أثارت المحاكمة العلنية للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ردود أفعال واسعة، وتباينت وجهات النظر والمواقف منها، ما بين مؤيد ورافض للمحاكمة، فالمؤيدون يرون أن مبارك يستحق ذلك ليكون عبرة لكل من تسول لهم أنفسهم العبث بمقدرات شعوبهم واضطهادها، واحتكار السلطة والثروة في إطار العائلة الواحدة والشلة المقربة التي تمثل دور "ماسحي الأحذية" و"المنافقين" في بلاط الحكام والسلاطين. فيما المعارضون، وهم قلة، يرون أن هذه المحاكمة لا تليق برجل عاجز ومريض وكبير في السن، وموقف هؤلاء نابع من موقف إنساني، كون الحالة التي ظهر بها مبارك تثير الشفقة، ويرون أن العفو عنه في هذه الحالة يجسد التسامح والعفو عند المقدرة، وأنه يكفي الرجل أنه تخلى عن الحكم بسرعة ولم يواجه ثورة شعبه بالطريقة التي واجه بها القذافي أو الأسد أو صالح ثورات شعوبهم، ورفض مغادرة مصر وقرر البقاء فيها، رغم أنه كان قادراً على الهروب منها والعيش في أفضل المنتجعات في أوروبا أو أمريكا أو حتى جدة. وفي كل الأحوال، فإن محاكمة مبارك، والطريقة التي ظهر بها (الأربعاء 3 أغسطس الجاري)، تعد نهاية طبيعية لديكتاتور اشتهر بنظامه الأمني القمعي المغلف بقانون الطوارئ. ففي عهده، امتلأت السجون بالمعارضين لنظام حكمه، وعلى رأسهم قيادات بارزة في جماعة الإخوان المسلمين، وتمت محاكمة عدد منهم في المحاكم العسكرية، وأغلب هذه المحاكمات كانت بتهم ساذجة، مثل الانتماء إلى جماعة محظورة، والمقصود طبعاً جماعة "الإخوان المسلمين". ولعل الجميع يتذكر أيضاً الطريقة التي اعتقل بها زعيم حزب الغد "أيمن نور"، ومن ثم إيداعه السجن، وذلك لأنه تجرأ على منافسة حسني مبارك في انتخابات 2005م الرئاسية، فمبارك لا يريد أحداً أن ينافسه في الانتخابات، حفاظاً على نزاهة الانتخابات من التزوير، فهو يريد فقط أن ينافس نفسه بنفسه، من أجل أن تبقى ديمقراطية مبارك رائدة في المنطقة. واليوم، هاهو مبارك يقبع خلف القضبان، ويشاهد محاكمته كل العالم، وهو الذي ملأ السجون وكمم الأفواه، أليس الجزاء من جنس العمل؟ إن محاكمة مبارك العلنية حدث تاريخي هام وبكل المقاييس، فلأول مرة، منذ عهد الفراعنة، يمثل زعيم مصري أمام المحكمة بتهم مختلفة، كما أنه لأول مرة يمثل زعيم عربي أمام المحكمة، ويحاكمه شعبه، باستثناء محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لكن محاكمة صدام تختلف عن محاكمة مبارك، لأن المحكمة التي نصبت لمحاكمة صدام حسين كانت تحمل بعداً أمريكياً وآخر إيرانياً عبر شيعة العراق. ويمكن القول إن الجرائم التي ارتكبتها أمريكا وإيران عبر ذراعها في العراق (الطائفة الشيعية) بعد الاحتلال أفظع من الجرائم التي ارتكبها صدام حسين نفسه، ولذلك فمن العدالة محاكمتهم كما تمت محاكمة صدام حسين وإعدامه. أما محاكمة حسني مبارك، فإنها جاءت تلبية لمطالب الشعب المصري، على خلفية تهم وجهت له تتعلق بالقتل العمد وعن سبق إصرار للمتظاهرين العزل في ميدان التحرير، وتهم أخرى تتعلق بالفساد المالي وبيع الغاز لإسرائيل، وغير ذلك. فالشعب المصري من حقه أن يحاكم حسني مبارك ورموز نظامه على الفساد واحتكار الثروة وسوء الإدارة، ما أدى إلى انحدار مصر إلى مستويات وأوضاع متدنية على كافة الأصعدة، بدءا من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وانهيار المستوى الاقتصادي واتساع دائرة الفقر، ومرورا بالتلاعب بإرادة الشعب في الانتخابات والاستفتاء، إلى تدهور مختلف الخدمات العامة كالتعليم والصحة والبيئة، وانتهاء بفقدان مصر لمكانتها العربية