تلاشت القطاعات القبلية المسلحة التي كانت منصوبة على امتداد الطريق الرئيس، الذي يربط صنعاءبعمران المجاورة في تحسن طارئ للأوضاع الأمنية لم يدم سوى فترة استثنائية وقصيرة قبيل أن تتحول مدينة عمران التي تمثل البوابة الشمالية للعاصمة السياسية للبلاد إلى منطقة "منكوبة ومغلقة" مفتوحة على مواجهات مسلحة ومتصاعدة لاتزال مستمرة بين الحوثيين وقوات اللواء 310 مدرع التابعة للجيش ومجاميع مسلحة تابعة لحزب التجمع اليمني للإصلاح . الدخول إلى عمران عبر منفذ "الأزرقين" الحدودي الذي يربط عمرانبصنعاء لم يعد فرصة للاطلاع عن كثب على طبيعة الحراك التجاري النشط الذي تختزله مظاهر الاصطفاف التقليدي على المنفذ للسيارات والشاحنات المحملة بمختلف أنواع السلع الاستهلاكية الوافدة من أسواق المدينة والمتجهة إلى العاصمة صنعاء، بل بات أشبه بمجازفة غير مأمونة العواقب حيث احتفظ المنفذ بمظاهر الاكتظاظ التي طالما مثلت جزءاً من محيطه الصاخب، لكنه استعاض عن حركة التنقلات النشطة للسلع والبضائع بمشاهد اصطفاف تبعث على الأسى للسيارات العالقة المزدحمة بالنازحين الفارين من مناطق التماس الملتهبة بين طرفي الصراع المسلح الطارئ داخل المدينة وبأجواء مشحونة بالتوتر وتحركات عربات الجيش الذي عزز بشكل غير مسبوق من إجراءات الرقابة المفروضة على المنفذ الذي ينفرد الجيش بالسيطرة عليه.
بتجاوز بوابة منفذ "الأزرقين" والتحرك إلى داخل المدينة تبدأ تداعيات الصراعات المسلحة والمحتدمة بين الجيش والحوثيين من جهة وبين الحوثيين وبعض القبائل المناهضة لتواجدهم القسري في عمران بالظهور في هيئة اسراب من السيارات والشاحنات المختلفة التي تقل على متنها عائلات نازحة في طريقها إلى المنفذ للتوجه إلى صنعاء وانحسار لافت لمظاهر الحياة العامة التقليدية . وحدها الأجواء المشحونة بالخوف والتوتر والترقب الجماعي تهيمن بفظاظة على مفردات المشهد العام في المدينة التي تعيش منذ أشهر طويلة حالة ممتدة من عدم الاستقرار واتساع نطاق العنف والغياب القسري لحضور الدولة .
وأشار الشيخ عبدالرحمن أحمد الجبل، أحد الوجاهات القبلية الشابة بعمران في تصريح ل "الخليج" إلى أن تصاعد حدة المواجهات المسلحة بين مقاتلي جماعة الحوثي وقوات اللواء "310" مدرع وما يرافقه بشكل يومي من صدامات مسلحة بين مقاتلي الجماعة ومجاميع قبلية موالية لحزب الإصلاح وبعض مراكز القوى القبلية المتضررة من التواجد القسري للحوثيين بعمران تسبب في انحسار مساحة التفاؤل لدى الكثير من الأهالي من إمكانية استعادة المدينة لاستقرارها قريباً لاعتبارات تتعلق بكون الصراع القائم بين الأطراف المتقاتلة ليس مجرد تنازع على مناطق النفوذ ولكنه جزء من مخطط استراتيجي ينفذه الحوثيون لإسقاط عمران تمهيداً للانقضاض على العاصمة صنعاء . عمران في سلة الحوثي
باستثناء عاصمة المحافظة البالغة مساحتها 120 كيلومتراً مربعاً، والتي تسيطر عليها قوات اللواء 310 وقوات الأمن الخاص التابعة لوزارة الداخلية، يمكن القول إن معظم مديريات عمران البالغ عددها 20 مديرية أضحت فعلياً تحت قبضة جماعة الحوثي، التي تخوض منذ أسابيع مواجهات مسلحة عنيفة ومحتدمة مع قوات اللواء310 مدرع في مناطق جبل الجنات والمحشاش وبعض القرى المتاخمة كبيت الحمودي و"الجايف" اللتين نصب فيهما الحوثيون مؤخراً عدداً من المدافع لقصف مواقع قوات الجيش المتمركزة في منطقة "جبل ضين"، وللسيطرة على هذه المناطق التي تمثل مواقع استراتيجية حيث تستميت قوات الجيش لوقف تقدم الحوثيين للاستحواذ عليها رغم إدراكها المبكر أنها تقاتل في محيط محاصر بمجاميع مسلحة ومكثفة من مقاتلي الجماعة .
