في مثل هذا الوقت من النهار, تكون الحركة في صنعاء قد هدأت تماماً, الموظفون والعمّال قد عادوا من أعمالهم, منذُ ساعتين تقريباً, الساعة الآن عند الثالثة قبيل العصر, حيث يكون أصحاب الكيف قد تموضعوا في مقائلهم, وذوات التفرطة ( المسيّرات ) قد وصلن كلٌّ إلى وُجْهَتِها, وفي هذا التوقيت لا تجد سوى حركة الأيدي, تتنقّل بالريموت كنترول بين قناة أزال, وقناة سبأ, وقناة السعيدة, وكلها تتبارى في تقديم الطرب الصنعاني الأصيل, هذا الفن الذي أقرته الأممالمتحدة, ممثلة في اليونسكو, يوم أعلنت من باريس عام 2013م, أنّ الغناء الصنعاني يندرجُ ضمن روائع التراث العالمي.. أساساً العم عبده مفتون بالغناء الصنعاني منذُ أن فتح عينيه على الدنيا, هذا العجوز الصنعاني لا يعني له شيئاً إعلان اليونسكو, ها هو بمجرّد عودته من المطعم المجاور, قد أسرع كعادته إلى متكئه المُهيّأ في زاوية من مكتب العقار الذي يعمل به, جلس, ثمّ أخرج من جاكتته السوداء (علاقية القطل) الكيس الصغير الممتلئ بوريقات القات وأغصانه الصغيرة, وشرع يحشو فمه منها, ثم أمسك بالريموت يبحث في القنوات, علّه يجد أغنية صنعانيّة يستنشق من خلالها عبَقَ ما تصرّم من سنيّ عمره الفائت, وها هو يتوقف خاشعاً أمام أغنية صنعانية آسِرة ( لله ما يحويه هذا المقام ), يشدو بها على العود وبصوتٍ نقي, المنشد عبد الرحمن العمري.
أستَنَدَ هذا العجوز الفاتن على مرفقه الأيسر, وركز ركبته اليمنى, ومال بظهره على الجدار, وبدأ يُحلّقُ بعيداً بعيداً داخله, مع ذلك اللحن من مقام حجاز اليمن, وهذه الكلمات المجلّلة بقدسيّة خاصّة:
لله ما يحويه هذا المقام = تجمّعتْ فيه النفائسْ حبيب حاز اللطف والإنسجام = حالي الشمائل ظبي آنسْ
في هذه الأثناء, وتحديداً مع ظبي آنس, تدلفُ إلى المكتب فتاتان: مش احنا من آنس يا عم, قالتها هالة بغنّة ساحرة, وضحكت بروج التي دخلت خلفها, وحين لم تجد بروج ما تقوله, راحت تطالع شاشة التلفاز: ابسِري هالة, من ذا يغني لله ما يحوي؟ وقبل أن تتكلم هالة, صاح بهنّ العم عبده: أصَه ياجنّيّات, من انتن؟ ما تشتين؟ ولم يكن أمام الفتاتين إلا أن تراجَعَتا بهدوءٍ للخلف, وجلستا على الكنبتين المتناظرتين, ولاذتا بالصمت, فيما استمرّ صوت العمري:
ما يشرح الأرواح غير المُدام = فلا تكن للكاس حابس واسمع فقد ناداك صوتُ الحمام = من فوق الاغصان الموايس يقول غنّى وا حليف الغرام = وساجل الورْقا وجانس
أغلق العم عبده التلفاز, والتفتَ إليهما: ما تشتين يا بنات؟ قالت هالة: مالك يا عم عصّبت علينا؟ أنا اشتي فيلا مفروشة, ألاقي عندك؟ بس قبلها قلّي ليش نفختْ علينا؟ ما إنْ سمع العم عبده فيلا مفروشة, حتى هدأتْ أعصابه: يا بنتي هذي الأغنية هي من كلمات القاضي أحمد بن عبد الرحمن الآنسي, وما فيه مطرب في اليمن إلا وقد غناها, وهذي أول مرة أسمعها للمنشد عبد الرحمن العمري.
