المكان : مدينة الهجرين التاريخية في حضرموت الزمان : ضحى يوم الجمعة بتاريخ 10/6/1432ه الموافق 13/5/2011م الحدث : وفاة المربي الفاضل الإستاذ الإنسان أحمد حسين بن جعفر بن شعيب – يرحمه الله – عن عمر يناهز أل ( 60 عاما ) قضى معظمه في حقل التربية والتعليم . كان إتصالي الهاتفي - شبه اليومي - المعتاد على غير العادة ..!! رفعتُ السماعة لأتحدث إلى من أتحدّث إليهم دوماً عبر الأثير ، فإذا بي أتجرَّع سماع الهدير والزفير ، هدير الحسرة وزفير الحزن والألم ، ولم أشاء أن أتلقى الخبر ، بهكذا مفاجأة ..!! قيل لي بأنه كان قد صلَّى الفجر جماعة ( بمسجد الزهراء ) ، وظل مع رفاق العبادة إلى بعد الإشراق ، وكأن شيئاً لم يكن ليحدث ..!! ذهب إلى بيته راجلاً بكامل صحتّه اليومية ، ولم يكن ( أهل المسجد بمن فيهم سيدي الوالد أطال الله في عمره ) على علمٍ أنهم لن يلتقوه ثانية في هذه الفانية ، ولم يكن هو أيضاً يعلم أنه لن يعود ثانية إليهم ..!! هكذا شاءات الأقدار ، إختطفته من بين ثنايا الحنان والأمان والهدؤ العائلي الأسري ، ومن أشتات ( الهجرين الغابرة ) إلى سماوات الدفء والرحمة والضيافة الربانية الغامرة ، ومن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ..! إنتقل الحبيب الغالي والسيد المثالي والمربي الفاضل والأستاذ ( الكامل ) – والكمال لله – الأب أحمد بن حسين بن جعفر بن شعيب - يرحمه الله - إلى جوار ربه ، بعد رحلة مع الكفاح الطويل والوفاء الجميل ، وخلَّف لأهله ومحبيه وبلاده ثروة هائلة ومنظومة رائعة من الأبناء والأخلاق والقيم والمفاهيم والمبادئ العظيمة السامية ..!! أتذكَّره تماماً عندما كان يقول ( عظيم ) مؤشراً بإبهام يده اليمني لمن كان يبدع في تقديم الجواب المناسب للسؤال المطروح من لدنه يرحمه الله ، و(عظيم) تأتي من عظمة إنسانيته الفذة ، وتقديره ومحبته للآخرين ، وفي مقدمتهم طلابه وتلاميذه . وأتذكَّر تماماً إبتسامته العريضة التي كان يبعثها من قلبه الأبيض الكبير في شتى الظروف – حتى العادية منها - .!! وأتذكَّر تماماً – ويتذكَر جميع من كان معي - أننا عندما نقوم بأي خطوة أو مبادرة أو جهد معين فإننا نستشيره ونضع رأيه في مقدمة الأراء ، لأنه كان من المتواضعين الذين يأتون إلينا قبل أن نذهب إليهم ، بل كان يستلهم فينا شيئاً لم نكن لنعلمه ..!! ولعل ذلك ينبع من رؤيته الثاقبة ، ونظرته العميقة ، وخبرته العتيقة في قراءة مستجدات اللحظة بتمعّن ورويّة ، عشقاً وحباً وهياماً في تحقيق الحد الممكن لحصول الهجرين واهلها على ماينبغي ..!! ولأنني في المهجر حالياً فإن إلتقاطات الذكرى بعيدة عن متناول اليد لكن العشم في الزملاء الأوفياء من شباب الهجرين الذين نراهن عليهم حفظ الحقوق ..!! وأتذكر تماماً – أيضاً – أنه كان يرحمه الله يتابع بدقّة متناهية كل مانعمل - كشباب - ، وكان يتابع ويقرأ لنا دوماً ويحرص على إقتناء والحصول على أي وسيلة نبث فيها بوحنا وخواطرنا ونزف مشاعرنا الفياضة ، لأنه يدرك جيداً أن على المعلم والمربي أن يتحقق من نتاج غرسه ، حتى يطمئن على أن جهوده ومساعيه تؤتي أكلها بإذن ربّها ثم بالعناية والمتابعة ، ومن هنا يتجلّى العطاء المستمر داخل وخارج مرفق العمل ، فتجده في البيت وفي المدرسة وفي المسجد وفي الشارع ذات الرجل وذات القيمة وذات الإبتسامة وذات الإسلوب وذات النظرة الواعية الحانية ..!! وأتذكَر تماماً ويتذكر معي أهل الهجرين قاطبة أنه عندما تعرّض يرحمه الله لوعكة صحية مباغتة قبل فترة ، عاشت الهجرين حالة حزن عميق خوفاً منهم على أن يحدث له أي مكروه لأنه كان يشكّل صمام أمان مسيرة التعليم المعاصر في المنطقة ، ويعتبر صاحب الرأي السديد الذي يتم الرجوع إليه في حل الكثير من الإشكالات حتى بعد أن ترك منصب ( المدير ) ، ولعل أكثر مايؤثر في النفس ويزيد من محبته يرحمه الله ، انه ظل يؤدي رسالته ولم يرغب في ان يحمل لقب المعلم السابق ، لدرجة أنه رفض الإحالة على التقاعد أو التفريغ من العمل بحجة العارض الصحي الذي ألمّ به ، في الوقت الذي يسعى