لأسباب وقائية من العمى، لتدهور ملحوظ في دقة بصرها قررت " هي" ان تذهب لفحص الشبكية في مستشفى للعيون في صنعاء. المستشفى بلا ذكر اسمه عبارة عن نسخة طبق الأصل و لكن مصغرة من باب اليمن. الشعب جواهر خام تحتاج فقط لتوجيه قائد واع مستنير، لكن كل الحكام الذين مروا بتاريخ اليمن كانت سياساتهم فاشلة تماما مثل هذا المستشفى بداخله اطباء يرتقون لمرتبة الجواهر و كادر وظيفي يصل لقيمة الدرر لكن بسبب الادارة الجشعة و الطامعة في هل من مزيد من المال، تحول المستشفى الى باب اليمن. دخلت " هي" في ذلك الزحام و التدافع. لا يوجد طوابير منظمة للحجز ، بل الحجز بالذراع ! لا يوجد مساحة خاصة بالنساء و لا موظفة مختصة بالحجز للمريضات الاناث. دخلت " هي" قصيرة القامة ، لم تر قصيري القامة مثلها لأن الطوال كانوا يغطونهم و يحجبونهم عن بعضهم البعض. لم تعرف اين تتجه؟ هناك ناس تتجه الى كل صوب. امام انفها ظهر ، خلف ظهرها بطن على يمينها خصر ، على شمالها كوع . أحست كأنما هو يوم الحشر! ناس تتدافع في كل الاتجاهات. ضمت حقيبتها التي تحوي الفين و خمس مائة ريال و مئات قليلة للمواصلات و اخذتها بشدة اليها. قد صرنا في زمن النشل! كل واحد يخلي باله! ممكن ينشلوك موبايل ،ممكن محاجين اشتريتها لتسد جوعك، ممكن الف ، ممكن ابنك ، ممكن سيارتك ،ممكن ابنتك ، ممكن ساعتك ، ممكن وطنك ، ممكن أي شيء غالي، لأننا في زمن النشل! تأملت الظهور الكثيرة. ما اكثرها في هذا المستشفى! و ليس لليمن و يا للسخرية و لو ظهر! وطني انت بلا ظهر قوي ، تحتمي خلفه من رماح العمالة و المذهبية. يحميك و يدافع عنك و يفتديك. انت بلا ظهر واحد يصد... انت بلا محامي و بلا راع مخلص، وحيد منذ الأزل. انت كرة من امسكها ِلعب!بلا ظهر و لا يد... تنتشلك من مستنقع التردي و الزلل. انت باختصار يا وطني امرأة بلا سند! علمونا في المناهج " حب الوطن" ، نسينا كيف نحب في الفسحة ، و عدنا بعد الفسحة مباشرة شوية بياعين وطن و عملاء يستحقون الفصل! رأت " هي" نساء كثيرات معظمهن يرتدين النقاب ، و قفازين على اليدين ، و فوق العباءة قطعة اخرى هي الجزء العلوي من الشرشف التركي القديم. احكمتم تغطية نساءكم يا رجال اليمن. لا بل كفنتموهن! و تركتم- يا جبناء – اليمن عارية حتى من الجلد! هي سفينة تائهة ،في البحر بلا قبطان و لا سارية. تلطمها الرياح يمين و تركلها الرياح شمال لكن كانت الضربة الأخيرة هي القاضية. دخلت في غيبوبة ، من يوقظها بقبلة الشفاء؟ اما " هي " فلم تكن لا منقبة ، و لا متبرجة و لا مكتحلة! كانت فقط بحوزتها عيناها و انفها و فمها و الذقن! و برغم ذلك التفت الكل اليها نساء و رجالا عند دخولها المستشفى. تفحصتها الجدران و المراوح. وقفت لتشاهدها ملفات المرضى و حتى المصعد استرق النظر اليها من خلف الجدار. كأنما دخلت الى مستشفى العيون برتني سبيرز النجمة الأمريكية!