في العصر الإعلامي والمتميز بكون حروبه مخابراتية فكرية دعائية تسويقية من الطراز الأول، على قاعدة شهيرة تُسمى القوة الناعمة وحروب الجيل الرابع والخامس: الكذب بكافة أشكاله، ومنه التخيل المفتوح، صار استراتيجية كبرى معتمدة وليس مجرد تكتيك من بين تكتيكات عدة، كما كان الكذب عبر التاريخ الإنساني. فكذبة (النظام السابق هو من يقف وراء كل مصائبنا)، هي الكذبة الاستراتيجية لحماية أو لتصديق كذبة (الربيع العربي هو الحل الثوري لكل مصائبنا) والتي تتفرع منها كذبة استراتيجية أخرى، هي كذبة أن الفيدرالية وتقسيم الوطن إلى دويلات هي الحل القانوني لكل مصائبنا، ورغم خطورة وانكشاف هذه الكذبة الأخيرة سريعاً إلا أن حماية خطورتها تتم عبر سلسلة من الأكاذيب المتفرعة من كذبة (النظام السابق هو السبب والمعرقل و..و... الخ) وهكذا حتى حدوث انفصالات رسمية في المستقبل القريب. فعلى ما يبدو ستظل كذبة (النظام السابق هو السبب) وقرينتها (أن الربيع العربي ونسله الفيدرالية هما الحل) مستمرتين حتى عقد من الزمن والمصيبة أنه لا يزال البعض يظن أو يتوهم أو يقلل من مسألة استراتيجية الكذب، ويعتبر أن الغباء السياسي هو من يدفع أطرافاً مثل الأخوان و"الجزيرة" وكلاب الزينة في اليمن، للكذب.. وهذا الكلام خاطئ مائة بالمائة؛ لأن كل ما يحدث في الواقع هو عملية ممنهجة ومنظمة.. وهي، وفق تصوري، أكبر عملية خداع شاملة في التاريخ، فمن كذب لا يزال يكذب ويخطط وينفذ وفق كذبة أساسية وكذبات أخرى فرعية لا تختلف من حيث المضمون!! ولكي نفهم أكثر، فإننا لابد أن نعرف معنى كلمة الاستراتيجية: فهي خطط أو طرق توضع لتحقيق هدف معين على المدى البعيد اعتماداً على التكتيكات والإجراءات اللازمة في استخدام المصادر المتوافرة في المدى القصير. وطبقاً لهذا، فإن الكذب حالما يصبح استراتيجية، فإنه لابد وأن يبدأ بكذبة هي الأم والأب لكل الخطط المرحلية التي تشكل استراتيجية متكاملة لها هدف واحد لا غير؟ فما هي هذه الكذبة التي تعتبر الأم والأب لكل الكذبات المتلاحقة؟ وهل يُعقل أن يُبنى على هذه الكذبات مشروع استراتيجي كبير يتفرع منه عدد كبير من المشاريع الأخرى؟ الربيع العربي - كذبة أساسية استراتيجية إن السؤال المركزي الذي يثبت مجرى الحديث هنا هو: هل حدث تغيير في الوطن العربي للأفضل؟ ما هو هذا التغيير؟ وأما السؤال التوأم له فيقول: هل صدقت هيلاري كلينتون حينما وصفت أحداث الوطن العربي بأنها ربيع عربي؟ وهل صدق الصهيوني المعروف بيرنارد ليفي (عراب الثورات) حينما وصف أن ما يحدث هو ثورة؟ أم كذبنا نحن حينما قلنا في بداية أحداث الماضي إن ما يحدث ليس إلا التطبيق العملي لنظرية الفوضى الخلاقة التي طبقت في القرن الماضي في شرق أوروبا بما عُرف بربيع أوروبا 1968 أو ربيع براغ!!! بالتأكيد كلا، فما حدث ليس ربيعاً وليس ثورة وطنية حقيقية، وإنما خطة ممنهجة استغلت غضب الشعوب في مصر وتونس وليبيا...