ما إن هدأت التحليلات قليلاً حول فرص نجاح وفشل محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، حتى انهالت التساؤلات والتكهنات حول تفاصيل ما جرى وكيف تمكنت الحكومة التركية من منع نجاح الانقلاب، والأهم من ذلك كيف نجا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الاعتقال أو الاغتيال الذي خُطط له أن يتم في «مرمريس» بالتزامن مع بداية تحرك الجيش في شوارع اسطنبولوأنقرة. كيف نجا أردوغان؟ منذ الدقائق الأولى لبداية محاولة الانقلاب مساء الجمعة، انتظر الجميع أي نباً عن صحة ومكان وظروف تواجد أردوغان، حيث أجمع المحللون في تلك الساعات القليلة الأكثر حرجاً على أن مصير أردوغان سيحسم الأمر، فنجاة الرئيس تعني إمكانية إفشال المحاولة، لكن اعتقاله أو اغتياله كان سيؤدي بلا شك لنجاح الانقلاب وفرض سيطرته على البلاد وذلك لكونه رأس السلطة التنفيذية في البلاد ولمكانته المعنوية بين أنصاره. عقب ذلك انصبت جميع التساؤلات عن كيفية نجاة أردوغان من محاولة اغتيال مفترضة حدثت في مكان إقامته في منطقة «مرمريس»، ولماذا توجه أردوغان إلى اسطنبول وليس إلى العاصمة أنقرة؟ بالإضافة إلى كيفية وصوله إلى إسطنبول رغم سيطرة طائرات الانقلابيين على أجواء المدينة ووجود دباباتهم على بعد أمتار من مطار أتاتورك الذي هبطت فيه طائرة الرئيس. التفاصيل الأقرب لما حدث رواها الكاتب التركي عبد القادر سيلفي المعروف بقربه من دوائر صنع القرار في الدولة، حيث أوضح أن قائد الجيش الأول أوميت دوندار اتصل بالرئيس أردوغان أثناء تواجده في منتجع بمرمريس وقال له «أنت رئيسنا الشرعي وأنا إلى جانبكم… يوجد انقلاب كبير، الوضع خارج عن السيطرة في أنقرة تعالوا إلى اسطنبول وأنا سأؤمن لكم طريق الوصول والإقامة هناك». ويقول الكاتب في مقاله الذي نشرته صحيفة «حرييت» التركية امس الأحد «بعد الاتصال بقرابة الساعة اقتحمت وحدات خاصة مدعمة بمروحيات مكان إقامة الرئيس لاعتقاله أو اغتياله لكنه كان في ذلك الوقت في الطريق إلى اسطنبول»، يذكر أن أردوغان أكد محاولة الاغتيال هناك، بينما قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم إن خطأ في التوقيت ساعد في نجاة أردوغان، وجرى الحديث عن مقتل 2 من أفراد الحماية الخاصة بأردوغان في الهجوم. الانقلاب كان ضخماً على الرغم من أن التصريحات الرسمية حاولت التأكيد على أن مجموعة صغيرة من قيادات الصف الثاني في الجيش هي من نظمت محاولة الانقلاب إلا أن التطورات وحملات الاعتقال المتواصلة بحق المتورطين في محاولة تكشف عن مشاركة واسعة من قبل قادة الصف الأول وكبار القادة المتقاعدين في الانقلاب الذي أوشك على النجاح في بدايته. فالاعتقالات طالت حتى مساء الأحد عدداً كبيراً من قادة الجيش البري والبحري والجوي، كان أبرزهم قائد عام الجيش الثاني اللواء، آدم حدودي، ورئيس أركانه عوني آنغون، كما تم إلقاء القبض على من يوصف بأنه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة، القائد السابق للقوات الجوية أقين أوزتورك، ومن بين المعتقلين أيضاً قائد الجيش الثالث أردال أوزتورك. كما تم اعتقال القائد العسكري التركي لقاعدة إنجيرليك الجوية في مدينة أضنة والتي تتمركز فيها القوات والطائرات الأمريكية وقوات التحالف الدولي، وسط تأكيدات بأنه أحد العقول المدبرة لمحاولة الانقلاب. وبحسب ما أعلن وزير العدل التركي بكير بوزداغ، أمس الأحد، فإن حوالي 6000 شخص أوقفوا حتى صباح الأحد في تركيا بعد محاولة الانقلاب، وقال «عملية التطهير مستمرة. هناك حوالي 6000 موقوف. سيتجاوز عددهم 6000»، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة، السبت، توقيف حوالي 3000 جندي. 550 من الكوماندوز لم يصلوا أنقرة وضمن أسباب متعددة ساهمت في عدم نجاح محاولة الانقلاب، ما صرح به رئيس بلدينة