كثيرة هي الفواجع التي نغص بها، وتنهال علينا من كل صوب وحدب، حتى لكأن الجهات الأربع فتحت علينا أبواب الجحيم، وصارت فوهات مشتعلة لإطلاق حمم الموت وقذائف الهلاك.. في هذه الأجواء المحبطة، وعيوننا تحدق في الأفق باحثين عن بقايا فرحة يأتي بها عيد مشرد فقد عينيه وقدميه.. في هذه الأجواء يأتينا الخبر الصاعقة بموت عالم اليمن الأكبر محمد بن إسماعيل العمراني رحمه الله. وبموت هذا العالم الرباني تكون بلادنا قد ودعت آخر القمم العلمية، وطوت سِفرا ناصعا مضيئا، وخسرت خسارة دونها سائر الخسارات.. خسارة لن تجد لها عوضا ولا بمئة عام قادم، وخاصة في هذه الظروف المزلزلة التي تعصف بمشارق الأهلّة، وتشنق مطالع الشموس، ويقهقه فيها الشيطان قهقهة تملأ الأرجاء.. الأرجاء المكتظة بالدماء والأشلاء للإخوة الأعداء. وعندما نقول أن خسارة اليمن عظيمة برحيل عالمها العلم فإننا نعني ذلك حقيقة لا تهويمات أوحت بها مرارة الفقد وأوجاع الفراق، ذلك أن العمراني عليه سحائب الرحمة مثل بسعة علمه وغزارة عطائه امتدادا للمدرسة الاجتهادية اليمنية، التي أغدقت على الساحة العلمية الإسلامية عبر قرون متطاولة وابلا من الفكر والإبداع، تميّز بالوفرة كما وكيفا، وبالوسطية والاعتدال، والاحتكام لصحيح الأدلة، من خلال مدرسة عظيمة حمل رايتها العلمية جيلا بعد جيل علماء جهايذة، منهم عبدالرزاق الصنعاني وطاووس اليماني وصالح المقبلي ومحمد بن إبراهيم الوزير ومحمد الأمير ومحمد الشوكاني وكان رابع المحمدين هذا العلم الشامخ والصرح الباذخ، الذي يرحل عنا اليوم، ونحن في شديد الحاجة إليه. لقد فقدنا برحيله ذلك النهر الزاخر، والروض العاطر، وذلك الفقيه المدرك لتفاصيل الواقع ومستجداته، وذلك المعلم الفاضل والمربي الصبور الذي يحدب على طلابه ومريديه عطفا وحبا وحرصا وحنانا، وفقدنا فيه تلك الروح المرحة والابتسامة الوقورة، والعفوية الصادقة التي جمعت إلى عظمة العالم الرباني بساطة الإنسان وجمال الإنسانية. ولد الفقيد رحمه الله في مدينة صنعاء عام 1921، وفيها نشأ وتلقى علومة عن جمع وافر من العلماء، وإجيز من أكثر من خمسين عالما، ثم عمل في الإفتاء والتدريس، حيث عمل محاضرا للفقه وأصوله ولعلوم أخرى في كثير من الجامعات اليمنية والمعاهد المتخصصة، وعرفته وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية المختلفة في مجال الفتوى لما يزيد عن نصف قرن من الزمن، حيث تميزت فتاويه بقوة الدليل، ومعرفة الواقع، ومراعاة المصلحة تبسيطا وتسهيلا. أفنى جل عمره بالإصلاح بين الناس وبالتدريس، فقد كان يرى أن تدريس العلم هو الوسيلة الأكثر جدوى لإحيائه ونشره، وأعطى ما فضل من وقته للتأليف، فصدر له عدد قليل من المؤلفات، منها: الزيدية في اليمن، ونظام القضاء في الإسلام، وجمع أحد طلابه قدرا كبيرا من فتاويه الفقهية، ثم صدرت في كتاب اسمه نيل الأماني من فتاوى الشيخ العمراني، كما جُمِع عدد من مقالات، وطبعت في كتاب روائع الشيخ العمراني، وله إلى ذلك بحوث علمية منشورة في عدد من المجلات العلمية والدعوية المتخصصة داخل اليمن وخارجها. رحم الله الشيخ العمراني، وعزاؤنا فيه رغم مرارة الفراق أن السماء أحق به، وأن الأرض التي ثملت شرا لم تعد أهلا للنفوس المطمئنة، ولا مستراحا للقلوب الفياضة بالمحبة والنور.