كان مكتب الاستقبال يأخذ شكل هلال مستلقي. يتزاحم امامه الراغبين في الحجز ، كذلك العائدين بفحوصاتهم لعرضها على الطبيب. اما النساء ، و ما ادراك من النساء في اليمن فهن في طرف اسفل الهلال. انهن اشد المخلوقات في اليمن ظلم! ما ان تأخذ سيدة ورقة الحجز باسم الطبيب عليها حتى تنسحب فيهجم على مكانها و يحتله رجل! مش وقت النساء! انه يوم الحشر! اقتربت "هي" و بأدب جم قالت له:-" لو تكرمت اتركوا لنا هذه المساحة الصغيرة لنتزاحم فيها. اصلا احنا مستحيل نزاحمكم انتم الرجال لذلك خلوا لنا هذا المكان الصغير." هز رأسه نافيا ، كأنما هي سألته إن كان راضي عن وضع اليمن؟ نظرت اليها سيدة بامتنان و هي تفسح لها معلقة :- " تعالي خذي مكاني ، لي من الساعة سبع و لا قدرت احجز. تعالي يمكن تخارجينا." اقتربت هي من المكتب الخشبي الهلالي العريض. تأملت الموظف الأوحد. لا احد يساعده. كان موظف مكنة ، يقوم بعمل عشرة موظفون . يأخذ كرت كل راغب في الحجز و يدسه اسفل كومة كروت الحجز لكي يتناولها الواحدة تلو الأخرى حسب الدور. كان يسلم الراغبين في فتح ملف لمريض جديد لكي يعبئها المريض، كان يأخذ فلوس المعاينة و يعيد الباقي للمريض بدقة شديدة. يسلم المريض سند و يحتفظ بنسخة للمستشفى. كان يجيب عشرة اشخاص يقتربون لسؤاله:-" في أي دور الدكتور الفلاني؟" فيجيب :- "في الطابق رقم كذا." كان يفعل هذا كله و عينيه و اذنيه يعملان بلا توقف في كل الاتجاهات. حتى انه سمع سيدة مسنة تئن فقال لها مشفقا:- " ارتاحي يا والده." انه موظف مكنة و اجزمت "هي" ان راتب المكنة لميكن ليتجاوز الثلاثون الفا لا تكفيه زيتا لتشحيم المكنة لكنها برغم ذلك تعمل! هذا ما قصدته حين قلت كادر كالدرر. كان ينجز الكروت بالدور متجاهلا تماما بعض الاشكال الداعشية امامه. لم يكن يخشى صاحبالشعر طويل الاشعث على الكتفين. على هصدر فراغات لرصاص و على خاصرته مكان جنبية اخذوها منه عنوة في الباب و كذلك مكان مسدس. ثوب متسخ قصير ، قدمين منظرهما يبعث على التقزز و التقيؤ. يتشاجر و يمد ذراعه لكي يلفت نظر الموظف حتى ينجز كرته هو اولا فيجيبه بحزم المكائن التي لا تهاب الوحوش:- " بالدور يا اخ." لست ادر في أي ليل كحلي بات الوحوش لنا اخوة. تبا لها اخوة و بئس الصحبة! بالدور... بالدور.... ليت اليمن كان لها في الاستقرار و الازدهار دور.لكن اليمن ظلت للأسف كرة. يلعب بها الهمج بالدور، يتناوبون اللعب و تخسر اليمن في كل دورة! اخيراً سمعت اسمها. اكملت بياناتها و دفعت قيمة المعاينة ثم كما ارشدها الموظف توجهت لفحص النظر بالكمبيوتر قبل الدخول للطبيب. الكل في الطابور أعمى ، من أعمى الشعب في سنة جعله الظمأ و العمى، من أعمى؟ اثناء وقوفها في طابور فحص النظر بالكمبيوتر رأت سيدة متوسطة العمر تكمل الحجز و تحاول الخروج ممسكة بصك النجاة الذي هو ورقة الحجز. من شدة تلاحم الأجساد اكتوت المرأة المسكينة و خرجت نحيلة كالورقة بعد ان كوتها الاجساد. ُفكت مقرمتها ، و سطع بياض مفرقها وكرمشة جبينها ، اما النقاب فوصل اعلى جبينها. من ُشق في الأرض ظهر عفريت دعشوشي صغير في طور فقدان اسنانه اللبنية ، رفع اصبعه مهددا:- " غطي رأثس ( رأسش) يا حده ( حجة." خافت المسكينة و بدأت تجذب مقرمتها من بين اجسام النساء المتلاصقة صارخة فيهن:- " وخرين يا جن ، اشل المقرمة عيرجم فوقنا قنبلة!" استرجعت مقرمتها فلفتها و عدلت نقابها و هي تهدئ من روع الدعشوش الصغير قائلة:-"على طول يا حج!" اكتشفت بعدها هذه السيدة انها اثناء محاولتها الخروج اسقطت ورقة الحجز فأنكفت الأرض بين الصنادل و الشباشب و الجزم تبحث عنها و تتحس الورقة بأصابعها. بدأت "هي" تدمع من شدة مسكنة المنظر. كان الرجال يدوسون اصابع المرأة التي صرخت :-" خلوني القي الورقة ، مالكم هكذا تحتقروا النساء؟" اجابها رجل و هو يمعن في الضغط على معصمها :- " من يحتقر النساء؟ قولي من حقر بالشعب كله؟!!" امسكت تلك السيدة بالورقة و خرجت حبوا من بين الركب. يا وطني اسميناك اليمن . قبلت ان تكون مطية و يصعد فوق ظهرك من ركب! ليت كنت أبي وحر ، اذا استولى عليك همج ، تحولت داخل قبضة ايديهم نار و لهب! لكن للأسف يا وطني للأسف ، اتضح انك صفيح و رجالك صدأ. يتفرجون على العملاء يغزون ترابك و من جبنهم يسمونهم رجال من ذهب! انت وطن انت؟ انت لعنة ، انت سلسلة محن يا يمن. تأملت هي ذلك الدعشوش الصغير وجهه متسخ بالمخاط و يفوح منه رائحة بول. علموه اهله ان صوت المرأة العورة و لم يذكروا امامه ان النظافة من الايمان. علموه ان المرأة و هي امه، اخته ، جدته انما هي عورة. جعلوا منه رجل يفقد سنتين لبنيتين و يخور يلعب كرة تحت المطر و يخور الطفولة و لو يوم خورة! طيب يا رجال اليمن ما دامت حميتكم هكذا حامية لاسعة ، غيرتكم على نساءكم هكذا قوية أين كانت حميتكم حين اُغتصبت اليمن ؟ داعش بات يظهر في اليمن بألف اصدار و اصدار ، و بمختلف الفكر. لكن المظهر واحد. كانت " هي" تعاني من ضعف شديد في النظر. باستمرار ترى ناموس اخضر يتطاير امام ناظريها فإذا لوحت بيديها لإبعاده ظل يطن و لا يروح فقررت المجيء الى هذا المستشفى. جلست تنتظر دورها في غرفة انتظار النساء. جميع من في الغرفة ينتظر أعمى. تدخل سيدة تتلمس الجدار و الرؤوس لإيجاد كرسي شاغر. بالغلط تضغط زر الكهرباء فتطفئ نور الغرفة ، ثم تخرج سيدة بعد ان ينادوا اسمها فتتلمس الجدران و بالغلط تضغط الزر فتعيد إنارة الغرفة. و هكذا ظلت الغرفة ُتطفئ و ُتنار على التوالي. لم يلحظ احد لأن الكل اعمى. فقط هي لاحظت لأنها لم تكنقد فقدت بصرها بشكل كامل. كانت الغرفة