لايمكن أن تؤسلم المرأة إلا بعد مرحلة طويلة من تموضعها في الوعي الذكوري، بوصفها موضوع فعل لهذا الوعي، وليست فاعلاً فيه؛ لأن الأسلمة تستلزم فاعلاً من خارج الموضوع المؤسلم، يمنحه هذه الصفة، على افتراض افتقاده لها. ومن ثم، فأسلمة المرأة، مرحلة تأتي بعد شيئنتها، وسلبها البعد الإنساني، على مستوى الوعي بها، سواء ظهرت مؤشرات هذا الوعي على قسمات السلوك العام، أو كانت كامنة في بنية الوعي، لا يمكن استنطاقها إلامن خلال اللغة، واللغة حدها، تلك المعجزة التي لا تملك إلا أن تبوح بأسرارها. وإذا كان الطرح لهذا الموضوع العام، وفي هذا الوسيط الإعلامي، يستلزم أن تكون الأولوية لمقاربة الراهن المتعين، في أية قضية يتم تناولها، فإن معاينة اشكالية المرأة في المحلي خاصة، والإسلامي عامة، يجعل الاهتمام يتجه - في أكثره - إلى مظاهر السلوك المتعين. مما يعني أن القراءة لمثل هذا الموضوع، تتناول ما هو معلوم ومشهور، فيما يخص الظاهرة محل الاهتمام؛ ليكون الانفعال به عاماً إلى أقصى درجة يسمح بها الشرط المعرفي. وبما أن اشكالياتنا لا يمكن معاينتها بخطاب مناهض لمنظومة المفاهيم الإسلامية؛ لإسلامية المعاين والمعاين (بالفتح والكسر)، فإن الانطلاق من داخل ما هو في المحيط الإسلامي واقعاً وثقافة، ضروري لأكثرمن سبب. وإذا كان هذا في اشكالياتنا العامة، فلاشك أن اشكالياتنا الخاصة، الضاربة في العمق الوجداني والتراثي، أولى بأن يدلف إليها من هذه الزاوية. من هنا، فإن مقاربة الخطاب الإسلامي في بعديه: الواقعي والثقافي، أولى من غيره في هذا السياق؛ لأن موضوعاً كموضوع (المرأة) لا يمكن أن تأتي الحلول - أياً كانت مرجعيتها النهائية - إلا من خلاله، وبواسطته. وكل حل من خارجه، مهما حقق من نجاح آن، فإنه عرضة للانتكاس على مستوى الحراك الاجتماعي، فضلاً عن الرفض الكامل، حتى ولو استطاع استقطاب الاهتمام في سياقات زمانية ومكانية خاصة، بل، حتى ولو كان منطقه يتكئ على شواهد الواقع المادي المتعين، وجدواها المتحققة بما لا يمكن انكاره. والذي لا شك فيه أن الخطاب الإسلامي المعاصر، يعاني - في مجمله - من تأزم واضح فيما يخص (قضية المرأة) لا في بعدها الحقوقي خاصة، وانما في كافة أبعادها. وإذا كان هناك بعض أطياف هذا الخطاب، تلك التي تحمل في ثناياها بعداً تنويرياً، يريد - بحق - فك القيود التي قيدت فاعلية المرأة في المجتمع، فإن هذه الأطياف التقدمية لا تحظى بما تحظى به الأطياف المتطرفة من قابلية ورواج، رغم ما تبذله من جهد وتضحية في سبيل المبدأ الإنساني، ليس الحصار المادي والاجتماعي بأهونها شراسة. إن الاتجاهات المتطرفة، إذ تسبح في بحيرة من مفاهيم تاريخية آسنة، فإنها تعجز عن معاينة عصرها كما هو، بشروطه الزمانية التي يستحيل أن تتفاعل مع تلك المفاهيم التي أنتجت في الماضي؛ لتكون حلولاً لذلك الماضي الذي انبثقت فيه من خلال جدلية المتعالي والواقعي فيه. وإذا كانت مظاهر التأزم لدى هذه الاتجاهات المتطرفة لاتخفى من خلال ما نراه من اصطدامها الدائم بالحضاري، في معظم صوره، فإن هذا التأزم يظهر على نحو جلي في خطاب هذه الاتجاهات، عندما تحاول الاسهام في المسألة (النسوية)، بحيث رأينا اسهامها فيها لا يعدو كونه اسهاماً في السلب لا غير. انه مجرد عودة بها إلى أدغال التاريخ، لتنقلب الآية؛ فيصبح الماضي مستقبلاً يراد له الرجوع، وهذا مستحيل، إلا في خيال وعي مأزوم. لقد حاول هذا الخطاب أن يهرب من الواقع الذي يواجهه بمعطيات المعاصرة، والتي هي - في الوقت نفسه - من شروط (التمكين) الذي يتربع في وعيه، كبعد استراتيجي لمجمل سلوكياته. انه - أي الخطاب المتطرف - يتوق إلى الهيمنة على مناحي العصر، ولكنه - في الوقت نفسه - يرفض هذا العصر دون أن يعلم!