- ثورة الدكتور الترابي على الفقه وأصوله: في نهاية سبعينات القرن الماضي نادى الترابي بتجديد أصول الفقه وفتح باب الاجتهاد للمجتمع تحاورا وتفاكرا حيث أنه لا مكانة في الإسلام لطبقة منغلقة تحتكر أسرار الدّين وتصدر الأحكام والفتاوى ويظل المجتمع متميزاً بين عامة معزولة عن التفكر في الدين وشذاذ يحتكرون الاجتهاد. لم يكن الترابي فقيهاً تقليدياً متلبّساً بصبغة الكهنوت الديني كسائر الفقهاء، بل كان صوتاً صارخاً في برية الفقه والفكر الإسلامي يطالب بثورة عاصفة من شأوها تغير الأصول جميعها وتكييفها على واقع مستجدّ تتكامل فيها أبنيته وصياغاته الأخيرة، وتعيد للعقل اعتباره ومكانته في مجابهة نقول التراث. باعتقادي أن الترابي أول من تجرأ على القول بأن النص الديني نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأن أصول الفقه قد غدت مقولات نظرية عقيمة لاتكاد تلد فقهاً البتة بل تولد جدلاً لا يتناهى ، وأن القول بخلود أو أزلية أصول الفقه والتشريع مجرد وهم. فالدّين ليس إلا محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الإبتلاء الظرفي القائم في الأرض. وفي موقف لافت لم يكرر الترابي ما يقوله الإصلاحيون بالعودة إلى أصول الإسلام ومنابعه الأولى، بل تحدث بوضوح أن تجاوز المسلمون الأوضاع التي عبر بها سلفهم الصالح عن الإسلام لا يعني ذلك تجاوزاً للدّين أبدً ، فالإسلام كأي ذات حية يغتني بالتطوير والإضافة، وان الصيغة الأولى التي تركها الرسول ليست إلا النواة التي مضت تكتمل كل يوم، وأننا نملك اليوم إسلاماً أوفر غنى وثراء مما ملكه الأولون، وبذلك فإنه تجاوز الحديث عن تجديد الدين إلى تطويره، واعتبر أن الزمن والتجارب الإنسانية هي قيمة مضافة للإسلام تزيد في غناه وثرائه ونبله. وفي مواجهة ضغوط المحافظين ينبّه الترابي على أن " القيام بتكاليف الاجتهاد في مثل ظروفنا يستدعي جرأة في الرأي وقوة في الصبر ، فكلما خبرنا تحولاً في حياة الناس صار لزاماً علينا أن نعمل عقولنا من منطلق المسؤولية لتنزيل الدّين على واقع الناس أو لرفع واقع الناس لموافاة مقام الدّين" تحدّث الترابي صراحةً بأحقية الفقه في الإسلام أن يكون فقهاً شعبياً وأن ضوابط الاجتهاد هواد لا كوابح تعيق الحركة ، فبعد ثورة الاجتهاد وتباين الآراء لابدّ من تدبير تسوية الخلاف ورده إلى الوحدة وذلك بإعادة الإعتبار إلى مبدأ الإجماع المتبلور عن مبدأ الشورى ليتشاور المسلمون في الأمور الطارئة في حياتهم العامة فالذي هو أعلم يبصر من هو أقل علما فيدور بين الناس الجدل والنقاش حتى ينتهي في آخر الأمر إلى حسم القضية بقرار يجمع عليه المسلمون أو يرجحه جمهورهم وسوادهم الأعظم ، فالإجماع هنا ليس إجماع رجال دين بل إجماع عامة المسلمين. وفي إطار الحدود الشرعية كان للترابي موقف جريء وشجاع حيث رأى أن الفهم الصحيح للعقوبات في الإسلام يجعلنا نمتنع تماما عن تنفيذ الحدود التقليدية من قطع ليد السارق ورجم للزاني وصلب للمحارب وغيرها، واعتبر أن القراءة العميقة لروح الإسلام وتجدده وتطوره تسمح بإعادة كتابة قانون عصري للعقوبات يؤكد على ردع المحرمات في الشريعة بأساليب أكثر تحضراً وعصرانية، وأعلن تأييده لتحويل العقاب من التعذيب الجسدي بالقطع والجلد والرجم إلى عقوبات إصلاحية تنسجم مع الحضارة الحديثة وتنسجم أولا مع روح الإسلام. سيكتب الكثير عن الرجل الذي ظل نصف قرن يشغل العالم الإسلامي بمواقفه في الدين والسياسة، وسيذكره التاريخ مفكراً استثنائياً .