يسيطر الحوثيون فعلياً على نطاق جغرافي يمتد من جبال ضحيان بصعدة إلى منطقة العصيمات و"جبل يزيد" الذي تقع فيه منطقة "الخدر"، أحد أبرز معاقل نفوذ حزب الإصلاح سابقاً بعمران قبيل أن يستحوذ عليها مقاتلو جماعة الحوثي بقوة السلاح، فيما تمثل مناطق "حرف سفيان" أكبر مديريات عمران البالغة مساحتها 2782 كلم وحوث وخمر وريدة والقفلة والعشة ومذاب خطوط إمدادات طارئة لمقاتلي الجماعة في حربهم الراهنة والمتصاعدة مع قوات اللواء 310 مدرع، التي تدور في مناطق جبل الجنات والمحشاش .
ومؤخراً استكمل الحوثيون بسط سيطرتهم على مناطق عمد وروى وسحب الكائنة شرقي عمران (عاصمة المحافظة) وعلى "المأخذ"، غربي المدينة وثلا وضيان جنوباً، إلى جانب حشد مجاميع مسلحة ومكثفة في منطقة "بير عايض" بشمالها وهو ما يجعل من الحرب القائمة بين قوات الجيش ومقاتلي الجماعة ليس أكثر من معركة "صمود" يخوضها الجنود بشكل اضطراري لمنع سقوط عاصمة المحافظة في قبضة الحوثيين كون ذلك في حال حدوثه سيمثل انكساراً للجيش وانهياراً لرمزية سيادة الدولة .
وأكد العقيد محسن عبد الكريم سنان المأخذي، الاكاديمي العسكري وأحد ابناء مدينة عمران ل "الخليج" أن الصراع المسلح القائم والمتصاعد في العديد من المناطق في عمران في حقيقته لا يدور بين الحوثيين وقوات الجيش ممثلة باللواء 310 مدرع وإنما بين مقاتلي جماعة الحوثي والقبائل الموالية لحزب الإصلاح .
ويشير المأخذي إلى أن المواجهات المسلحة الراهنة بين الحوثيين وقوات الجيش تنحصر في حدود مركز المحافظة (مديرية عمران)، وهو ما يبرر التردد الرسمي في إرسال تعزيزات عسكرية مؤثرة إلى عمران للاشتراك في الحرب المحتدمة ضد مقاتلي جماعة الحوثي لاعتبارات تتعلق بعدم الرغبة في إقحام الجيش في أتون صراع مسلح يرتكز على خلفية ذات طابع مذهبي وطائفي ويدور في مناطق قبلية بين طرفين يمتلكان قدرات تسليحية نوعية وفاعلة .
وأشار العقيد المأخذي إلى أن "الحيلولة دون تقدم الحوثيين في مركز محافظة عمران هو ما يهم الرئيس عبدربه منصور هادي والحكومة كون ذلك سيمثل تهديداً حقيقياً لأمن العاصمة صنعاء؛ فيما عدا ذلك لا الرئيس ولا وزير الدفاع لديهما استعداد لاتخاذ قرار من قبيل اقحام الجيش في حرب واسعة النطاق ومتعددة الجبهات تدور رحاها في مناطق قبلية بين جماعة الحوثي وحزب الإصلاح، بمعنى أدق لا يرغب الرئيس فعلياً في أن يخوض الجيش حرباً بالوكالة عن أي طرف حتى لو كان هذا الطرف شريكاً في الائتلاف الحكومي القائم بموجب استحقاقات المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية" .