الخ، ليكون واجهة الانقلاب الكبير في الشرق الأوسط وتأهيله ليصبح "شرق أوسط جديد"، كما أراد بيرنارد لويس!! ومرة أخرى نقول: لقد كان الربيع العربي كذبة استراتيجية سعت من خلالها القوى الإمبريالية لصناعة نظام إقليمي جديد بقيادة تركياوإيرانوأمريكا، يقوم على قاعدة صناعة دويلات عرقية وطائفية، وقلنا إن العمل سيشمل الجمهوريات أولاً ثم الدول الملكية؛ كي تبقى إسرائيل هي القوة الأكبر في المنطقة!! من ينكر هذا ولا يزال يؤمن بأن ما حدث ربيع، عليه أن يتذكر أرقام الضحايا التي نخسرها يومياً من أبناء شعبنا العربي.. لقد خسرنا ما لم نخسره في حربنا مع إسرائيل!! فمئات الآلاف سقطوا!! والجيوش سقطت!! والثروات نُهبت!! انظروا إلى ليبيا، هاهي بعد غزو أوروبي كامل وبتواطؤ عربي جزئي، أصبحت بلا جيش.. بلا دولة، وقد قسمت إلى ثلاث دويلات قزمة تحت لافتة الفيدراليات. وبالنسبة لمصر، فإن الجيش المصري تقرر إعدامه في حرب عصابات مثله مثل الجيش اليمني، ولولا انتباه الجيش الوطني المصري لهذا الخطر، لكان بالإمكان تقسيم مصر طائفياً!! مع ملاحظة أن مصر مخطط لها أن تقسم إلى أربع دويلات فيدرالية!! بالنسبة لسوريا فما يحدث فيها من دمار كارثي فإن الغرض هو صناعة إقليم كردي تحكمه تركيا، وآخر علوي، وآخر سني على حدود فلسطين والأردن، يكون مقراً للفلسطينيين الذين سيتم ترحيلهم من الضفة الغربية!! والمسألة مسألة وقت لا أكثر!! بالنسبة للعراق، فبعد استلام إيران له تحاول أمريكا التراجع عن ما تنازلت عنه بهدف دفع تركيا للسيطرة على جزء من حصة إيران هناك، ولهذا تجري التفجيرات الطائفية بهدف تعزيز نظرية تقسيم العراق طائفياً إلى فيدراليات "سنية وشيعية"، فيما تبقى دولة الأكراد لتشكل دولة قوية متحكمة بالنفط!! السودان هو الأخر جرى تقسيمه إلى دولتين بهدف خنق مصر مائياً ومنع الصين من البروز كقوة عظمى بمنعها من السيطرة على النفط السوداني في الجنوب!! ويجري حالياً التمهيد لفصل دارفور غرباً لجعلها دولة مستقلة بما يحقق خنق الشعب العربي في السودان نهائياً!! في البحرين تتخلى أمريكا عنه وتسحب قواعدها الحامية له، وتوظف منظمات حقوق الإنسان التابعة لمخابراتها، بتأليب الرأي الدولي على ممارسات النظام الملكي هناك، وهذا يأتي كمقدمة لصناعة الشرق الأوسط الجديد والذي ستكون فيه البحرين ضمن حصة إيران!! وما يحدث الآن من تلاق واتفاق بين أمريكاوإيرانوتركيا، دفع بدوره السعودية خارج المعادلة الإقليمية وجعلها وحيدة تواجه الخطر الإيراني بعد عزل القوى التي كان يمكن أن تكون إلى جانب السعودية مثل العراق ومصر واليمن!! لقد أصبحت السعودية معزولة مثلها مثل الدول العربية التي عزلت عن التأثير في الخارطة السياسية، وأعتقد أنها الآن في ورطة، فهي إما أن تقبل بالتنازل عن مواقعها في المنطقة لصالح تركيا وإلا فإنها ستواجه عداءً صريحاً من إيران في ظل تراجع أمريكي مقصود!! السعودية هي أهم دولة يجري عليها التخطيط لتقسيمها من أجل إنجاح النظام الإقليمي الجديد.. ولقد تم توريطها في سوريا بما يستنزفها مالياً وسياسياَ!! ولذلك لجأت إلى تقوية مصر عن طريق دعم الجيش المصري وذلك في محاولة للحفاظ على معادلتها في معادلة النظام الإقليمي الجديد. لقد تشتت الوطن العربي وتشتت أنظمته الجمهورية أولاً ثم الملكية هي الأخرى في طريقها للزوال!! ومن يعتقد أن النفط سيغير من مجرى المعادلة، فنقول له مثلاً إن الكويت هي الأخرى بدأ التخلي عنها أمريكياً منذ عهد إدارة بوش التي روجت أن المخزون النفطي في الكويت سينتهي خلال عشرين سنة قادمة، وهو ما يعني إمكانية عودة الحرب العراقيةالكويتية وهذه المرة بصبغة شيعية إيرانية كون إيران هي من تحكم العراق الآن!! وما يجري في الكويت من اضطرابات سياسية مستمرة شملها تغيير الحكومات وإلغاء الانتخابات والبرلمان لأكثر من مرة، هو في الواقع محاولة كويتية لحماية عرش الأسرة المالكة من أطماع النخبة الشيعية في الكويت التي لاتكل ولا تمل من محاولات السيطرة على الحكم هناك!!