، برفضه شروط الاندماج فيه، يرفض هذه الشروط التي هي بذاتها جوهر المعاصرة، ولا معاصرة بدونها. هذا الخطاب المتطرف في كافة رؤاه، وفي رؤيته للمرأة خاصة، يمارس تطرفه فيما يخص المرأة، بواسطة طرح جماهيري رائج في أوساط مراهقة اجتماعية في شعورها المتأسلم. ورواجه ليس لأنه ذو بنية معرفية تمتلك اتساقها الاستدلالي، وانما لضربه على أوتار الوجداني من جهة، ولاختزاله هذه المسألة المتعددة الأبعاد في بعد واحد، بحيث يتساوق مع طبيعة التلقي الجماهيري البسيط، بدل أن يسبقه فيخسره! ومن يتأمل طبيعة هذا الطرح، يجد أنه في (معالجته!) لقضية المرأة، وخاصة في هذا الوقت، يمارس انغلاقه بطريقتين: الاولى: التشريع للانغلاق، بطرح خطاب مناهض للطرح المنادي بحقوق المرأة، ووصف هذا الخطاب الحقوقي بأوصاف شتى، تمسه أو تمس الشخصيات التي تحاول تفعيله اجتماعياً ومعرفياً. وهذه الأوصاف لا يراد منها مطلق الحقيقة بقدر ما يراد منها التنفير من كل أطروحة عصرانية لا تتوافق مع رؤى التطرف. فالذي يقوم به (علماني، منافقو هذا الزمان، دعاة التغريب، أعداء الإسلام.. إلخ) وهي أوصاف تطلق على هذا الطرح الحقوقي، كما تطرح على رموزه. وهذا الطرح المناهض للطرح الحقوقي هو الطرح الذي لازم ردود الفعل لتيارات التأسلم في الغالب، منذ أن طرح قاسم أمين رؤيته في اشكالية المرأة، ودعا لتحريرها من واقع مروع، تلك الرؤية التي اثارت رد فعل الاتجاهات المحافظة، بما فيها الاتجاهات المتطرفة، والتي بلغت أقصى درجاتها في واقعنا المحلي، وفي الواقع الطالباني البائد، وذلك في تعاطيها مع المسألة النسوية خاصة، كجزء من حقيقة القابلية للتطرف. ويتضح أن هذا الطرح في مجمله لم يستشعر أهمية الحلول للطارئ والمستجد، والذي هو التحدي الحقيقي له، بقدر ما استشعر أهمية ابقاء الراهن على ما هو عليه دون تغيير؛ نتيجة عجز عن التحدي من جهة، وتحجر في الرؤية من جهة اخرى. بهذه الممارسة السلبية؛ تحولت طبيعة المعاينة لاشكالية المرأة في الخطاب الإسلامي المحافظ، من طبيعة يفترض أنها ذات بعد نقدي، إلى طبيعة لا تتعدى قصائد نثرية فاشلة: قصيدة في المديح، وقصيدة في الهجاء. مديح - بغيرحساب - للأنا وما دار في مداراتها، وهجاء للآخر وما تقاطع معه، بحيث ظهرت المرأة لدينا، وكأنها قد تجاوزت الحد الادنى المتمثل بالاعتراف - اعترافاً واقعياً لا دعوي - بانسانيتها،إلى تمتعها بأقصى مستويات الحقوق الإنسانية. وفي المقابل، ظهرت المرأة لدى الآخر موضوع الهجاء، وكأنها لم تكافح، ولم تحصل على أي حق في منظومة الحضارة المعاصرة التي شاركت في صنعها، بينما مشاركتها دليل على أنها تحتل فيها موقع الشريك. صحيح أن بعض أطياف الإسلامي، طرح ما يمكن أن يعد بداية لا بأس بها؛ لتجاوز الوضع البائس للمرأة، إلا أن هذه الأطياف التي تمارس