في قلب الظهيرة تختنق المدينة بزحام المارة وأصوات أبواق السيارات المتراكمة في الطرقات وجولات الشوارع .. صوتها الصغير وجد له طريقا في كل هذا الضجيج وهي تصيح بسائق الباص : _ تأخذني إلى مطعم ريتاج قال لها : اطلعي .. تسلق جسدها الصغير الباص محتضنا طفلة رضيعة؛ وجلست على حافة المقعد المتبقي .. انتظرتُ أن يصعد أحد خلفها فقد كانت طفلة لا تتجاوز الخامسة أو السادسة نظرا لحجمها الضئيل وصوتها الطفولي .. لكنها كانت طفلة وحيدة تحمل طفلة رضيعة . تأملت ملامحها الجميلة ونظرتها البالغة قبل الأوان وانحنيت عليها أسألها : أين أمك ؟ فردت وهي تنظف أنفها الدقيق الجميل بأصابعها النحيلة كأعواد الثقاب : في البيت .. _ طيب كم عمرك ؟ ردت : ما أدري . قلت لها : تدرسين ؟ أجابت لا . قلت لها : وأنت لمه تشتي تروحين مطعم ريتاج ؟!! أجابت : أسأل عشرة ريال .. ملأت حلقي الغصة؛ طفلة بهذا العمر تحمل طفلة أخرى يمكن أن تدهسها السيارات دون أن يلاحظ مرورها أحد .. يمكن أن يدهسها المارة في هذا الزحام؛ يمكن أن يحدث لها أي شيء؛ يمكن أن تسقط أختها الرضيعة من حضنها الصغير !! كل هذا من أجل أن تتسول عشرة ريال .. اندفع الباص مسرعا فجأة ما أن خف أمامه الزحام وعلى أثره اندفع جسدا الطفلتين وسقطتا على أرضية الباص بقوة كادتا معه أن تقفزا خارج الباص لولا شخص في المقدمة صد اندفاعهما .. صرخ كل من في الباص يا الله . وصاح سائق الباص : هيا من هذا نعمل خير ترجع مصيبة .. عادت الصغيرة إلى المقعد بعد أن حملتها الأيدي وهي ترتجف حرجا أو خوفا وهي تحادث أختها الباكية هامسة : سنرجع البيت . هذه الطفلة ملمح من معاناة آلاف الأطفال الذين دفع بهم لطلب الرزق بأي طريقة ممكنة . الأرصفة تمتلئ بهم؛ ماسحي سيارات؛ بائعي مناديل ورقية وبضائع رخيصة . عشرات المتسولين تزدحم بهم أرصفة مدينة إب ليس من فئة المهمشين فقط؛ لقد أصبح التسول طريقا يسلكه الكثير . لو كانت المدن تتحدث فإن لغتها الوجع .. تمتلئ أحشائها بقصص الأسى والألم .. يضيق قلبها بقصص الجوع والنزوح والقتل والحرب التي لا تنتهي ..