جماعة الحوثي . . محاذير واتهامات
خوض الجيش حرباً بالوكالة عن حزب الإصلاح مثل أحد المحاذير التي تصدرت الخطاب السياسي والإعلامي الموجه من قبل جماعة الحوثي التي اعتبرت أن ما يحدث في مناطق جبل الجنات والمحشاش وبعض القرى المتاخمة من مواجهات مسلحة يومية وعنيفة بين قوات الجيش ومقاتلي الجماعة نتاجاً لهيمنة مراكز قوى عسكرية نافذة موالية لحزب الإصلاح على صناعة القرار داخل اللواء 310 مدرع وتكريسها لنفوذها في الدفع بقوات اللواء إلى خوض حرب بالوكالة عن الحزب الذي فقد معظم معاقله في عمران .
واتهم عبد السلام علي ضيف الله وهو أحد الوجاهات الشابة المناصرة والموالية لجماعة الحوثي بعمران في تصريح ل "الخليج" حزب الإصلاح بالوقوف وراء نزيف الدماء المستمر في عمران، معتبراً أن الحزب يمارس ضغوطاً على الرئيس هادي والحكومة لحثهما على إقحام الجيش في خوض حرب واسعة ضد جماعة الحوثي عوضاً عنه وأنه يحاول عبر الترويج لادعاءات من قبيل اعتزام الحوثيين السيطرة على عمران تمهيداً لاقتحام العاصمة صنعاء .
تداعيات التغير الطارئ في موازين القوى
التغير الطارئ والمفاجئ لمعادلة موازين القوى التقليدية في عمران عقب سيطرة جماعة الحوثي على معاقل النفوذ الرئيسية لزعيم قبيلة حاشد، كبرى القبائل اليمنية وما رافقه من تصعيد غير مسبوق من قبل مقاتلي الجماعة للمظاهر المسلحة واستحواذهم على العديد من القرى والمناطق القبلية المتاخمة لحاشد والتي كانت تمثل مناطق نفوذ مغلقة لحزب التجمع اليمني للإصلاح وتقدمهم الراهن صوب عاصمة المحافظة، عزز إلى حد كبير من وجاهة الشكوك بأن الحوثيين بصدد تنفيذ مخطط استراتيجي يستهدف السيطرة على "عمران"، البوابة الشمالية للعاصمة والزحف من خلالها للاستحواذ على المناطق القبلية الواقعة في النطاق الجغرافي لمحافظة صنعاء تمهيداً لبسط النفوذ على كافة المناطق المنضوية في إطار "إقليم آزال" الذي يضم إلى جانب عمران ومحافظة صنعاء مدينة صعدة المعقل الرئيس لجماعة الحوثي وتتويج هذا التوسع المسلح بالسيطرة على العاصمة صنعاء .
مثل هذه الشكوك يستبعدها البعض لاعتبارات تتعلق بتقاطعها مع إدراك قيادة جماعة الحوثي للتكلفة الباهظة لتنفيذ مثل هذا المخطط التوسعي على الأقل في الوقت الراهن .
واعتبر رضوان الهمداني، وهو صحفي ينتمي لقبيلة همدان، إحدى أبرز المناطق القبلية التي شهدت مؤخراً مواجهات مسلحة مع الحوثيين جراء محاولتهم السيطرة عليها أن "زعيم جماعة الحوثي اذكى من ان يفكر بإسقاط العاصمة صنعاء بالعمل العسكري، لأنه يدرك فداحة هذه الخطوة، مبدياً اعتقاده بأن التوسع في المناطق المحيطة بالعاصمة والفتك ببعض الرموز القبلية التي ارتبطت باستقرار ووجود الدولة هي الخطوة الأهم التي تسبق مرحلة اختراق القيادات العسكرية والأمنية وشراء ولاءاتها على المدى القصير والمتوسط هو ما سيمكن جماعة الحوثي من الانقضاض على العاصمة والبلد بأسره لاحقاً" .
