كنت يومها قد غادرت القرية و المعلامة إلى مدينة عدن - حين رأيت لأول مرة مظاهرة طلابية بشأن فلسطين تخرج من مدرسة قريبة من مدرستنا التي خرجت هي الأخرى، وسمعت أيضا لأول مرة كلمة :" عائدون" و جموع الطلاب تهتف بها و ترددها بقوة و حماس! و لم أكن أدرك حينها ماذا تعني( عائدون) . كان ذلك يوم 5 من حزيران 1967م. و حين رجعت من المدرسة وجدت عمي - شقيق أبي الذي تولى أمر تربيتي، إذ مات أبي بعد ولادتي بعام تقريبا - و حوله الكثير من الناس متحلقين حول الراديو، الذي كان صوته يأتي هادرا : صوت العرب من القاهرة . هذا الصوت، وموسيقاه التي كانت ترافقه كنا ننام عليه، ونذهب إلى مدارسنا به، فنسمع هذا الصوت مقدِّما الأخبار بما كان يسميه : العرض الأول لكفاح العرب اليوم! هذا في الصباح الباكر، ونأوي إلى فرشن على الصوت نفسه مساء : العرض الرابع أو الخامس ( لم أعد متأكدا من الرقم) لكفاح العرب اليوم ! المهم عدت من المدرسة و الصوت يأتي هادرا، و الحضور منتشين مما يسمعونه من أخبار الحرب و انتثاراتها، وعن أعداد الطائرات الصهيونية التي تتساقط تباعا، بحسب البلاغات العسكرية التي كانت تتوالى. و عرفت يومها أن حربا يخوضها العرب ضد اليهود. لم تدم تلك المعركة سوى ستة أيام؛ لتكشف عن مأساة مروعة، حيث عرف الجميع في نهايتها مدى الخسارة العسكرية المرة التي مُني العرب بها، للأسف. كما عرف الجميع مدى التأييد الاستعماري الكبير و ضخامة دعمه للكيان الصهيوني. سمى البعض تلك الحرب بحرب الأيام الستة، فيما تلطف الإعلام العربي بتسميتها : نكسة حزيران 67م، و قيل أن الملك حسين نشر حولها كتابا بعنوان : حربي مع إسرائيل، قبل أن يعدل العنوان إلى : حربنا مع إسرائيل. لم تكن نتائج المعركة تخطر على بال أحد، و حتى الصهاينة ما كانت أحلامهم إطلاقا تحلم بتلك النتيجة التي نالوها في عدوانهم المدعوم من كل قوى الاستعمار.
أما العرب فقد حاربوا - يومها - بما اختصره الشاعر الكبير عبدالله البردوني ببعض أبيات من قصيدته العصماء التي ألقاها في ملتقى المربد الشعري ببغداد، بعنوان " أبو تمام وعروبة اليوم" :
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجال فماتوا ثَم أو هربوا
حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا وإن تصدى له المستعمر انسحبوا
هم يفرشون لعين الغزو أعينهم و يدّعون وثوبا قبل أن يثبوا
القاتلون نبوغ الشعب ترضية للمعتدين و ما أجدتهم القُرَب
لكن الشعب الفلسطيني البطل يُغَيّر الصورة اليوم، فيصمد أمام وجه الآلة العسكرية الضخمة للكيان الصهيوني ، التي ماتزال تلك القوى الاستعمارية تدعمه وتسانده، و الشيئ المختلف دوليا، أن الشعوب الغربية لم تعد أسيرة التأثير الإعلامي الصهيوني بالمطلق كما كانت في تلك الأيام، بل صارت هناك أصوات تندد بجرائم الحرب الصهيونية، و تخرج المظاهرات ضدها. مافعله الشعب الفلسطيني اليوم و بالأمس هو ذلك الصمود الأسطورى، وطوال مدة إحدى عشرة يوما، لم تصمد فقط؛ و إنما أجبرت معظم سكان المستوطنين الصهاينة على أن يعيشوا في الملاجئ خوفا و فزعا من صواريخ المقاومة الفلسطينية التي كان يسميها ( بعض ) العرب صواريخ عبثية، إذ تطولهم تلك الصواريخ إلى كل المدن التي استوطنوها بعدوان ظاهر . و بالأمس القريب سنة 2014 استمرت المواجهة البطولية للشعب الفلسطيني إحدى و خمسين يوما، و في وسط تلك الأيام، و مع شدة المواجهات أعلن الكيان الصهيوني عن فقدانه لما يزيد عن 60% من عتاده و يعلن لشركات النقل البحرية العالمية عن حاجته لنقل متطلباته العسكرية من حليفته المتماهية معه الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد تغير في العرب - ممثَّلين بفلسطين المقاومة - شيئا جذريا، و هو التغيُّر الذي يعيشه معه الشعب العربي كله، و الذي لا شك في أن هذا التغيّر و التغيير يتنامى إلى أن يصل للأمة ككل؛ أفرادا، و مجتمعات، و شعوبا، وحكومات، وهذا التغيير سيكون حتما لا ظنا؛ لأن التغيير سنة من سنن الحياة، و ما جرى و يجري في فلسطين من تحول جذري في مقاومة الكيان الصهيوني، و هو الأمر الذي تؤيده الوقائع والمعارك، فإنما يمثل حال الأمة التي تتهيئ لهذا التحول، و الذي سيلد مع فجر قادم. يَحزّ في النفس كثيرا، أن بعض العرب أتاح فرصة ثمينة للنظام الإيراني في أن يتسلق على تاريخ جهاد الشعوب العربية في دعم القضية الفلسطينية طوال عقود من الزمن؛ وذلك أن أولئك البعض من العرب عصفت بهم حسابات خاطئة للتخلي عن واجبهم تجاه قضية العرب الأولى ؛ ليختلس الفرصة نظام الملالي في إيران !!