تلميذك الحزين / الحسين بن أحمد السراجي: مفتتح هذا الأسبوع فجعت الأمة الإسلامية برحيل قطب من أقطابها وعلم من أعلامها , إنه العالم الجليل والمحقق الكبير السيد العلامة / محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل الكبسي صاحب الصدر الواسع والأفق الرحيب حيث جميع المسلمين من كل أطيافهم ومذاهبهم وتوجهاتهم . سيدي العلامة العابد الزاهد الورع التقي محمد بن أحمد الكبسي عرفته في الجامع الكبير بصنعاء مواظباً على التعليم بعزيمة وصبر وجَلَدٍ عزَّ نظيرها في أقرانه مقارنة بعمره وبُعد سكنه , وقبلها عرفته في برنامج فتاوى الذي ما كنت أستعذبه كما هو منه نظراً لسعة علمه وعمق معلوماته وبُعد نظره . مكث طوال السنوات الماضية وقد تجاوز الثمانين من العمر ودنا من التسعين يواظب على التدريس في الجامع الكبير حتى ما قبل الظهر , يقبع مسكنه في هائل ومنه يغادر مشياً على قدمه حتى يصل الجامع كذلك تكون العودة , وعلى تلك الحالة حتى قبل فترة قليلة وقد أخذ الضعف منه مأخذه صار يستخدم المواصلات كما بقية خلق الله طلباً للأجر والثواب كما قال . درست لديه في حلقات الجامع الكبير , كما درست لديه رفقة زميلي العلامة عبدالفتاح الكبسي في منزله بهائل بعد العصر إلى ما قبل المغرب , دروس هي من أروع الدروس التي تلقيتها في صنعاء , مجالس غاية في الروعة لا تُمل , بشيخ فريد ومتميز في طرح مادته وتأليف طلابه ودماثة أخلاقه وكأنه فاكهة خريف يتلذذ بقطفها طالِبُه ومُجالِسُهُ , تشعر في حضرته بالراحة والإنسجام والألفة فما يتمتع به من أريحية وفكاهة وحلم وأناة تجعلك في عالم آخر , عالم كله حب وسعادة ووئام , وحين تستمع إليه تجده وقد شدَّك بل أجبرك على الإنصات لتستمع درر الحديث وكأنك في حديقة غنَّاء . في نهاية الدراسة لديه منحني - قدَّس الله روحه - وزميلي عبدالفتاح الإجازة العلمية كما هي عادة العلماء مع طلابهم حفاظاً على السند , وهي تقوم مقام الشهادة بأن صاحبها أصبح فقيهاً ونصها : " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ثبت شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة 1250ه على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله , وأنا العبد الفقير إلى الله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل الكبسي أروي ما في هذا الثبت عن شيخي ووالدي وصنو أبي السيد العلامة محمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل بطريق القراءة في بعضها والإجازة فيما بقي وهو يرويه عن شيخه القاضي العلامة حسين بن علي العمري وهو يرويه عن شيخه السيد العلامة محمد محمد بن إسماعيل الكبسي عن المؤلف شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جناته . وقد أجزت الولد العلامة حسين بن أحمد بن قاسم السراجي أن يروي عني ذلك واشترطت عليه ما اشترطه مشائخي من التحري والتثبت عند الرواية وملازمة التقوى ودراسة العلم ونشره وابتغاء وجه الله تعالى وأن لا ينساني من صالح دعائه في الحياة وبعد الممات ونسأل الله له التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله . محمد بن أحمد بن محمد الكبسي التوقيع والختم . " لئن نعيته فإنما أنعي أمة من العلم والزهد والطهارة وأبكي دعائم الجامع الكبير وحلقاته التي ستفتقده , ومناهل الشريعة التي سيغيب عنها وبعد اليوم لن تجده , سأبكي طلاب العلم الشغوفين الذين نهلوا من علومه وارتشفوا الصفاء من معينه . لئن بكيته فإن البكاء عليه أقل ما يستحقه فلم نفتقده نحن وإنما خسارته فادحة للأمة الإسلامية قاطبة ولعلوم الشريعة المطهرة . ذات يوم ونحن في طريقنا من الجامع القريب من منزله الذي كان يصلي فيه سألته وزميلي عبدالفتاح : هل تركتم جمع الصلاة ؟ نقصد الجمع بين صلاتي الظهر والعصر . فأجاب : لقد آن أوان تغليب الفضيلة على الولعة . يقصد تغليب فضيلة حضور جماعة العصر على ولعة تناول القات التي تمثل العامل الرئيسي عند غالب من يستجيزون جمع الصلاتين . سبحان الله .. قليل هم أمثاله الذين ينعم الله عز وجل عليهم بقوة الذاكرة بعد بلوغ الثمانين فقد متَّعه الله تعالى بذاكرة وقَّادة حتى ليتراءى لك وأنت في مجلسه ودرسه أنه راجع الدرس بالأمس وليس من عشرات السنين . لقد جالست الكثير من العلماء في صنعاء وصعدة وحوث وغيرها ونهلت علوم الشريعة من الكثير منهم ولكني ما استعذبت دروساً كما هي دروسه , ولئن ناقشته في الفقه فهو قبطانه , في التفسير آية , في اللغة فارسها , في الأصولين غوَّاصها , في التاريخ قاموسه , وفي الحديث عملاقه , فهو عالم رباني لا يُجارى ومحدث متمكن لا يُبارى قلوبنا تدمع لفقده وألبابنا حيرى لخسارته . يا سيدي : قَد عِشتَ فَذّاً في الرِجالِ فَريداً فَقَضَيتَ فَذَّاً في البِلادِ فَريدا أخيراً : حين نتحدث عن العظماء الذين أعطوا بلدانهم وأمتهم ودينهم عطاءً لا يستطيع أحد مجازاتهم عليه ، ولا نملك سوى الطلب من الله أن يجزيهم خير الجزاء عنا وعن البشرية جمعاء , فالمال والجوائز والأوسمة لا تساوي شيئاً مقابل نتاجهم وخدمتهم , إنهم كثر ممن لا نعرف عنهم أو نسمع بهم ونالوا الجحود والنكران ممن حولهم وأحياناً ممن نهلوا من معينهم وارتشفوا علومهم ثم تنكروا لهم , لربما يكون سيدي المولى الفقيد الراحل واحداً من هؤلاء الذين بُلوا بطلاب تنكروا لهم وأهملوهم وتركوهم وتناسوا فضلهم سهواً أو عمداً , تجاهلاً أو إيذاءً . يحق لي في الخاتمة الإعتراف بأننا – دون استثناء إلا من رحم الله ومن رحم الله أندر من الكبريت الأحمر – لسنا أكثر من شيعة أموات . يا سيدي / في محراب حبك أسأل الله العلي القدير أن يتغمدك بواسع رحمته وأن يرزقنا السير على ما سرت فيه لنكون خير خلف لخير سلف .