الاستنارة، عبر فاعليتها الثقافية - المتواضعة - مع منظومة الآخر، لازالت محدودة الأثر، في المحيط الإسلامي؛ لأن الجماهير قد انقسمت إلى قسمين: جماهير غافلة، لا تعني بالمسألة النهضوية لا من قريب ولا من بعيد، ومن ثم لا تعني بالسؤال الإسلامي جملة. وقسم ثان: جماهير تساق بالوجداني لا المعرفي، ويكاد خطاب التطرف أن يلتهمها. الثانية: رفض أن تكون للمرأة قضية. وهذه الطريقة بدأت تظهر بشكل واضح في الميدان أخيراً؛ نتيجة العجز المعرفي الذي بدأ يحس به هؤلاء تجاه خطاب الحداثة. ويرى هؤلاء أن قضية المرأة قضية مفتعلة من أساسها!! لأنها - بزعمهم - لا وجود لها، طوال القرون السابقة، ولم تكن المرأة في التاريخ الإسلامي موضع إشكال. ولا شك أن عدم كون المرأة موضع اشكال في التاريخ الإسلامي، لا يعني أنها لم تكن تعاني من اضطهاد ما، وانما يعني أن الإحساس بالمشكلة كان معدوماً؛ لانعدام البعد الإنساني في مجمل سياقات الفكر الإسلامي، الفكر الإسلامي المؤثر، وليس ما يعد - أو كاد أن يعد - خارج سياقات الإسلامي. ومن هنا، فإن هذه الطريقة التي تريد تبرئة الواقع الإسلامي من اضطهاد المرأة، بتبرئة التاريخ الإسلامي من اضطهاد المرأة، لا تزيد عن أن تكون ادانة صريحة، واعترافاً مسجلاً، يؤكد أن المرأة كقضية إنسانية كانت خارج الوعي الإسلامي في الماضي والحاضر؛ لأنه كان وعياً ذكورياً من جهة، وغائباً، إزاء هذا البعد الإنساني خاصة، من جهة اخرى، ومن ثم كان يستحيل عليه الوعي بهكذا قضية، فما لجرح بميت إيلام. إن القضية (النسوية) قضية حاضرة في العالم أجمع، حتى في الحضارة التي حققت المرأة فيها انجازاً لا يستهان به على مستويات عدة؛ لكونها تجمع حزمة من الإشكاليات المتداخلة مع الإنساني العام.. وإذا كانت القضية النسوية حاضرة في عالم متحضر يعترف بالمساواة ابتداءً، فإن قضية المرأة لا يمكن أن تغيب في مجتمعات مازالت حائرة، تجاه تحديات المعاصرة واشكالياتها، ومنها تحدي النسوية على وجه الخصوص. إن الهروب من المشكلة لا يعدو كونه سلوكاً جباناً، يعكس حالة التيه الحضاري، بأكثر مما يعكسه من سلوك الخور والضعف في خطاب ما، يعجز عن تقديم البديل (الحضاري)، البديل الحضاري، وليس أي بديل. وبعيداً عن الخطابات التي لم تعانق الواقع - على أهمية قراءتها - وكيلا يظن البعض أننا نطرح خطاباً ينفصل عن الإسلامي، فلا ضير أن نلتفت لنموذجين إسلاميين معاصرين زمنياً؛ لنرى كيف تعيش المرأة، وكيف تمارس فاعليتها الحضارية في نظامين متأسلمين، ولكن، كل بطريقته. وهذا لا يعني عدم وجود بيئات اخرى مؤجلة بخطاب إسلاموي، يمكن أن تكون مادة قراءة، وانما يعني أن هذين النموذجين منفصلين عنا من جهة، ويطرحان ممارستهما، بوصفها السلوك الأمثل للمسلم المعاصر، سواء ارتفعت حدة هذه الدعوى أو خفتت. النموذج الأول: يظهر في الإسلام الماليزي، مقابل النموذج الثاني: الإسلام الطالباني. والمقارنة بين إسلام ماليزيا وإسلام طالبان شغل كثيراً من المعنيين بالفكر الإسلامي المعاصر، ليس الأنصاري وجلبي بآخرهم. وبديهي أن الإسلام واحد في جوهره، وانما الإضافة تعني أن التأويل، والممارسة المتعينة، ليست هي ذات الجوهر، بل هي بكل تواضع مجرد تأويل، وتجربة بشرية اجتهادية، وان ادعت لنفسها أكثر من ذلك. المرأة في