قالت هالة الفتاة الموزونة قدّاً وطولاً ونظرةً: اسمع يا عم, ترى أنا بنت الذوق الصنعاني, وذَيّا المنشد حقك ما عجبني, تشتي الصدق؟ خلّه يعزفها نشوان الصعفاني, ويغنيها حسين محب, واسمع وانطربْ. قال لها: وأين ع تسيرين يا بنتي من الحارثي والمرشدي وفيصل والكبسي؟
كلهم ما عجبوش؟ قالت: إلا إلا عجبوني, بس اشتي اقول لك حاجة, شُفْ, أنا اسمع الحارثي أجْنَنْ, لكن بصراحة ما عجبني أداؤه في لله ما يحوي, والكبسي راح بعده, غناها على نهجه, لكن شفْ كيف غنّاها حسين محب, وهو أكثر واحد يقلّد الحارثي, لكنّه ما قلّدوش في هذي الأغنية لله ما يحوي.
قال العم عبده بذهول: والله يا بنتي إنّش صنعانية أصل, أنا قلت اللي مثلك ما تسمع إلا كاظم الساهر أو ماجد المهندس. انفجرت هالة بتلك الضحكة, ذات المزاج المصري, وقالت: أيش درّاك إنّي ما أكره إلا كاظم الساهر, أنا اسمع الجن ولا اسمع كاظم الساهر.. ما قلت يا عم, ألاقي فيلا مفروشة هنا في حدّه؟ قال: والله يا بنتي ما أقول لش إلا خير, عندي فيلا في شارع صِفْر, منطقة راقية وهادئة جداً, وفرشها أكثر من راقي, لكن أظنها بتكون غالية عليش قوي, صاحبها عايش في السعودية, ما يجي صنعاء إلا مرّة وحدة في السنة, يجلس له يومين أو ثلاثة ويروح. وكم إيجارها في الشهر؟ قالت هالة.
صمت العم عبده قليلاً, وفتح علاقيّة القَطَل وحشا فمه ثمّ قال: هو يشتي ألفين دولار بالشهر, لكن لو تشتيها بنتصل له ونكلمه يساعدش. قالت هالة: طيب أشتي ابسرها الآن, بنوقّف لنا تاكسي يوصّلنا, وعلى حسابي. ربطَ العم عبده مشدّته على رأسه, ونهض إلى المكتب, أخرج مجموعة من المفاتيح, نثرها على المكتب, وأخذ مفاتيح الفيلا, وأعاد بقية المفاتيح, خرجوا من المكتب وأحكم إغلاقه, كانت بروج في هذه الأثناء قد أوقفتْ تاكسي, ركب العم عبده, ثم فتح السائق الباب من الداخل, لتركب الفتاتان, وانطلقوا إلى الفيلا.
هالة وبروج قد عقَدتْ ألسنتهما الدهشة لحظة دخولهما إلى الفيلا, لم تكن هالة تتوقع أن تكون الفيلا بهذه الروعة, ترتيب وأناقة, وتناسق عجيب في المساحات, وفي ألوان الأثاث والديكورات. قالت بروج: أنا اشتي أموت هانا, مشتيش أروّح عاد. قالت هالة: يا اختي فين احنا عايشين؟ اسمع يا عم, قفّلْ علينا هانا وارجعْ مكتبك, ما عاد احنا خارجين من هانا, نزعت كلّ منهما غطوتها عن وجهها, وفتحت شنطتها وأخرجت علاقيّة قاتها, وتربّعن في المجلس مخزّنات, وسط ذهول وحيرة العم عبده, الذي أقبل عليهن ضاحكاً: ما تفعلين يا جنيّات انتن؟
قالت هالة: اجلس يا عم اجلس, خذ هذا القات لك, خزّن ونشتي نتفاهم وع نتفق, وأخرجت جوالها الجلاكسي, وفتحتْه على صوت أيوب طارش:
في سفح صنعا صدفتْ احوم رشا ناشر غاني من الحور أهيف باهي الغُرّة طلعة محياه قالت للقمر سافر والشمس منها وكم كم تكتسي حُمرة وفي الخدود ورد يحمي زهرة الناظر الحسن فيها اجتمع والماء والخضرة