مزدحمة بالأجسام و الانفاس حتى اصبحت كالحمام الصنعاني. لم تفكر أي منهن ان تفتح نافذة. قامت " هي" لتفتح نافذة. رأت لصقة على الزجاج عليها علامة اكس لمنع تساقط الزجاج في فترة الحرب الماضية. فتحتها " هي" فتساقط الزجاج جزيئات صغيرة و شهقت كل النساء. خافت "هي" و ترجتهن الا يذكرن من كسر الزجاج لأنها لا تملك الا 300 ريال للمواصلات للعودة الى منزلها. فطمأننها انهن اساسا لم يرين شيئا. سالتهن :-" طيب و لا سمعتين؟" اجبن :-" و لا سمعنا!" اطمأنت و فتحت النافذة الثانية وهشمتها هي الأخرى لكن دخل الهواء و تنفس الجميع نسيم عليل مطعم بشظايا زجاجية . كانت تجلس أمامها صبية بؤبؤ عينيها يروح و يجي يمين و شمال ، سألت سيدة تجلس بجانبها :- " بس كنت أشتي اسأليك ، عاد تعز هله؟" اجابتها سيدة بدينة في زاوية الغرفة و هي تحوقل :-" لا حول و لا قوة إلا بالله ، إلا يا بنتي ، عاد تعز هله ، بس هو انتواضيعتوا البلاد ، من قال لأبتكم تقلوا ( إرحل)." لم يجب احد. كانت الصبية التعزية تمد يدها محاولة مسك شيء لا نراه ، لعلها ترى هي الأخرى ناموس أخضر. دخل مساعد الطبيب مناديا بصوت جهوري:-" عبدو سعيد قائد." حصل للنساء في غرفة الانتظار صدمة، لأنها غرفة انتظار نساء. قالت سيدة :- " ماله ذيه ما يداعي في غرفة انتظار الرجال؟" قالت سيدة اخرى تهامية :- " يمكن المساعد أعمي ، او ان اليمنيين قدم يسموا بناتم عبده!" تضاحكت كل الحاضرات حتى" هي"! ثم تمتمت سيدة صنعانية :- " هم يضحك و هم يبكي. الله يستر علينا و على عمة محمد." أمن النساء على دعائها و لم يصحح احد خطأها. اقتربت منها " هي" و قالت :-" يا خالة أمة محمد مش عمة محمد." انفجرت السيدة الصنعانية البدينة ضاحكة و علقت و هي تعض شفتها :-" اصاه لمن يسنعش ، قلك أمة. إنا لا عاد به لا ثقافة و لا علم . قلك أمة محمد؟ منيه أمة محمد؟ لكن عمة محمد هيذاك عندنا في الحارة. الله يستر عليها و يعينها." صمتت " هي". سألن السيدات بعضهن البعض:-" منين انتوا؟" من صنعاء، تعز، حجة، ذمار، الحديدة، يريم، جبلة، المحويت، صعدة... لم تذكر أي واحدة من اليمن! من اليمن اصلا؟ انه عصر المناطقية ، الحزبية ، المذهبية ، المصلحية ، العملائية ، فلماذا سُتذكر اليمن الوطن الأم؟ دخلت سيدة الغرفة تقول :- " قال التكتور عمى تام ، مابش أمل استضي. بس قال مشو من الشبكية. عميوا الناس كلهم بس مشو من الشبكية! حتى التكتور مشو داري من أيش؟ أعموا ابصارنا الله يعمي ابصارهم، اظلموها علينا الله يظلمها عليهم. قصفونا و حاصرونا و افقرونا و أجوعونا و اخافونا الله ينتقم منهم. الله يفرجها علينا و على عمة محمد." و أمنت "هي " ايضاَ، لا بأس عمة محمد ، عمة محمد المهم ان الله يا ناس يستجيب. لمتابعة قناة التغيير نت على تيلجيرام https://telegram.me/altagheernet