يسعى عالم اليوم بمزاجيته المادية الفجة إلى اختزال كثير من مظاهر الحياة الفكرية والإنسانية، وتحويلها من سلوك إنساني متصف بالديمومة والاستمرار إلى مجرد مناسبة يتأتى لها أن تعيش من العام كاملا بطوله وعرضه اثنتا عشرة ساعة فقط، ثم تُلقى بعده في أدراج النسيان. في هذا الإطار على وجه التحديد يأتي اليوم العالمي للغة العربية، ليمثل مناسبة احتفائية، يدبِّج فيها الأدباء والشعراء الكثير والكثير من فنون القول، وتسعى بعض الجهات الرسمية في عمل احتفالات باهتة أشبه بخيمة العزاء، يترحمون فيها على اللغة العربية، ويحصون خيباتها، ويذكرون محاسنها، ثم يهيلون عليها تراب الجحود، حتى تعود ذات المناسبة في عام قادم.
لقد أصبحت اللغة بهذا المفهوم أشبه بنصب تذكاري، لا يجد الواقف أمامه –وإن قدّم له باقات وباقات من أندى الزهور- غير معاني البلى، ودلالات القدم، لأنه يختزل ذكرى من مضوا إلى عالم لا رجعة فيه.. عالم الموت.
إن محنة الضاد اليوم أكبر من أن تزيلها مثل هذه الطقوس الديكورية.. إنها أزمة وجود في عالم تسعى فيه مختلف الأقطاب إلى إثبات ذاتها وبشتى الطرق والوسائل.. وأولها بطبيعة الحال مجال اللغة بمفرداتها الفكرية والأدبية، غير أن العربية لم تجد اليوم في زحمة هذا العالم المتحضّر غير يوم يتيم شارد تستظل فيه بخيمة الحضارة، ثم تذهب بعد ذلك إلى قفار التشرد، حيث تعاني ليس فقط النسيان والتجاهل، بل والإقصاء والتهميش، ومحاولة طمسها من ذاكرة أجيال، لأنها تمثِّل نقطة الارتكاز في مسألة الهوية التي يُراد لها أن تمّحي، وأن تصبح جدثا باليا، مكتوب على شاهده (اليوم العالمي للغة العربية).
لقد استبعدت اللغة من منابر كثيرة، منها منبر التعليم في مراحله المختلفة، حيث أصبح التعليم النظامي يعاني عوزا لغويا مدقعا، وليس أدل على ذلك من تلك المخرجات التعيسة، المتمثلة بطلاب لا يفرقون بين الهاء والتاء المربوطة، ولا بين الظاء والضاد، ثم يأتي أحدهم ليكتب (العلمُ نورن) مؤكدا على أهمية العلم!!.
ولا يختلف الأمر كثيرا في مجال التعليم الجامعي، بل إن الصورة لتزداد قتامة حين نعرف أن اللغة العربية منفية تماما من معظم الكليات العلمية في جامعات الوطن العربي.. ثم تأتي هذه الجامعات بعد ذلك لتحتفل بهذا اليوم الأعرج وسط لفيف من أوراق العمل الكسيحة والبحوث المشلولة.
أما مجال الإعلام – سواء المسموع أو المرئي- فقد أصبحت الفصحى فيه غريبة الوجه واليد واللسان، وتنامت اللهجات بشكل لافت، وإن يكن ذلك عجيبا فإن الأشد عجبا أن تجد برامج دينية تقدّم باللهجات المحلية.. حتى في اليوم العالمي للعربية.
غير أنَّ هذا الكرنفال المفزع ليس كل شيء في حاضر العربية.. إنه فقط ترجّيات يطرحها المهزومون في سياق الانبهار بالآخر، أما حقيقة حال العربية فهو حياة حافلة بالعطاء والنماء حتى وأن زمجرت العواصف وغطت الثلوج وجه المعمورة. ولو أن حياة العربية مرهونة بمثل هذه البهارج التي يصنعها المتعثّرون لأصبحت نسيا منسيا ليس اليوم، وإنما منذ نصف قرن حين تنادى ثلة من الأشقياء إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني وانبعثوا لإحياء اللهجات العامية، فذهبت أفكارهم القميئة أدراج الرياح، وبقيت العربية لسانا صادحا، ومنارا شامخا.
ومن بداهة القول أن حياة العربية أصبحت مكفولة مضمونة، لا بحفلات الزار هذه، وإنما لأنها الوعاء الذي احتضن القرآن الكريم: كلام الله الخالد، ولأنها روح أهم العبادات وهي الصلاة، ومن ثم فإنه يمكن القول أن أكثر من اثنين مليار شخص يحتفون باللغة العربية لا على مدار اليوم وإنما على مدار الساعات، وتلك هي الضمانة الحقيقية لبقاء الضاد واستمراريتها، ويأتي بعد ذلك دور الغيورين على هذه الشعلة المقدسة من علماء وأدباء وإعلاميين في نشرها وتعليمها، واستجلاء مباهجها وجمالياتها، وإنها لباقية حتى قيام الساعة.
محنة العربية اليوم لا تمس جوهرها اللغوي؛ فهي حية متجددة، وقادرة على احتواء كل جديد في المجالات الفكرية والعلمية، لكنَّ محنتها اليوم جغرافية، تعود إلى الأوضاع المقيتة التي نعرفها، والتي انعكست في مجمل مظاهر الهوية، ووضعت المسلم موضع مسلوب الإرادة، المعتدى عليه، والذي تعتور جسده شتى ألوان الأوجاع والأسقام لكنَّ روحه رغم هذا الوضع المزري وثّابة منطلقة، تستبشر بغد أجمل، وتستمد بقاءها من عزيز باق.