انطرب العم عبده, وتسلطن أيّما سلطنة, وقد تماهت روحه مع صوت أيوب, ووجهي هالة وبروج الفاتنتين, ونسي ما جاؤوا من أجله, وسرعان ما استعاد وعيه, ليقول وبمنتهى الرّقة: خلاص قفلي جوالش يا بنتي, انتو بتستأجروا أو جيتم تخزّنوا؟ قالت هالة: بنستأجر يا عم, نكمل الأغنية وبعدها نتفاهم وع نتّفقْ, الدنيا ما طارت, اسمع بس اسمع, وفتحتْ الجوال:
وإن رنا الطرف في بستانه الحاضر احذر سيوف المقل ترميك بالنظرة وإن تلفّت تغنّى فوقه الطاير والغُصن يسجح على الماء ممتثل أمره يميل نشوان من عذْب اللما ساكر وريق ثغره تحقّق إنها الخمرة فبتُّ أرعى الكواكب للقا ساهر
أغلقتْ هالة جوالها, وقالت: هيّا ما ذلحين قول لي يا عم, ما اسمك انته؟ قال: اسمي عبده, وانتي وصاحبتش أو ما ادري ما توقع لش؟ قالت: أنا اسمي هالة, وهذي صديقتي بروج, هي موظفة في البنك, وبصراحة الفيلا جنان, لكن ايجارها غالي قوي, ما نقدرش عليه, لكني اشتي اعرض عليك عرض. قال: خير, ما قد به من عرض؟ قالت: اشتي استأجرها منك باليومية. قال مستغرباً: باليوميّه؟ قالت: أصبر أكمّل كلامي, ما يدخلها معانا مخلوق, غير أنا وبروج, ومش احنا بنسكن فيها, ولا ننام فيها, ما غير نجي نخزن فيها ونخرج, ومش كلّ يوم, ممكن يوم ويوم, وحتى بروج مش دائماً عملها يسمح إنها تسير معي لهانا, وكل يوم أجي هانا أدّي لك أربعة آلاف, ولقد لقيت مستأجر, تتصل تعلمني, وانا ما عاد أجي, هاه, ما قلتْ يا عم عبده؟ وبدل ما هي مقفلة تستفيد انته منها لغاية ما يجي لها مستأجر, أشتي أوقع برنسيسة يا عم عبده, لا تكسر بخاطري الله يريح قلبك.
هزّ العم عبده رأسه وقال: لا يا بنتي ما يسبرش كذا, هو حقّ الناس أمانة عندي, ابسري شيبتي الله المستعان, يخرَب شي, يضيع شي, لا يا بنتي لا. فتحت هالة شنطتها, وأخرجت بطاقتها الشخصية, وطلبت من بروج بطاقتها, ووضعت معها خمسة آلاف, وقالت: خذ يا عم عبده, وانزل صوّر بطاقاتنا واحتفظ بصورهن عندك, قلّدك الله, لو نقص شي أو خرب شي احنا مسؤولات عنه, ولو جيت يوم ولقيت معانا حتى واحده غيرنا اطردنا, عدّنا بناتك يا عم وطلبناك.
وعلى مضضٍ تقبّل العم عبده هذا العرض, ونزل يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى.. لباقة هالة, وحضورها الذي لا يُقَاوَم, لم يدع له مجالاً للرفض, بل زاد على ما قالته, أنْ عرّج على محلٍ لنسْخ المفاتيح, ثمّ على بقالة, وأحضر لهما كلّ ما يحتاجه المخزّن, وعاد العم عبده إلى عمله, في مكتبه العقاري, أما هالة وبروج, فلم يكن ينقصهما سوى شيشة المعسّل, التي يصعبُ على هالة أن تخزن بعيداً عنها, لكنها تشاغلت عنها تلك الليلة بالرّقص مع بروج طوال تلك الأمسية البديعة, في ذلك المكان الرائع, الذي اكتمل جماله بهما.
لم يكن العم عبده يعرف أنّ الملازم علي الصبري, الذي يسكن العمارة المجاورة للفيلا, يكون ابن عم صاحبها عبد الحميد الصبري, ليس هذا وحسب, بل ويحتفظُ بنسخة من مفاتيحها.