في البلد المقصوف بأعتى النيران ولدت، وفي البلد التي يعبث تعبث بها الرتب الأقل أناقة عشت، وفي المدينة التي تبكي قتلاها عرفت أول معالم المدنية.. هنا حيث الجدران المتساقطة قصفاً كان لنا قصة مع أساطير الإمامة، ورعب الإمام. حين كان والدي يشرح لي في المتحف وأنا في الصف الثالث الابتدائي أين كان يعدم الإمام الثوار وأين كان يسجنهم كنت أتخيل ذلك الغول المتوحش، وتجسدت تلك الصورة المعلقة في أحد جدران المتحف والعينين الحمراوين المتوحشتين للإمام أحمد، لترتسم في الذاكرة أبشع صورة في خيالي البسيط. كبرت تلك الصورة معي، ولم أحاول أو أتمكن من كسر بروازها كي لا أضع مكانها صورة أكثر بشاعة لأني لم أجتهد كثيراً وأصنع خيالاً أكثر وحشية. لم يأت في خاطري أن أحداً سيخرق حجب الخيال بوحشية أكثر من صورة الإمام تلك، لم يأت في البال أن تعز ستعرف صوت المدافع غير مدفع الإفطار. هاهي تعز تبكي دماً اليوم، وهاهو برواز الإمام أحمد يتحطم لتنهار الصورة التي أصبحت أقل وحشية، في ظل تواجد وحوش أكثر ضراوة من كل ماعرفته اليمن في تاريخها السابق. - في تعز يذكر الناس يد أحد اللصوص قطعت أيام الحمدي وعلقت في الباب الكبير، وكانت رسالة من الحمدي لكل يد أخرى، أما اليوم فلم يبق في تعز سوى الأيدي الملطخة بالدم والموت والخراب. - في تعز يذكر الناس ثانوية تعز الكبرى التي أنجبت عمالقة توزعوا على شتى مناحي الحياة في الداخل والخارج؛ واليوم لاشيء سوى مدرسة القصف ومدرسة الدمار ومدرسة تعز الكبرى لسحق الكرامة. - في تعز يترك الناس طفولتهم ويغادرون قراهم باكراً كي ينجحوا، لأن التعزي يجيد العناء ويجيد النجاح، ويجيد كل فنون الشقاء والسعادة معاً، أما اليوم فيعود التعزي هارباً من كل مكان ليستقبله الدم في شوارع المدينة اليتيمة من كل شيء إلا من الحزن. - في تعز، يذكر الناس ميناء المخا الذي سمع به العالم وأصبح (كوفي موكا) أغلى أصناف القهوة في سلسلة مقاهي (ستار بوكس) عبر العالم، أما المخا ذاتها فلم يعد فيها سوى بقايا ميناء وبقايا مدينة. - في تعز يبكي الموت حزناً على ساحة كانت تنبض بالفكر والحب والحرية، فاختار لها صناع الموت أبشع صور السحق، وأشنع طرق الإبادة. - في تعز يجيد الناس الحياة، فيخرجون بعد كل قصف ليعلنوا لعبدة الأشخاص أن الحياة حق لتعز، وحق لليمن، وحق للحرية. - في تعز يحتفي الناس بالدمع بلا خوف، يحتفون بالقهر بلا يأس، يحتفون بالانتظارات، ويحتفون بالأمل كاحتفائهم بالنصر.. هم مقهورين كالعادة، لكنهم كالعادة لاييأسون أيضاً. - في تعز تولد الكلمات والطعنات، ويستقر القتلة والشعراء، ويرقص اللصوص والفنانون، ويبكي الجلاد والثكلى.. هنا حيث الأماكن كلها تنتظر الخلاص ينام الجائعون والصعاليك والسفلة.. هنا يتصارع الحاقدون على كعكة لن يجدوا من عسلها إلا الوهم، لأن تعز للناس وليس للسلطان، ولأنها موطن المحبة فهي لاتأبه للخراب الذي يصنعه الطغاة، وتفيق تنفض الغبار عنها لأنها تجيد الإبتسام كما تجيد البكاء.
لتعز نكهة المشاقر والبارود، وعبق الحرية والدمار، هنا تنام الشهيدات والصغار على سفوح الأحلام اليتيمة، هنا تقتل النساء في ساحة الصلاة، ويسجد الأطفال سجداتهم الأولى، ويرجع الرجال ركعاتهم الأخيرة. - في تعز، تقف الحرية تحت شجرة القدر، وتبتسم للقتلة، صانعة أسطورة نصر لا يموت.