المستمع للقيادات الحوثية وهي تتحدث عن تحرير القرار اليمني من التدخلات الخارجية سيظن - وبعض الظن إثم- أن اليمن دولة عظمى تمتلك حق "الفيتو" ومواقفها الخارجية تصنع السياسات الدولية، ولولا أن قرارها لم يكن مستقلا لكانت فلسطين قد تحررت، وليست اليمن الدولة الفاشلة التي تشحت معونات أجنبية طوال العام لسد عجز موازنتها العامة! يبالغون في الحديث عن ارتهان القرار اليمني للخارج، ويتجاهلون أن كل دول العالم بما فيها العظمى لا تتخذ قراراتها المتعلقة بالشأن الخارجي بدون مراعاة لمصالحها ومحيطها، وقد تضطر لاتخاذ مواقف لا تتوافق وقناعاتها وإنما حفاظا على مصلحة أو طمعا في أخرى أو مراعاة لحلفاء تجبر على مواقف غير مقتنعة بها، والسياسة هي مصالح بالأخير. لا يوجد دولة تتم كل قراراتها باستقلالية وبعيدا عن أي ضغوط خارجية، وبنسب متفاوتة يعتمد على قوة الدولة، واليمن كبقية الدول الفقيرة مضطرة لمسايرة الأغنياء في مواقفهم ولو كرها لجلب مصلحة وطنية وليس عبثا، ومن يريد أن يحرر القرار اليمني بشكل معقول ليس إلا فعليه أولا تجنب مناطحة الكبار وهو تحت الأرض، ويبدأ من الداخل ببناء دولة قوية باقتصادها وتعليمها وجيشها وتنمية مواردها بما يغنيها عن أموال الآخرين، وهذا لن يكون بيوم وليلة بل يحتاج إلى عشرات السنين، ولن يكون بدون دعم ومساعدة الخارج أيضا. ***** مواقف اليمن الخارجية متوازنة إلى حد مقبول وتعبر في معظمها عن رأي الشارع اليمني، ولديها علاقات جيدة مع الدول الكبرى وليست منحازة لطرف على حساب آخر، لكن الحوثيين دأبوا لأهداف خاصة على تعسف النظام الحاكم واتهامه برهن قراره للخارج وتحديدا السعودية، ولديهم قضيتان يحتجون بهما أولهما موقف النظام من الثورة السورية المنساق مع الموقف الخليجي رغم أن الموقف الرسمي حرص على مراعاتهم! لم ينساق الرئيس هادي مع الموقف الخليجي بحذافيره بطرد السفير السوري لدى اليمن كما فعلت كثير من الدول، وظلت السفارة السورية بصنعاء تمارس مهامها رغم الاحتجاجات والدعوات المطالبة بإغلاقها تضامنا مع الشعب السوري الذي يتعرض لحرب إبادة على يد مجرم القرن بشار الأسد، ولا يعقل أن شخصا عاقلا ومنصفا سينحاز إلى صف نظام إجرامي، وهذا لا يعبر عن إرادة غالبية اليمنيين المناصرين للثورة السورية. وإذا كانت باكستان وهي دولة نووية اعتذرت عن إرسال جنودها إلى الحدود اليمنية السعودية لمحاربة الحوثيين حفاظا على مشاعر الأقلية الشيعية في بلادها، فكيف تريد جماعة الحوثي من الرئيس هادي أن ينحاز لمجرم سوريا ويدوس على مشاعر غالبية المواطنين اليمنيين؟ وبالمناسبة يعيبون على السعودية تدخلها في اليمن ويعتبرون ذلك انتهاكا لسيادة بلد، وفي نفس الوقت يؤيدون التدخل الإيراني والعراقي وحزب الله اللبناني في سوريا، وهم أيضا أرسلوا مقاتلين إلى هناك ولا يعتبرون ذلك انتهاكا لسيادة بلد، ويقولون إن اليمنيين هم أصحاب القرار ومن يقررون مستقبلهم بدون تدخل أجنبي ولن يقولوا إن السوريين لهم نفس الحق! ***** القضية الثانية التي يستدل بها الحوثيون على ارتهان النظام الحاكم للخارج هي السماح للطائرات الأمريكية بدون طيار بانتهاك الأجواء اليمنية، ويعتبرون ذلك دليلا على تبعية القيادة السياسية لأمريكا، ولا زالوا يزايدون بالعداء لأمريكا بدون خجل رغم انفضاح هذه الأكذوبة، ووصل بهم الحال حد استنكار تطابق موقف حزب الإصلاح مع الموقف الأمريكي حيال عاصفة الحزم كون أمريكا لم ولن تكون مع مصلحة اليمن، حد رأيهم. والحوثيون أنفسهم اشتركوا مع أمريكا في حرب تنظيم القاعدة في محافظة البيضاء قبل أشهر، وكان موقفهم حينها ولا زال مطابقا للموقف الأمريكي في هذه الحرب التي ضحاياها يمنيون، وإذا كانت طائرات بدون طيار انتهاك للسيادة اليمنية - وهي كذلك- فهذه الطائرات لا زالت تضرب أهدافا يمنية برضا وصمت السلطة التي تديرها جماعة الحوثي اليوم! ومؤخرا قال قيادي حوثي لصحيفة أمريكية مطمئنا الإدارة الأمريكية إنهم لن يقفوا ضد الطائرات بدون طيار إذا وصلوا إلى السلطة، ولهذا هم ساكتون عن ضرباتها المستمرة ومباركون لها سرا، ويعيبون ذلك على الرئيس هادي رغم أنها تتم بموجب اتفاق أمني سابق وقعه حليفهم الجديد صالح عندما كان رئيسا، ولماذا لا يتهمون طهران وأذنابها في المنطقة بالعمالة لأمريكا وإسرائيل لأنهم يقفون الآن في جبهة واحدة مع واشنطن للقضاء على "داعش"؟ ***** الحوثيون أرادوا من النظام اليمني إعلان دعمه لنظام الإجرام السوري لإثبات عدم تبعيته للسعودية ما لم فالقرار اليمني مرتهن والسيادة اليمنية منتهكة، وهذا الإعلان أصلا لن يرجح كفة الأسد ولن يهزم دول الخليج، ولن يغير في الواقع شيئا فقط مصالح اليمن هي التي ستتضرر نظرا لأهمية الدعم الخليجي، ويكفي موقف النظام السابق عام 90م من الغزو العراقي للكويت الذي دفع اليمنيون ثمنه باهضا إلى اليوم، ولم ينتصر الرئيس الراحل صدام حسين بسبب موقف المخلوع صالح ولا فشلت مهمة تحرير الكويت. والملفت أن الحوثيين لا يعيبون على الرئيس هادي إعلان دعمه للانقلاب العسكري في مصر بطلب من الرياض وينطلقون دائما بدافع مذهبي، وها هم يسعون إلى تحرير القرار اليمني بمناصرة النظام السوري ولا يأبهون لحجم الآثار الكارثية التي ستحل بالبلد جراء تضرر أكثر من 3 ملايين مغترب يمني في دول الخليج يعيلون أكثر من نصف الشعب، فأهم شيء عندهم هو دعم قاتل السوريين نكاية بالخليجيين وإرضاء للإيرانيين وليذهب اليمنيون للجحيم! ***** المواقف الخارجية مبنية على المصالح الاستراتيجية، وقد يستدعي الأمر أحيانا من الأنظمة الحاكمة السكوت على حق باعتباره أخف الضررين لحماية مصالح شعوبها، وأي موقف خارجي ضرره أكثر من نفعه فتركه أولى وقد تقع أخطاء، واذا كانت جماعة الحوثي تدعي أن مواقفها لا تحكمها المصالح وإنما المبادئ فلتثبت لنا بموقف واحد، وعلى سبيل المثال يخرج زعيمها بخطاب يعيد فيه الاتهامات التي كان يطلقها على المخلوع، وإذا لم تكن تلك الاتهامات صحيحة فليعتذر عنها علنا كونها بنيت على معلومات مضللة، ويشهد مجددا أن علي عبدالله صالح لم يكن مجرما ولا خائنا ولا عميلا ولا فاسدا كما كان يردد قبل ثورة 11 فبراير! لا أحد ينكر تأثير الخارج وخاصة السعودية على القرار اليمني نتيجة الدعم الكبير الذي تقدمه لليمن ومصالحنا الكبيرة معها وهو تأثير لا يمكن لأي نظام قادم تجاوزه، وسيظل تأثير السعودية قائما ولو حكم الحوثيون الذين قالوا أكثر من مرة إنهم يطمحون بوجود علاقات خاصة معها، فالبلد لا تحتمل إطلاقا وجود قطيعة مع دول الخليج ولهذا لا داعي للمزايدة بارتهان القرار اليمني للخارج، والأقبح أن يزايد صالح بالسيادة وهو الرئيس الذي كان يتقاضى راتبا شهريا من السعودية بصورة لن يقدم عليها أحقر العملاء! التأثير السعودي ليس سلبيا خالصا، وتأثيره ليس مشكلة اليمنيين الرئيسية لكن بعض المحسوبين على قوى اليسار لم يستطيعوا الخروج من عقلية الستينيات عندما كانت الرياض صاحبة القرار في اليمن ومن تصادق على التشكيلات الحكومية، ولا زالت تمثل لهم بعبعا جعلهم يحملونها كل صغيرة وكبيرة رغم أن دورها تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة، واقتصر على دعم لمشايخ شمال الشمال بناء على سياسة قاصرة لم تستوعب أن القبائل ورقة على وشك الانقراض. ***** لا أحد يقف ضد بناء الدولة اليمينة إلا أبناءها لكننا نرمي فشلنا على الآخرين، ويأتي الحوثيون اليوم ويتحدثون عن انتصار عظيم بتحرير القرار اليمني من السعودية لخداع الرأي العام وتبرير مغامراتهم الغير مدروسة، وكأننا قد أصبحنا عضوا دائما في مجلس الأمن الدولي! كل هذه الدماء وآلاف الجرحى وهذا الدمار الذي سنحتاج إلى ثلاثين سنة قادمة لإصلاح تداعياته من أجل تحرير القرار اليمني من السعودية، وهم عاجزون عن رفع القمامة من الشوارع حتى اللحظة، وكل هذا الخراب مقابل تحرير وهمي لا يسمن ولا يغني من جوع! لسان حال الحوثيين المثل الشعبي القائل "مشيخوني وشلوا البقرة"، وهم تسببوا في دمار البلد من شان نشتم السعودية في الإعلام الرسمي، ويا له من انتصار جهنمي، ومن الآن وصاعدا كلوا يا مواطنين سيادة خالية من الكوليسترول واشربوا قرارا محررا مع الحوائج، ولا تنسوا الحوثي وصالح من خالص دعائكم لأن لهما الفضل الكبير في هذه النعمة الكبرى، ولله الحمد. ______________________ * رئيس تحرير صحيفة الناس