بالديمقراطية أو بالانقلاب!! الإمارات هي الأخرى في مواجهة مباشرة مع إيران؛ بسبب قضية الجزر المحتلة وهي تواجه في الداخل محاولات انقلاب إخوانية تدعمها تركيا علناً وأمريكا سراً بهدف الإطاحة بالحكم الفيدرالي الوطني وتحويله إلى حكومات أخرى، وهذا هو ما دفعها لتقوية مصر وإعادتها إلى الواجهة، وكذا هو ما دفعها لإجراء تصالح مع روسيا الناهضة وإقامة علاقات اقتصادية لم تحدث في التاريخ من قبل بغرض محاولة صنع اختراق في الهجمة التي عليها.. إذن الخليج يواجه حرب باردة لإلغاء كيانه وأكرر ما قلته قبل سنة من الآن للضرورة وهو: (ثمة همس يدور في مكان بعيد، أن المدن الجميلة الخاوية في البحر تم بناؤها لاستقبال الجيوش القادمة من باكستان والهند وأفغانستان وسوريا!! وكل من له مصلحة في النظام الإقليمي الجديد ويريد الاشتراك فيه). بالنسبة لليمن، فإن ما يحدث هو محاولة إلغاء كيانه الوطني بالكامل، بعد تقسيمه وتجزئته، عبر الفيدراليات والأقاليم أولاً، ثم افتعال حروب بين أبنائه ستكون كارثية ومدمرة نظراً لتقدم الأسلحة المنتشرة في أيادي المواطنين ثانياً!! وما يحدث في اليمن خاصة في الجنوب، من إنشاء لجان شعبية بتنسيق أمريكي حكومي بحجة القضاء على القاعدة (مع ملاحظة أن هؤلاء كانوا يعملون مع القاعدة، أي أنهم هم القاعدة)!! الهدف منها تأهيل قوات مدربة تدريباً عالياً في سبيل إعلانه كجيش مناطقي للدولة القزمة القادمة في الجنوب؛ لمواجهة الجيش وهزيمته بعد خلخلة توازنه أفقياً وعمودياً.. وهذا لن يتم إلا بعد انتزاع عقيدة الجيش الوطنية وجعله بلا هوية ومن ثم تشويهه أمام الشعب وإظهاره على أنه جيش تابع لأشخاص ومراكز قوى فيرفضون الدفاع والانضمام إليه وتسهل فكرة خيانته من قبل الأفراد والتمرد عليه لصالح الطائفة والعرق والمنطقة والقبيلة!! إن خطة تقسيم اليمن تبدأ بالربيع العربي مثلها مثل الدول التي استحال على أمريكا تقسيمها والتدخل فيها عسكرياً في السابق؛ نتيجة الوعي الوطني الممتاز، وطبقاً لذلك فقد كان من الضروري أن يجري تضخيم شامل وكامل للربيع العربي وجعله الحلم الجميل الذي يسعى كثير من اليمنيين لتحقيقه والمشاركة في أحداثه الخيالية!! وعدم الإنصات لصوت العقل والركوع والصلاة للإله الثاني وتطبيق كل أهدافه وهو (الإعلام) ومارينزه الذي سيقسم اليمن باسم أن هذا هو الحل. ملاحظة أخيرة: الحوار الوطني فكرة وطنية نعم.. لكن هذا المشروع تم تحويل اتجاهه لكي يكون البديل المناسب لفكرة الربيع العربي التي انكشفت وسقطت وبانت حقيقتها، ولذلك لاحظوا أن الحوار الوطني تبنى مشاريع غير وطنية ولم تأتِ من الواقع الوطني ولم تلبِ متطلباته وحاجاته وما يتبقى لكشفه هو أن يعترف الكاذبون السياسيون أنهم كذبوا حين قالوا إنه ليس حواراً وطنياً.. وهذا بنظري يحتاج لحركة جماهيرية قوية تسقط كل الادعاءات قبل ذهاب اليمن لمقصلة الفيدرالية في الأيام القادمة، ما لم فإننا نكون قد قمنا بصب الرصاص على رؤوسنا. * صحيفة "المنتصف"