الأصحاء من بعض الموظفين ويتهافتون لنيل ذلك بأوهام وأعذار أوهى من خيوط العنكبوت ، بينما هو يستحق الراحة ، لكنه أبى ذلك يرحمه الله ..!! كم هو عظيم في قلوبنا وكم هو كبير في أعماقنا وكم هي الهجرين تفتقده وتحتاج لمثل روحه الطاهرة البهية ، ونتمنى ان يمنّ الله على الهجرين برجال يحملون ولو الحد الأدنى مما كان يتحلى به يرحمه الله . لن أكثر الحديث عن مناقب وإنجازات الفقيد الغالي ( أحمد جعفر يرحمه الله ) ، لأن كافة أهل الهجرين يعترفون له بالفضل ويدينون له بالإمتنان ، كونه من أوئل التربويين الذين حملوا رسالة التعليم على عواتقهم بكل أمانة ومسؤولية وحرص وإخلاص ، في مدارس البنين والبنات على حدّ سواء . رحلت يا أبا محمد وفي دواخلنا بقية كلام وبقايا أحلام ، لكننا سنظل نهتدي ونقتدي ونسير على ضؤ شموع المحبة الخالصة التي زرعتها فينا لوجه الله تعالى وستبقى أفئدتنا قبل ألسنتنا تلهج بالدعاء لك وتترحم عليك ، ولتصفح عنا إن أسأنا الادب ، ولتسامحنا على قسوة قلوبنا وإنشغالنا بحياتنا ، لكننا نعاهدك الله أننا لن ننساك ولن نغفل عن ذكر محامدك وكريم صفاتك ، يامن كنت لنا - وستبقى - نبراسا حقيقياً إستفدنا منه وتشكّلت أرواحنا على منوال روحك الطاهرة . أتمنى أن لاتُصنَّف هذه الأحرف اليتيمة بأنها سيرة ذاتية أو شهادة أو إشادة أو شيء من هذا القبيل ، لأنك اكبر من كل ذلك ولأن من أراد الحديث عنك لن يتمكّن من الألمام بكل خيوط وتفاصيل حياتك المشرقة ، وما نزف بوح خواطرنا إلا مجرد إستلطاف وإستسماح وإستذكار لمواقف عابرة بقيت في أعماق الذاكرة ، واسترجعها الأستلهام المختلط بالحب والشجن لروحك الهانئة وطيفك الميمون الذي لن يبارح محيَّاء الهجرين ، ومخيّلات أهلها ومنهم العبد الفقير الذي يعزي نفسه فيك ويعزي كافة الأعزاء وفي مقدمتهم أولادك النجباء محمد وجعفر وحسين ، وبناتك الشريفات الطاهرات وعائلتك الكريمة الحشيمة ، ونبتهل إلى الله تعالى أن يقيك فتنة القبر مصداقاً لقول الحبيب المصطفى : (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) وأن يجعلك في روضة من رياض الجنة ، ويرزقك مرافقة النبي الكريم ويكرمنا بلقائك في جناته جنات النعيم ، ويمنحنا ووالدينا وأحبابك وأحبابنا حُسن الخاتمة – بعد عُمر طويل - مثلما نلت أنت ذلك بفضل الله وجوده وكرمه وتوفيقه . وبإذن الله تعالى إن أسعفنا قطار العمر فإننا سنعمل وسنسعى جاهدين على القيام بكل مانستطيع مما يجب فعله مما تتمناه في حياتك لأحبابك ، ومما تستحقه من بعد وفاتك ، وماعلى أهل الهجرين إلاَّ الإلتفاف والإلتفات لإحياء مناقبك ومواقفك وتخليد ذكراك العطرة ، لتستفيد الأجيال اللاحقة من سيرتك الأبوية التربوية الطيبة التي ورثتها من أسلافك الكرام وظللت خلالها الإنسان الكبير الذي أخلص في عبادته لربه ثم أصدق في معاملته لكل من حوله من أرض وإنسان إبتغاء رضوان الله تعالى في علاه . ولعل أول بادرة نطلقها في هذا الإتجاه دعوة صريحة يتبناها من يتبناها ويحققها من يحققها ممن يوفقهم الله ، بأن يتم إطلاق إسمك على مدرسة ( 17 سبتمبر بالهجرين ) لتصبح ( مدرسة الفقيد أحمد بن حسين بن جعفر بن شعيب ) ، لأن فضاءات المدرسة وأرواح مرتاديها لن تهنأ ببعدك عنها مابقي الدهر ، ولأن أفضالك على المدرسة وتاريخك المشرّف بها ، يوازي أضعافاً مضاعفة ما تعنيه التسمية الرمزية لها بأي مسمى كان ، وهذا لعمري إحساس الجميع وأقل القليل الذي تستحقه ونقدر على فعله ، ونضعه على عاتق من يجد في نفسه إستحقاق نيل شرف ذلك من جهات مسؤولة محلية ومركزية ، حكومية أو أهلية أو إجتماعية ، ويامن وفّق اهل الخير للخير وأعانهم عليه وفقنا للخير وأعنا عليه. فعش حياتك الأبدية سعيد الروح ياسيدي ، وكُن لنا من العافين عن الناس ، يرحمك رب الناس . ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل . · شاعر وإعلامي · من تلاميذ الفقيد ----------------------------------------------------------------------------------- جدة – السبت - بتاريخ 11/6/1432ه - الموافق 14/5/2011م