ماليزيا دخلت ضمن اطار الفاعلية الحضارية، برؤية منفتحة على الآخر، دون عقد، كما هو واقع الحال العربي المليء بمعقد لا حصر لها تجاه الآخر. وهذا - في ظني - راجع لأن العربي يتأبط تراثاً معجوناً بعادات وتقاليد و... الخ. بينما الماليزي يقرأ الإسلام بعيداً عن دعاوي التفوق القومي، الذي له الصدر دون العالمين أو القبر!. ولا يستطيع أحد أن ينكر- مهما كانت تحفظاته على التجربة الماليزية - أن المرأة ليست هي المرأة في العالم العربي. تختلف التفسيرات في أسباب ذلك، لكن الواقع يشكل أنموذجاً ناجحاً لا يمكن تجاهله. وليس المقام مقام تشريح لتلك التجربة، بقدر ما هو مقارنتها بنموذج آخر، نموذج يطرح من قبل خطاب التطرف. وهذا هو ما يعنينا هنا بالدرجة الأولى. والإعجاب بوضع المرأة في النموذج الماليزي في الجملة، لا يعني الإعجاب بكافة أبعاد التجربة، والتحفظ ليس إسلامياً فحسب، وانما لأسباب اخرى. كما لا يعني أنها - من منظورنا الخاص - لاتنطوي على أخطاء. لكن هذه الأخطاء، اما أن تكون منوطة بالمسؤولية الفردية لا المسؤولية العامة، وإما أنها جزء من (بشرية) التجربة. ويبقى أننا لا نسعى لاستنساخ التجارب، مهما كان مصدرها؛ لانه يستحيل استنساخها، فالتجربة تصنع بإبداع ذاتي من داخل الأنا، بعد الاستفادة القصوى مما أنجز الآخر. النموذج الثاني: هو النموذج الطالباني. ولسان الحال في النموذج الطالباني أبلغ من لسان المقال، حيث العودة بالمرأة إلى غياهب العصور الوسطى، وممارسة الوأد بحقها على أكثر من مستوى. وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان. لكن الذي ينبغي الالتفات إليه، وقراءته بعمق، هو علاقة الاندحار الطالباني بهذا الموقف من المرأة. طبعاً ليست العلاقة مباشرة، أي أن طالبان لم تندحر لأنها تضطهد المرأة، وإنما لأنها تعاملت مع المرأة، ومع الأفغان، ومع العالم بنفس الذهنية الماضوية الكسيحة التي أرادت بها أن تقيم دولة القرن الثاني والثالث في القرن الواحد والعشرين. هذه الذهنية الطالبانية اندحرت في أفغانستان، لكنها - وهذا محل الاشكال - محل اعجاب تيارات التطرف لدينا، بحيث يكاد أن يكون النموذج الطالباني، بكافة أبعاده، هو النموذج المثالي - على مستوى المتعين الممكن - في خطاب التطرف المحلي. وهذا يعني - باختصار -أن الكيانات التي في مخيالهم، والتي يتمنون أن يروها قائمة في يوم من الأيام، كيانات طالبانية، ومن ثم، فهي كيانات قابلة للاندحار السريع، كما حدث لطالبان؛ لأنها تشكل ضد منطق العصر. كلا التجربتين - أو النموذجين - ذات منحى إسلامي، اتفقنا معه أو اختلفنا. لكن ما يهمنا بالدرجة الاولى، أي النموذجين نقارب ونستشرف، ونضعه في مخيلتنا في للمعاصرة، أي النموذجين تختار المرأة لدينا: المرأة الماليزية، وما يدخل في سياقها من نماذج المرأة المسلمة لدى الجاليات الإسلامية في الغرب،أو المرأة الطالبانية المغلوبة على أمرها، وما أشبهها، ممن لا تزال تعيش في دركات الانحطاط، ولا ذنب لها إلا انه واقع مفروض عليها من قبل الرجل؛ لمجرد كونها أنثى. وأخيراً، تبقى قضية المرأة في أي مجتمع، مؤشراً يكشف الكثير من المخبوء، والمسكوت عنه. وليس هذا النموذج (أسلمة المرأة) الا نموذجاً لأسلمة أكثر من قضية، مازلنا نترنح ازاءها، خطاباً وممارسة.