والدولية، وتحولها إلى دولة هامشية تعمل على حماية أمن واستقرار إسرائيل، وحراسة المصالح الأمريكية في المنطقة. ورغم نفي مبارك لكل التهم الموجه له، فإن ذلك لا يعني نهاية المطاف، فجرائمه موثقة، وخاصة قتله المئات من المواطنين المصريين الأبرياء، الذين كان ذنبهم الوحيد هو الخروج إلى ميادين مصر وشوارعها للتظاهر ضده والمطالبة برحيله ورحيل رموز نظامه الفاسد ومحاكمتهم، وعلى مبارك أن يواجه في ساحة العدالة أدلة الاتهام التي سوف توجه إليه وأن يواجه حكم القانون ولا شيء غيره. وفي الحقيقة، فلقد سبق وأن شهد العالم محاكمات كثيرة لرؤساء سابقين، لعل أبرزها وأهمها، محاكمة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، والرئيس العراقي السابق صدام حسين، والرئيس الروماني الأسبق تشاوشيسكو. فالرئيس اليوغوسلافي السابق، ميلوسوفيتش، تمت محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، التي أنشأتها الأممالمتحدة في مايو 1993م، على غرار محكمتي نورمبرج وطوكيو اللتين سبق أن شكلهما الحلفاء بعد هزيمة ألمانيا واليابان عقب الحرب الثانية عام 1945م، لمحاكمة المسئولين الألمان واليابانيين الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. والرئيس العراقي السابق صدام حسين، تمت محاكمته أمام المحكمة الجنائية المختصة في العراق، بتهم انتهاك حقوق الإنسان التي وجهت إليه بسبب ما تعرضت له بلدة "الدجيل" العراقية عام 1982م من قمع وانتهاك لحقوق الإنسان بعد تعرض موكب صدام حسين أثناء مروره بتلك البلدة لمحاولة اغتيال فاشلة، نظمت في حينها من قبل "حزب الدعوة". أما الرئيس الروماني الأسبق، تشاوشيسكو، فقد كانت محاكمته سريعة، إذ حكم عليه بالإعدام وزوجته إيلينا، بعد أن ثار الشعب الروماني ضده، على خلفية أوامره للشرطة بإطلاق النار على متظاهرين ضده في بلدة تيميسوارا، في 22 ديسمبر 1989م، وبسبب إطلاق النار على المتظاهرين، ثار الشعب الروماني ضد تشاوشيسكو، وأيده الجيش، فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام مع زوجته إيلينا، ونُفذ الحكم بتاريخ 25 ديسمبر 1989م، في بوخارست، حيث أطلق عليهما الرصاص الحي عندما حاول الهروب هو وزوجته من ساحة الإعدام. والملاحظ أن محاكمة كل من ميلوسوفيتش وصدام حسين متشابهتان إلى حد ما، ذلك أنهما كانتا تحملان بعدا دوليا، كان هو السبب في حسمهما، فمحاكمة صدام حسين تمت أمام محكمة تشكلت بقرار من "مجلس الحكم" في العراق الذي كان تحت هيمنة "سلطة الائتلاف" الموحدة وحاكمها "بول بريمر"، وكان العراق في ذلك الوقت دولة محتلة حسب تعريف الأممالمتحدة للحالة في العراق. أما محاكمة ميلوسوفيتش فكانت دولية صريحة بحكم أساس وطبيعة تكوينها ذاته. والقاسم المشترك بين مبارك وتشاوشيسكو هو قتل المتظاهرين سلمياً، واتسام نظام حكمهما بسياسة عسكرية وبوليسية، وتكميم الأفواه وفرض الرقابة على حرية الإعلام، وهي قواسم يشترك فيها معظم الزعماء العرب إن لم يكن كلهم. غير أن الذي يميز تشاوشيسكو عن الزعماء العرب، أنه خلال مدة حكمه ازدهر الاقتصاد الروماني والزراعة والعمران، حتى صارت رومانية تنتج 14مليون طن من النفط في العام، وصار يُكَرر داخلياً بدلاً من إرساله إلى المصافي السوفييتية والألمانية الشرقية لتكريره، وحققت الاكتفاء الذاتي في الصناعة، وكانت مبادلاتها التجارية تشمل أيضاً دول الكتلة الغربية، وهو ما لم يحدث في الجملكيات العربية، التي يعاني أبناؤها الفقر والعوز والحرمان، فيما أموال وثروات الشعوب تستأثر بها العائلات الحاكمة و "أهل النفاق" من حولها.