ويؤكد الهمداني أنه "فيما يتعلق بعمران كانت مكانتها مرتبطة بقوة الشيخ عبدالله الأحمر وهيمنته على صناعة القرار فيها مسنوداً آنذاك بعلاقة التحالف القوية بينه وبين الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لكن بعد ان تمكن الحوثي من تفتيت المركز القبلي لأبناء الشيخ الأحمر بل وسحق قواتهم في المعارك التي دارت قبل أشهر وأسفرت عن تهجيرهم من قبيلة حاشد التي بات جزء كبير منها تحت وصاية جماعة الحوثي، باتت الجماعة تدرك أهمية السيطرة على عمران لأهميتها بالنسبة لها من الناحية الجغرافية والديمغرافية والمذهبية، وقربها من العاصمة صنعاء التي يرى الحوثي ضرورة أن يكونوا على مشارفها من أكثر من اتجاه" .
من جهته استبعد فهد الأرحبي، وهو أحد الاعلاميين بعمران وموظف بمصنع اسمنت عمران في تصريح ل "الخليج" أن تكون جماعة الحوثي بصدد التخطيط للسيطرة على العاصمة صنعاء من خلال فرض نفوذها وإحكام قبضتها على مدينة عمران التي تمثل المنفذ الحدودي الشمالي للعاصمة صنعاء، مشيراً إلى أن الحوثيين يستخدمون القوة والسلاح لتوسيع دائرة نفوذهم وتحقيق المزيد من الانتشار على غرار ما قاموا به في صعدة، فالسلاح ولغة القوة هما الوسيلتان اللتان يعتقد الحوثيون بأنهما الأكثر جدوى في تحقيق أهدافهم في الانتشار كتوجه ايدلوجي ومذهبي .
ويشير الأرحبي إلى أن "جماعة الحوثي أصبحت مسيطرة على أكثر من مديرية في عمران وليس فقط قرى صغيرة وتمكنت من الاستحواذ على معاقل رئيسة كانت مغلقة على نفوذ حزب الإصلاح"، مرجعاً تمكن الحوثيين من التوسع في عمران لاعتبارات عديدة من أبرزها استخدامهم المفرط للقوة والسلاح وخوض مواجهات مسلحة إلى جانب استغلال تفاقم المشاكل والثارات بين القبائل وغياب الأمن وتراجع حضور الدولة في الكثير من المناطق .
النفي المتكرر من قبل قيادات جماعة الحوثي للاتهامات الموجهة للجماعة بالسعي إلى الانقضاض على العاصمة صنعاء عبر السيطرة على بوابتها الشمالية "عمران" يصطدم بمظاهر التصعيد المسلح للأوضاع في المنطقة وفتح الجماعة لعدة جبهات قتال متزامنة وهو ما تسبب في تصاعد عمليات النزوح القسري للسكان في مشهد أعاد إلى الذاكرة التفاصيل المروعة للتداعيات الإنسانية التي أفرزتها حروب صعدة الست حيث لايزال الكثير من سكان المناطق التي شهدت معارك مسلحة بين الجيش والحوثيين مقيمين بشكل اضطراري في مخيمات إيواء تفتقد للحد الأدنى من الخدمات الأساسية .
نازحون جدد
اتساع نطاق المواجهات والمعارك المسلحة بين الحوثيين والقبائل الموالية لحزب الإصلاح ووصول شرارة العنف إلى عاصمة المحافظة، دفعا الكثير من الأسر إلى النزوح الاضطراري والقسري من منازلها وقراها لتمثل العاصمة صنعاء ومدينة حجة المجاورة لعمران ومنطقة أرحب ثلاث وجهات متاحة تتوزع إليها حشود النازحين الأمر الذي يفرض تداعيات إضافية على واجهة المشهد الإنساني في اليمن .
واعتبر ناصر عبد العزيز المخلافي وهو منسق محلي يعمل في إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية العاملة في مجال الإغاثة الإنسانية في اليمن في تصريح ل "الخليج" أن الأوضاع الإنسانية في اليمن متأزمة أصلاً ولم يكن ينقصها إضافة مشكلة جديدة كالتي طرأت عقب ارتفاع أعداد النازحين من عمران جراء أحداث العنف والمواجهات المسلحة القائمة والمتصاعدة .
ويشير المخلافي إلى أن استمرار المعارك بين الأطراف المتصارعة في عمران سيترتب عليه المزيد من التفاقم للأوضاع الإنسانية في اليمن في ظل شح الإمكانات ومحدودية القدرة على تقديم الحد الأدنى من الرعاية اللازمة للنازحين .