الحالمون بوطن جديد لا يستعيدون كثيرا من الماضي، إلا للتذكر والمضي صوب الحياة.. الحياة التي لم يعيشوها في بلد تستحق الحياة. الباحثون عن الحرية يفتحون عيونهم بسعة الحلم، لا تقهرهم أساطير الوهم التي يبتكرها أولو الخوف، لا شيء يساوي الحرية أكثر من الحرية. أي وطن يهتريء في تفاصيل مخاوفنا، في حنين شوقنا للتحرر من الأسرية القاتلة، أدمنا البحث عن الحرية، فثرنا مرات ومرات كي لا يقهرنا قاهر، أو يتملكنا جشع، أو يسلبنا فرد حقنا في الحياة. الحرية تكبر فينا كتلك النخلة التي نقلها عبدالرحمن الداخل من دمشق إلى قرطبة.. كبرت نخلة "الداخل"، وامتلأت الأندلس بآلاف النخل، أما نخلة حريتنا فقد نبتت في قديم العصور، وتحررنا من كل الطغاة ولم يبق في أرواحنا متملكٌ أو ناهب وطن. هي بلد لا تجيد الإنصياع، وشعب يولد كل جيل فيه ليصنع ثورة. ربما كان علي عبدالله صالح ثورة ذات يوم، كان ينبغي عليه أن يشعر أنه رجل مرحلة وليس رجلا خالدا.. الأوطان تخلد عشاقها، وليس ملاكها.. هاهي اليمن تمجد رجلا مثل إبراهيم الحمدي لأنه كان عاشق الوطن ومحبا لتفاصيله، بينما لازال التاريخ يلعن قاتلي الحمدي والحكم الإمامي، وربما يجعلهم على حد سواء في جريمة كره الوطن. الوطن عشق أجيال، وتربة تنبت أحلاما كل جيل, جيل اليوم يحلم بأبعد مما تنظر عيون علي عبدالله صالح، وأبعد من طلقات رشاشات الحرس الجمهوري والأمن المركزي.. إنه جيل يحترف التحرر.. يرهق اليأس.. يقتل رعب الطلقة.. ويطلق العنان لثورته الداخلية أن تكتسح كل حواجز القهر. جيل تنبت الآمال بين أنامله كشجرة ورد، كقلم، كآلة.. ليست البندقية ضمن تفاصيل أحلام هذا الجيل، إنهم يسهرون أمام وسائط التكنولوجيا، ويصنعون برامج كسر الحجب والخوف، ويكسرون كل مخاوف التكنولوجيا والبندقية. لم يعد هناك وقت لانتظار بندقية أخرى تسطر التاريخ القادم.. القادم أكثر طموحا من مجرد صحة كصحة "راصع"، وتعليم كتعليم "الجوفي".. وجامعة كجامعة "طميم".. القادم أكثر إبداعا من كل هذا الألم الذي يسمى حياة، في ظل هذا العهد. قد يطول أمر انتظارنا، لكن انتظاراتنا هي انتظارات حرية، لا انتظارات حزن، أو قهر. يقول جمال بن عمر مبعوث الأممالمتحدة إلى اليمن: "حركة الشباب لها مطالب مشروعة، وما سمعته منهم هو تطلع للكرامة والحرية، وتطلع لبناء الدولة المدنية، وهذه كلها أفكار منسجمة مع أعراف الأممالمتحدة المتعلقة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ولا يمكن إلا أن نؤيدها". هذا هو عالم اليوم، عالم لا يستوعب القهر، والتملك.. عالم تسعده الحرية والكرامة. ربما بدا الرجل متألما وهو يتحدث عن ما يدور في اليمن، لكنه ربما يدرك أن هذا الخراب بفعل فساد ماض لا خروج قريب. دولة تنهار بخروج شباب إلى شارع لا يمتد لأكثر من اثنين كيلو متر، لم تقم حرب مسلحة.. ولم يحملوا السلاح، بل تلقوا الرصاص لأنهم صرخوا إن الوطن ليس ملكية أحد. هاهي ساحة التغيير اليوم تسقط دولة باعتصام..أي دولة هذه التي انهارت بالصراخ!!. الصراخ فقط. هي كذبة كبيرة كانت تسمى "دولة"، كذبة صنعت لأكثر من ثلاثين عاما وكنا نعيش على هذه الكذبة التي كنا سنكتشفها اليوم أو غدا. من يتندم اليوم على خروج الشارع، لا يعرف إن السقوط كان سيحصل اليوم أو غدا.. كأنهم لا يؤمنون إن الرئيس مجرد بشر وتاريخ انتهائه قد كتب سلفا، كأنه لن يرحل.. كأنه سيخلد.. وفي كل الأحوال كانت ستكون هذه النتيجة، لأنه لم يبنِ دولة في الأساس. هانحن نبدأ من جديد إذن.. وكما يقول الأستاذ نصر طه مصطفى فإن اليمن بعد ثلث قرن عاد لنفس النقطة التي استلم فيها الرئيس السلطة عام 1978.. وهنا لا بد من قليل من القهر وكثير من الصبر.. كثير من الصبر.