطط المدربين وتكتيكاتهم، وكنا نرى رسمة الملعب في الصحف وطريقة توزيع اللاعبين. اشترى إدريس بدلة رياضية صفراء، أخذ ورقة وقلمًا ورسم الخطة التي سنواجه بها القرية المقابلة، وكان أحد اللاعبين يستفسر: وين العلب.. وبعدين الملعب حقنا أعوج وزغير مش مثل هذا.. واستعان إدريس بقرويين كانوا يعيشون في المدينة، على اعتبار أن احتكاكهم باللعب المدني أكسبهم خبرة المرواغة، وتخلى عن لاعبين جيدين ينتمون لقريتنا. في تلك المباراة انهزمنا ب 14 هدف فقط. وفي الوقت الذي كان إدريس يتلقى اللوم بسبب الهزيمة الثقيلة الناجمة عن الخطة، كان يدافع عن نفسه بقوة: احمدوا الله، لولا خطتي كنا شنهزم بواحد وعشرين.