لم تلق لغة من الجحود والنكران على يد أبنائها ما لقيته اللغة العربية في العصر الحديث، فما انفكت معاول الهدم الداخلي تضرب فيها ليل نهار، ولولا أن الله عز وجل هيأ لها من الخصائص ما يجعلها عصية عن التغييب والتهميش لكانت اليوم غريبة الوجه واليد واللسان في ديارها وبين ظهراني أهلها. عندما دعا عدد من الأدباء العرب في منتصف القرن الفائت إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني كخطوة تدميرية لها ما بعدها، ونادى آخرون إلى إعلاء شأن اللهجات العامية على حساب الفصحى ثار عدد من الأدباء الغيورين على هذه الدعوات وسفهوا أفكارها، وواجهوها بصرامة جعلت منها أضحوكة وقتها، وكان لهذه المعركة إضافة للدفاع عن حياض اللغة ثمار أخرى إيجابية، فقد ألف مصطفى صادق الرافعي كتابه الشهير تحت راية القرآن وتداعى عشرات من المفكرين والأدباء للدفاع عن لغة البيان فكتبوا قصائد ونصوصا كثيرة لو جمعت لكانت في مجلدات ضخمة. وذهب الأشقياء إلى مزبلة التاريخ. ولم يكد ينجلي غبار هذه المعركة عن انتصار كاسح للفصحى ، حتى انبرى أشقياء آخرون حملوا عنهم ذات الراية: راية الهدم والتخريب، فبدؤوا من حيث انتهى أسلافهم في تعميم العاميات في مختلف وسائل الإعلام، وخاصة المرئية والمسموعة، وساعدهم على تنفيذ فكرتهم الخبيثة ثورة الفضائيات وكثرتها، وصارت اللهجات متسيدة على الخطاب الإعلامي في برامج هذه القنوات حتى تلك البرامج الدينية على قلتها وسطحيتها. وفي المقابل فإن الدور المناط بالمؤسسة التعليمية قد شهد تراجعا مفجعا، فأصبحت مخرجات التعليم اللغوي يندى لها الجبين، وفي هذا المحيط المحبط بدا واضحا أن مرحلة عصيبة ستعيشها لغة الضاد تظهر نذرها في كل وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتكاثر الأخطاء وتسطّح الأفكار، وتتسلل المفردات الأجنبية والتعابير العامية إلى صلب هذا الخطاب في أساليب فجة تنبؤ عن أمية لغوية ضاربة. وبعد هذا كله يأتي العالم ليجعل من الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا للغة العربي في هزلية مبكية تحتفي بالضاد يوما ثم تستبعدها سائر العام لتصبح في كل قطر من الأقطار العربية تالية مسبوقة باللهجات، استبعدت عن دوائر الاهتمام الرسمي والشعبي ونساها القوم إلا نخب قليلة من المثقفين والكتاب والأدباء. إن انطفاء لغة الضاد أمر مستحيل لارتباطها بدين الله الخالد، غير أن ما يحز في النفس هو هذا التهاوي اللغوي والعي البياني الذي يمارسه أبناؤها ممن كان يفترض فيهم الاعتداد بها والسير تحت رايتها. ولا شك أن القرآن الكريم هو السياج الجامع المانع لهذه اللغة التي شرفها الله باختيارها وعاء لهذا القرآن، وإذا كان ثمة من يلتقي بلغة الضاد يوما في العام فإن الملايين في أرجاء المعمورة يلتقون بها في اليوم الواحد خمس مرات على أقل تقدير، ولن تموت لغة تحتفي بها السماء، ولن يفت في عضدها تآمر حاقد ولا خذلان قريب ما جلجل في الآفاق قول الله الحق:{وإنّا له لحافِظون}.