ثمة من يتجاهل المثقف مع سبق الإصرار والترصد، مازالت الأبواب موصدة في وجه المثقف، لقد سئم الركض خلف مؤسسات ثقافية لا تسمن ولا تغني من جوع، كم من الوقت مضى منذ أن انصرف كلية ونفض غبار الخيبة، لا يهمه على أي حال انصرافه عنها، صار يفضل الاعتماد على ذاته في بلد لا يعتمد على ما يمتلكه من مخزون لمدخراته البشرية، سيمضى حيث أراد ولن يتردد في مناجاة الموتى والحنين إلى المقابر حيث ينزف آهاته وأنينه بالطريقة التي تتناغم مع سمو القيمة الفكرية لما يؤمن به، هو الآن يفكر في اللجوء إلى المقاهي الشعبية ليحتفي بمنتوجه الأدبي في حضرة ثلة من المثقفين الأصدقاء. سيظل المثقف مؤمناً بأن سلعته التي يقدمها رائجة، وسيسعى لانتزاع دور مؤسساته لصالح مقهى مدهش، وإن لم يسارع القعود في إنجاز فكرته التجارية ويفاجئ الجميع بافتتاح المقهى الثقافي، مقهى مدهش هذا يسابق اللحظة وتروقه فكرة ملتقى المثقفين في ضيافته، أظنه على المدى القصير سيحظى بشهرة واسعة في الوسط الثقافي والأدبي، إنه أمام هبة يصنعها له القدر إن تمسك بها، سيكون ملاذ المثقف المشرد في ترهات وزارة لا تكترث لأمره ولا تأبه لفجور الخصومة المعلنة بينهما، لقد ساءت العلاقة كثيراً، خيال المثقف وأنسجته الفكرية عصية وتعج باليأس والإحباط، وكبرياؤه يقف في المنتصف ويدفعه للتعالي على محنته في انتظار أن يمحوها الزمن يوماً فيستعيد مجده. المثقف اليوم يحقد على (المقوت) ويتفاقم إحساسه بذلك الغل كلما ساقه الغيظ لحصر ما يمتلكه المقوت من عمارة وسيارة وأطيان الأراضي ويزيد تفاقمه وهو يلحظ النهم الشديد لتأمين المزيد وتوسيع فرص الدخل لذلك المقوت، لعمري..! أنها علاقة تتنامى بمرور الوقت وباستعصاء محنة المثقف، ألمح طيفها في الأحاديث البينية للأدباء والمثقفين والشعراء وفناني الكاريكاتير والفن التشكيلي، ولك أيضاً أن تتأمل شيئاً منها في لوحاتهم وشعرهم وقصصهم المجسدة لمهنة (المقوت) وكيف أنها تبدو أبلغ من أعمالهم الأخرى.. من خلالها ستكتشف بمفردك الكم الهائل لما تختزله من معانٍ جمّة وأكثر عمقاً لظاهرة مخيفة يكاد المجتمع أن يكون ضليعاً في تأجيجها. ينتابني شعور محزن للغاية، تجاه الخيبة والخذلان للمثقف ومشروعه الحالم، عليَّ أن أتحلى بضبط النفس، وأجعل دمي يتحرك في شتاء قارس إلى أن تعود الحياة للمثقف.. ذلك الإنسان الممتلئ بالوجدان والمثالية.. لكنه مازال يقبع في الظل ويستجدي حلمه علَّه أن يلتقيه ولو صدفة...