مدينة دينيزلي التركية من تمكن محافظ المدينة من منع وصول 550 من القوات الخاصة عالية التدريب إلى العاصمة أنقرة للمشاركة في عمليات السيطرة على مفاصل الدولة المركزية هناك. وفي التفاصيل التي نشرتها وسائل الإعلام التركية، كان من المفترض أن تهبط طائرة نقل عسكرية في إحدى الثكنات العسكرية المحاذية لمطار المدينة لنقل وحدات الكوماندوز المدججين بالأسلحة المتنوعة للعاصمة أنقرة إلا أن محافظ المدينة علم بذلك وأمر بتحرك أفشل المخطط. هذا المخطط تمثل في إصدار أوامر سريعة بتحريك عدد كبير من الشاحنات وعربات جمع النفايات التابعة للبلدية لتقوم بقطع الطريق الرابط بين المطار والثكنة العسكرية، فيما أوعز إلى مجموعة أخرى من الشاحنات بإغلاق مهبط الطائرات الأمر الذي حال دون تمكن طائرة النقل من الهبوط، وفي اليوم التالي أُعلن رسمياً اعتقال 550 من قوات الكوماندوز في المدينة وسط تأكيدات أنه في حال تمكنهم في الوصول لكان لهم تأثير كبير على مجرى الأحداث في العاصمة في تلك الليلة. تفاصيل احتجاز رئيس الأركان وحقيقة ولائه في الوقت الذي تصف فيه شريحة واسعة من الأتراك ووسائل الإعلام رئيس هيئة الأركان خلوصي أكار بالرجل الوفي لأردوغان، بدأت أصوات تشكك في ولاء القائد العسكري الأول، حيث رجحت وسائل إعلام تركية احتمال وجود تواطؤ من جانبه مع الانقلابيين. فمنذ الساعات الأولى لمحاولة الانقلاب أُعلن أن رئيس الأركان تم احتجازه بواسطة الانقلابيين، وبعد قرابة يوم كامل أعلنت الحكومة التركية تمكنها من تخليص أكار من أيدي الانقلابيين الذين كانوا يحجزونه في قاعدة إكنجي العسكرية في العاصمة. الشكوك استندت على أن رواية تحريره لم تكن مُقنعة، كما أن أردوغان عين عقب تحريره نائباً له بكامل الصلاحيات وهو من يقوم بتسيير هيئة الأركان بشكل مباشر، كما قال البعض إن أردوغان تشكك في أمره لكنه لا يريد خسارة مكانته الرمزية الآن وبالتالي سمح له بالظهور مجدداً دون القيام بأي دور فعلي بالجيش، وهي روايات لاقت تكذيباً من قبل المقربين من الحكومة والرئيس. لكن أكار الذي شارك في جلسة البرلمان السبت كشف ما قال إنها تفاصيل احتجازه موضحاً أن الانقلابيين حاولوا إجباره على قراءة بيان الانقلاب، واضعين السلاح على رأسه، لكن رفضه لقراءة البيان والتوقيع عليه، أدى بالعناصر إلى تطويق رقبته بالحزام، وشدها، الأمر الذي فسّر سبب الزرقة حول رقبته. وذكر أن رئيس القلم الخاص به، وبعض موظفي السكرتارية وبعض الضباط المقربين منه شاركوا في محاولة الانقلاب ودعموها، موضحا أنه تم بعد ذلك نقله ونقل من معه من الضباط غير الانقلابيين إلى قاعدة «أكنجي»، بعد تقييد أقدامهم وأيديهم، ووضعهم في غرف منفردة، لافتاً إلى أنه لم يتم تقديم أي من الطعام أو الماء لهم ل 20 ساعة متواصلة. الذراع الأيمن لأردوغان في ذروة الانقلاب كان من اللافت جداً بروز شخصية سياسية تركية إلى جانب أردوغان منذ أول ظهور له مع بدء محاولة الانقلاب حتى اليوم، حيث بدا وكأنه الذراع الأيمن والأكثر ثقةً لدى الرئيس في هذه اللحظات التاريخية العصيبة التي مر بها أردوغان وتاريخه السياسي. بيرات البيرق وهو صهر الرئيس، ووزير الطاقة في الحكومة التركية حظي بثقة أردوغان وكان بمثابة ذراعه اليمنى منذ اللحظة الأولى لمحاولة الانقلاب ورافقه في جميع تحركاته وخطاباته، حيث ظهر يجلس بجانبه في مطار اسطنبول ويهمس في أذن الرئيس، وظهر لاحقاً إلى جانبه في خطاب اسطنبول مساء السبت، في الوقت الذي غاب فيه المسؤولون والمستشارون المعتادون عن جانبي أردوغان. والسبت ظهر أيضاً البيرق برفقة الرئيس أثناء صلاة الجنازة على قتلى محاولة الانقلاب في مسجد الفاتح وسط اسطنبول، وتقول مصادر تركية إن أردوغان يثق برأي زوج ابنته إسراء إلى حد كبير، ويحرص على استشارته دائماً قبل اتخاذ أي قرار.